فوجئ الوسط السياسي والرسمي بأن الظاهرة التي مثلها إمام مسجد بلال بن رباح في عبرا الشيخ أحمد الأسير الذي لا يزال مصيره مجهولاً في أعقاب الاعتداء الذي قامت به مجموعاته المسلحة على الجيش اللبناني، لم تشغل حيزاً رئيساً في الشارع الصيداوي، على رغم الهالة الإعلامية التي واكبت تحركاته منذ انطلاقه لتصويره وكأنه سيطر على عاصمة الجنوب ولم يعد له من منافس. ومع أن انطلاقة الأسير حظيت بهذا الاهتمام الإعلامي، خصوصاً عندما قدم نفسه بديلاً لتيار «المستقبل» قبل أن يبادر إلى تطوير خطابه في اتجاه سلاح «حزب الله» واضطرار بعض وسائل الإعلام المعروفة الانتماء للترويج له، فإن الشارع الصيداوي لم يبايعه وبقي معظم مكوناته على مسافة منه بعدما أحس بأن هناك من ينفخ في تحركاته على أنه يقود حالة متطرفة تتناغم في إمداداتها مع ما يُسمّى «جبهة النصرة» المناوئة للنظام في سورية. ومن يجُلْ في صيدا ويتقصَّ أحوالها بعد تراجع ظاهرة الأسير، يلاحظ أن هناك من خطّط لاستغلالها لخلق مناخ سياسي وشعبي يؤهلها لتتقاطع مع «جبهة النصرة» في سورية لخدمة النظام فيها الذي نجح إعلامياً في تكبير حجمها العسكري والسياسي للتأثير في موقف المجتمع الدولي المؤيد للمعارضة لعله يعيد النظر في تعاطفه معها. وبدت ظاهرة الأسير في شوارع صيدا كأنها لم تكن، على رغم قدرته على تجييش المشاعر الشعبوية بطروحاته ضد سلاح «حزب الله» ومطالبته بإخراجه من المدينة من دون أن يستطيع عبر كل تحركاته أن يأخذ عاصمة الجنوب إلى ما لا تريده قواها السياسية وعلى رأسها تيار «المستقبل» الذي اتهم من خصومه في قوى 8 بأنه يوفر للأسير الغطاء ويؤمن له الدعم غير المنظور. إلا أن اختفاء الأسير ومن معه من مريديه الأوائل، وعلى رأسهم الفنان المعتزل فضل شاكر، أدى إلى كشف الأوراق وجلاء الحقيقة لجهة تبيان موقف نائب صيدا بهية الحريري المتهمة من خصومها في صيدا وحلفائهم في أكثر من منطقة بأنها كانت وراء تأمين الحماية والغطاء له. وقيل هذا الكلام عن النائب الحريري أثناء احتدام المعركة بين مجموعات الأسير والجيش اللبناني، مع أن البعض في الشارع الصيداوي يؤكد أن من أولويات الأسير تهشيم تيار «المستقبل» قبل أن يدرج على جدول أعماله «حزب الله» كهدف للتصويب عليه. ويؤكد هذا البعض أن الأسير اضطر إلى وقف هجومه على «المستقبل» لشعوره بأن معركته ضده غير مجدية، إضافة إلى أنه رضخ للنصائح بأنه لن يستطيع أن يأسر من في المدينة ويدفعهم إلى تبني تحركاته بدءاً بالاعتصام المديد الذي أقامه وانتهاء بمحاولاته التمدد نحو البقاع والشمال. ويسأل البعض عن المردود السياسي والشعبي للرسائل الصوتية التي بعث بها الأسير فور اختفائه من عبرا بعد اشتداد الخناق عليه، ويقول أين التجاوب مع دعواته للعسكريين من أهل السنّة بالتمرد على أوامر قيادتهم ولأبناء عكار وطرابلس وسائر الشمال والبقاع بالانتفاض تأييداً له؟ وأين صرفت دعوات الأسير للصيداويين إلى الانتفاضة تأييداً له. ويقول إنه على رغم عدم التجاوب مع دعواته، فإن هناك من يصر على إحداث فرز في صيدا بين الاعتدال والتطرف ولا يكفيه الموقف الجريء الذي صدر عن رئيس الحكومة السابق زعيم تيار «المستقبل» سعد الحريري في عز اشتداد المعركة بوقوفه بلا شروط مع الجيش اللبناني ودعوته إلى التمديد لقائده العماد جان قهوجي. ويضيف هؤلاء أن الحريري لم يتردد في تجديد وقوفه إلى جانب الجيش وتصرف كرجل دولة مسؤول تماماً كما تصرف فور مقتل الشيخين في عكار. مع أن بعض المتحمسين من أهل السنّة لم يرق لهم هذا الموقف الذي أدى حتماً إلى تصويب الموقف في صيدا من دون أن يلتفت إلى الاتهامات التي لم تنقطع ضد «المستقبل». ويرى هذا البعض أن الحريري ومعه رئيس كتلة «المستقبل» فؤاد السنيورة والنائب الحريري لم يتصرفوا تحت تأثير الشكاوى والمراجعات التي تسببت بها الاشتباكات في صيدا، ويقول إنهم أخذوا بصدورهم كل هذه التداعيات شعوراً منهم بأن الحاجة القصوى الآن هي لإعادة الحياة الطبيعية إلى صيدا وجوارها وأن لا مجال لاستغلال هذه الشكاوى في وجه الجيش على أن تعالج في الاجتماعات المغلقة. ويؤكد هؤلاء أن ما تفرع من مضاعفات وتداعيات نتيجة الاعتداء على الجيش سيبقى موضع ملاحقة وهذا ما أثير في اجتماعات السنيورة والنائب الحريري مع رئيسَي الجمهورية ميشال سليمان وحكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي والعماد قهوجي وكبار القادة العسكريين المعنيين بالوضع الراهن في صيدا. ويتابعون: كان للرئيس الحريري وقيادات «المستقبل» دور في عدم جر صيدا إلى المجهول وإقحامها في مسلسل من الفلتان الأمني والفوضى يصعب على الجميع التكهن إلى أين سينتهي من ناحية، والامتناع عن الدخول في سجال صيداوي - صيداوي من ناحية ثانية، لئلا يؤدي إلى خلط الأوراق بما لا يساهم في النهوض بصيدا والإسراع في لملمة ما أصابها. ويكشف هؤلاء أن النائب الحريري سارعت فور تلقيها اتصالاً من رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب السابق أسامة سعد جاء في سياق الاطمئنان بعد تعرض دارة الحريري في مجدليون إلى إطلاق النار، إلى الطلب من مناصريها بتجنب أي احتكاك مع أنصار سعد لأن لا مصلحة للغرق في تفاصيل تؤثر في جهود إعادة صيدا مدينة للعيش المشترك. كما أن الرئيس الحريري، كما يقولون، بادر إلى الاتصال بالرؤساء سليمان وميقاتي ونبيه بري وقائد الجيش ليقينه بأن هناك حاجة لإنهاء الوضع الراهن في صيدا، إضافة إلى مبادرته لتوفير الغطاء للجيش فور تعرضه للاعتداء. إلا أن هؤلاء لا يفوتهم التوقف أمام جهود النائب الحريري بالتعاون مع مفتي صيدا الشيخ سليم سوسان للحفاظ على التهدئة يوم الجمعة الماضي، عندما دعت إلى إقامة صلاة الظهر وحصرها في جامع الزعتري ولم تسمح لأحد بالدخول على الخط المرسوم لهذه الدعوة التي اقتصرت الخطبة فيها على الشيخ سوسان مع أن الشيخ داعي الإسلام الشهال كان حضر من طرابلس