اذا كان صحيحاً أن مهاجمي حاجزي الجيش اللبناني في صيدا في جنوبلبنان مساء أول من أمس هم ثلاثة انتحاريين، تكون المدينة قد أنبتت في أشهر قليلة خمسة انتحاريين، هم من أقدموا على تنفيذ مهماتهم بانتظار آخرين لم يُنفذوا بعد. طبعاً تتضمن هذه الحسبة الانتحاريين اللذين نفذا الهجوم على السفارة الإيرانية في بيروت الشهر الفائت. صيدا مذهولة مما أنجبت! وهي كحال كل المدن، ليست مدينة واحدة. المنفذون من عائلاتها الرئيسة، وثمة مُختفون من عائلاتها الرئيسة أيضاً، تبدو المدينة اليوم متوجسة مما يُضمرون. فلائحة الذين غادروا مع أحمد الأسير في أعقاب معارك مسجد عبرا في شهر حزيران (يونيو) الفائت طويلة، وتضم أسماء ممن تتوجس المدينة الإتيان على ذكرها، ليس لأنهم قساة يخيفون مدينتهم، بل لأنهم جزء من نسيجها ووجدانها الاجتماعي والعائلي، وهم في متن جسمها وعائلاتهم في صلب علاقاتها وتبادلاتها. وصيدا التي أنجبت الانتحاريين الخمسة، وربما غيرهم ممن ينتظر تسليمه الحزام الناسف، ليس هذا ما توقعته من نفسها ومن فتيتها. فالسلفية التي غالباً ما يُربط فعل الانتحار فيها هذه الأيام ليست تقليداً صيداوياً، والمدينة، خلافاً لطرابلس، مثلاً لم تشهد بروز شيخ سلفي واحد على مدى تاريخها الحديث. أحمد الأسير نفسه لم يكن سلفياً، وهو أصلاً لم يكن شيخاً ذا باع في المشيخة والإفتاء. ثم إن موقع المدينة الجغرافي وتركيبتها الديموغرافية حتّما عليها علاقة مختلفة مع جوارها، ف «صيدا تجوع من دون علاقة مع الجوار» على ما قال أحد تجارها، وها هي مستشفياتها اليوم تئن تحت وطأة تردد الجنوبيين الشيعة في الإقبال عليها بسبب اضطراب العلاقات الأهلية الناجم عن الوقائع الثقيلة. وخلافاً لطرابلس ولمناطق لبنانية أخرى، لم تشهد الجماعات الاسلامية في المدينة عصر ازدهار يُذكر. فالصيداوي كان حريصاً على انتاج وجه سياسي لمدينته يغذي الوظيفة التقليدية لاقتصادها وسوسيولوجيتها. ثم إن العمق التقليدي لتديّن السكان ارتبط بطرق صوفية قاطعة في خصومتها للسلفية، ناهيك عن ان المدينة اختُرقت بسكان أخلاط أعاقوا اندراج المؤمنين بأنساق دينية واضحة ومتصلة بتقاليد راسخة. وصيدا التي هذه حالها لا يكف أهلها عن التذكير بأن ما من مدينة في لبنان شهدت تواصلاً اجتماعياً وقرابياً بين السنّة والشيعة على النحو الذي شهدته المدينة. وها هم الصحافيون يسجلون لدى كل زيارة في أعقاب عملية يُنفذها أحد مناصري الأسير أن أم المنفذ شيعية، أو شقيقته متزوجة من شيعي. وأحمد الأسير نفسه ينتمي الى عائلة من هذا النوع، ناهيك عن منفذي العمليات الانتحارية. لكن هذه الحقائق الصغيرة أقرب الى هذيانات اللبنانيين الناجمة عن أزماتهم المتصاعدة. القول إن أم الانتحاري شيعية، وأن شقيقته متزوجة من شيعي هو جزء من الجوهر الهذياني الذي يصيب الضحية أثناء دفعها المرض عن حالها. الأم الشيعية لا تُحصن من الانزلاق الى الموت في لحظة تأزم كبيرة كتلك التي تعيشها صيدا. من يسمع زوجة شقيق فضل شاكر (الشيعية) والتي قُتل ابنها خلال معركة مسجد التوبة تتحدث عن ابنها وعن شيعيتها يمكنه ان يلمس ضعف هذا الأثر في تكوين الابن. فهي ولتؤكد سعة صدر ابنها القتيل، أشارت الى أنه غض الطرف عن أصلها الشيعي، ولم يُذكرها به مرة واحدة. وهي اذ كشفت عن أصلها هذا، عادت ونفته عندما قالت إنها تحولت عنه وقطعت أي صلة لها به. ثم إن القابلية السياسية والطائفية للانتحار وللقتل تشكلت في زمن متقدم على زمن رغبة صيدا في الاختلاط، وبهذا المعنى تفقد أي مناعة سابقة على هذا الزمن قوتها وقدرتها على الحد من هذه القابلية. لا بل إن عناصر الحصانة من العمل الانتحاري تتحول الى عناصر دفع له، ذاك أن الاحتقان مركب من عناصر حية وغير بعيدة. فالطرابلسي ذو الأم الطرابلسية، يُشكل العدو الطائفي له ظلاً بعيداً وغير معيوش. أما الصيداوي فعناصر انفجاره قريبة منه. ففضل شاكر الذي كان أطلق أقذع العبارات الطائفية بحق الشيعة كطائفة، كان قبل أقل من سنتين في صدد تزويج إبنته من شيعي. لقد أسست معركة حزيران 2013، لوعي صيداوي مختلف. ليست المدينة كلها غارقة فيه، لكن هذا الوعي يخترق اليوم شرائح واسعة من أهلها، ويُستجاب له على نحو متفاوت. فها هي غادة، السيدة الأربعينية غير المحجبة، والتي انتمى والدها سابقاً قبل وفاته الى التنظيم الشعبي الناصري، تذهب كل يوم جمعة الى مسجد التوبة، الذي كان يؤم المصلّين فيه أحمد الأسير، فتتولى غسل أرضه مع مجموعة من السيدات الصيداويات من غير مرتادات المساجد. التحوّل في واحد من أيام العام 2012، أبلغ آل الحريري العاملين في مؤسساتهم الاجتماعية والصحية ان المصلّين خلف الشيخ أحمد الأسير في مسجد بلال بن رباح في صيدا من بينهم عليهم الكف عن التوجه الى هذا المسجد. يومها قرر عامر، وهو شاب من عائلة صيداوية معروفة ترك عمله في إحدى هذه المؤسسات ومواصلة الصلاة خلف الأسير. وعامر لم يكن مقاتلاً مع الأسير ولم يتحول الى مقاتل. هو مريد ومصل، وهو لا يشبه الإسلامي في قيافته. شاب يجيد حلق لحيته كل صباح على نحو ما يفعل معظم أبناء الطبقة المتوسطة في صيدا، وهو مصل وراء الشيخ من دون الكثير من الكلام ومن دون الكثير من السياسة ومن الجدال حولها. يبتسم الشاب حين تقترب في حديثك معه من الشأن العام، ويكف عن الكلام. كثيرون من مريدي الشيخ الأسير ومن مساعديه ومن المصلّين خلفه، هذه حالهم. موقعهم وقربهم من الأسير كان يبدو غير منسجم مع عناصر أخرى من شخصياتهم. فأحد الذين كانوا قريبين من الأسير كان يعمل مديراً مالياً في جريدة قريبة من «حزب الله»، واثنان من هؤلاء الفارين هما إبن وصهر لأحد كبار تجار الحلوى في صيدا وفي بيروت، وثالث هو ابن بائع فول شهير تحول الى فوال «دولي» بعد ان افتتح فروعاً لمطعمه في لبنان وخارجه. واذا أضفنا الى هذه التشكيلة فناناً شهيراً كفضل شاكر ومتمولين صيداويين وفلسطينيين يجرى تداول أسمائهم اليوم، فإننا نخرج بخلاصة غير تقليدية في سعينا لتفسير الأسير وظاهرته. فها هو الانتحاري الصيداوي معين أبو ظهر يذهب الى هدفه برفقة الفلسطيني الصيداوي عدنان المحمد، وهذا ما فعله انتحاريو أول من أمس عندما كان كل من محمد الظريف وابراهيم المير الصيداويان برفقة بهاء السيد الفلسطيني. والحال ان ثمة عناصر في هذه التجربة عصية على السياسة وعلى سوسيولوجيتها. فأبناء الحرف الصيداوية من بين الأسيريين، تأسرنوا في سياق صعودهم الى ما بعد حرفهم، والمتعلمون منهم فصلوا ما حصلوه في مدارسهم وجامعاتهم عن مضمون «أسيريتهم»، فيما زودت عائلات صيداوية أساسية في التجارة والسياسة