وشارك في الصلاة وأعد العدة لإلقاء خطبة، إلا أن المصلين حالوا دون إلقائها ما اضطره للتوجه إلى ساحة النجمة كمكان بديل لإلقائها في غياب أي مشاركة صيداوية تذكر. وعليه، فإن تصرف النائب الحريري منع أي جهة من استغلال ما حصل في صيدا وتقديم نفسها على أنها المؤهلة لملء الفراغ السياسي الذي أحدثه اختفاء الأسير لوراثته ووضع يدها على مسجد بلال بن رباح والشقق التي كان يشغلها الأسير، بعدما وُضعت في عهدة دار الفتوى في صيدا. ناهيك بأن ردود الفعل المؤيدة للأسير كانت «رمزية» واقتصرت على مجموعة من الفتيان المتحمسين الذين تجمعوا أمام بعض مساجد في بيروت أثناء صلاة الجمعة وآخرين في طرابلس قوبلت مسيرتهم بضجيج إعلامي لا يعكس حجم المشاركة الشعبية. الخشية من انتقال المشهد الى مناطق اخرى إلا أن مرحلة ما بعد اختفاء الأسير، وتحديداً في صيدا، لن تتوقف عند حدود اختفائه من دون الالتفات إلى ظاهرة انتشار السلاح في شوارعها وأحيائها التي تستدعي تحركاً من الأجهزة الأمنية المسؤولة لئلا تتكرر هذه الظاهرة مع تبدل من يقودها، لا سيما أن أركان الدولة والعماد قهوجي هم الآن على بينة من مضمون المذكرة التي سلمها السنيورة والنائب الحريري للرئيس سليمان وفيها تركيز على استكمال التحقيق القضائي لتحديد المسؤول عن الإشكالات التي رافقت الاعتداءات، إضافة إلى ضرورة وضع خطة أمنية تنهي تفشي المربعات في معظم شوارع عاصمة الجنوب بدءاً بصيدا القديمة باعتبار أن لا وظيفة لهذا السلاح تحت أي اسم كان سوى التسبب باحتقان من هنا وآخر من هناك. لذلك، فإن اختفاء ظاهرة الأسير سيساهم في طي صفحة استخدمها البعض لتشويه الصورة الحقيقية لصيدا وتقديمها من خلال بعض وسائل الإعلام على أنها حاضنة للتطرف ولبعض الامتدادات المؤيدة لخطاب «جبهة النصرة»، مع أن البعض يتخوف من أن ينتقل المشهد إلى مناطق أخرى ذات الغالبية من السنّة بغية تمرير رسالة بأن أصحاب هذه الشعارات يسيطرون على الساحات وأن لا مكان للاعتدال. وأخيراً، فإن الطريقة التي تعاطى بها «المستقبل» إبان الأحداث في صيدا أظهرت أن هناك حالات سياسية ينفخ فيها لإظهار غالبية السنّة مع التطرف على رغم أن الجميع يدرك كيف عومل الرئيس الحريري إبان توليه رئاسة الحكومة مع أنه يمثل رأس الاعتدال ومن ثم كيف أخرج منها، وإلا كيف يواجه من يسمون «التكفيريين» في الوقت الذي يقول البعض في «8 آذار» إن لا مكان للحريري في المعادلة السياسية؟ والسؤال أيضاً: «من المستفيد من الفراغ المترتب على إبعاد المعتدلين من السنّة ومحاربتهم ومن عدم استعداد قوى 8 آذار وعلى رأسها الشريك الشيعي لإيجاد صيغة للتعاون مع رؤساء الحكومات وبالتالي أين المصلحة في التعاطي مع بعض المناطق على أنها «حاضنة» للتطرف على رغم أن ما حصل في صيدا يدحض مثل هذا «السيناريو». ويتيح الفرصة للدولة لتحسم قرارها في مسألة إنهاء المظاهر المسلحة؟». التي أصبحت عبئاً على أصحابها قبل الآخرين؟