مسجد بلال بن رباح بالكثير من المصلّين، فها هو ابن شقيق رئيس غرفة التجارة والصناعة في المدينة من بين المتوارين بعد المعركة، ومن المتوارين أيضاً اثنان من آل الحريري وآخر من آل الزعتري، وكثيرون كثيرون من عائلات ارتبط اسمها بالسوق وبالأعمال التجارية في صيدا. وعندما يشعر المرء بضعف سياسية الظاهرة الأسيرية، فإن ذلك لا يعني أنها ظاهرة غير سياسية، لكنها جديدة على صعيد التفسيرات الصيداوية للسياسة. فأنت حين تقول تيار المستقبل في صيدا، يمكنك كمراقب للمدينة ان تتخيل مواصفات اجتماعية واقتصادية لبيئته، وأن ترسم خطاً لمساراته في العلاقة مع ماضي المدينة ومع حاضرها. يصح هذا أيضاً مع مناصري النائب السابق اسامة سعد، ومع ما تبقى لآل البزري من نفوذ. أما الأسير فهو لحظة غير مُدركة في وعي المدينة، أو كأنه جزء من لاوعيها، ومن صمتها الذي تضربه حول نفسها. مدير مالي سابق في صحيفة قريبة من «حزب الله» غير الودودة في علاقتها مع السنّة اللبنانيين، هو من مساعدي الأسير! ألا يدفع ذلك الى الحيرة؟ وأقارب صاحب محل حلويات البابا الذي تظاهر عماله ضد الاعتصام الذي نفذه الأسير بالقرب من متجرهم فأقفل الطريق التي يسلكها زبائنهم وكاد يتسبب بإقفال المتجر، هم من بين المقاتلين مع الشيخ! ولتكتمل حيرة المرء فقد كان اختار إمام مسجد بلال بن رباح ناطقاً رسمياً باسم المسجد هو «أحمد الحريري»، وهو الإسم نفسه الذي يحمله أمين عام تيار المستقبل ونجل نائبة صيدا بهية الحريري. صور الأسير الكثيرة توحي بذلك أيضاً، فالرجل كان يلهو بقدر ما كان يحرّض. في صور يظهر وكأنه يرقص، وفي أخرى يقود دراجة هوائية، وهو عندما ظهر في شريط مصور وهو يضرب رجلاً، قيل انه يتجسس، كان يضربه كأنما يفعلها للمرة الأولى. كل هذا الوهن في المشهد الأسيري، وانعدام الجوهر السياسي للظاهرة سهّلا عملية التحول العنيفة التي شهدتها الظاهرة. ذاك أن تقنية تسمين الطريدة التي انتهجها «حزب الله» عبر نفخه بالظاهرة الأسيرية، وما نجم عن ذلك من انفجار للأوضاع في المدينة وقتال الأسير، ثم اختفائه مع مجموعة كبيرة من فتيته، نقلت الجماعة من كونها ثلة مسجدية أهلية هشة وغير متجانسة الى خلية متخفية ومرشحة للتواصل مع قرينات لها في صيدا وفي خارجها. وها هم اليوم أفرادها ينتحرون باسم «كتائب عبدالله عزام»، مع ما يحمله الاسم من احتمالات علاقة لطالما ربطت صيدا بعمقها الفلسطيني، وأيضاً بعلاقة هذه الكتائب بفروع اقليمية لتنظيم «القاعدة». ومرة أخرى يبدو هذا الأمر جديداً كل الجدة على صيدا. وصيدا الواقعة بين خطوط انقسام وتوتر اقليمي يحمل وصول «كتائب عبدالله عزام» اليها وتمكنها من الاستثمار فيها مخاطر تتجاوز مخاطر وجود متشددين في أي مدينة لبنانية أخرى. فالمدينة، لمن يعرفها، فلسطينية على قدر ما هي لبنانية، وهي شيعية بموازاة سنّيتها، وهي أيضاً طريق المسيحيين من أبناء جزين الى مدينتهم والى مناطقهم في شرق المدينة، بالإضافة الى كونها بوابة الجنوباللبناني. واختلاط الوظائف هذا، وفوضاه واضطرابه، تتعدى ارادة السكان في ضبطها، اذا ما توافرت هذه الارادة. واليوم وبعد وصول «الكتائب»، على ما يحلو للسلفيين اللبنانيين تسمية كتائب عبدالله عزام، فإن ضابط الايقاع المحلي في المدينة أُسقط في يده.