قابلته صدفة في بهو فندق الحياة ، لم يكن طويلا كما كنت أتصوره كأبيات شعره السامقة ولكنه كان وسيما كعذوبة الشعر . جلستُ في المقعد المقابل له مباشرة وهو يحتسي فنجان قهوة طال بقاؤه فوق الطاولة ونظره يعانق ورقة بيضاء يخط عليها بأصابعه النحيلة وجوها ومعالم من شعر . كما طال بقاء الفنجان أطلت أنا تحديقي في مساحة وجهه المترامية ولعينيه المكتظة ببدايات الألم الذي لم يكتمل سوى في قصائده . لمحني وأنا أتفحص ملامحه بينما كان يرتشف قهوته السوداء ويذيب بداخل الفنجان حكايات بلون السواد المعتق في قلبه الكبير . سألني بعد كرر النظر لوجهي : هل تعرفني ؟ قلت على الفور : أنت صاحب التهم التي لم تتحول مع الأيام لذنب تتبرأ منه .. أنت النخلة التي ولدت لوحدها في يوم عاصف ولكنها طالت وتعالت لتساقط علينا شعرا حلو المذاق .. أنت يا سيدي ابن البيد الذي لم يخلع جلبابه ولكنه طرزه بألوان الحداثة المنصهرة في تراثنا الواسع . ضحك وهو يشاهدني أتحدث بحماس وقال : هون عليك يا فتى .. لست كل هؤلاء .. ! فما أنا غير صدفة لم تحن بعد ولكنها تمردت لتثب من سبات الصرخات الساكنة تحت الجسور وخلف زجاج الآنية .. أنا ثورة الحب والكمد ، وحزن العشق والفراق .. أنا أيها المتوهم بي عصفور فقد ريشه فحلق على الورق دون جناحان والكل يظنني صفة من صفات الجنون .. هذا أنا يا صديقي رحلة بدأت منذ زمن ولم أستطع الترجل من مسافاتها وأخشى أن ترمي بي الأقدار دون وداع . وقبل أن أنصرف صافحته وقبلت جبينه المشرق كشمس الصحراء واختفى قبل أن أمضي مع همي ووهمي كحاطب ليل في فصل الشتاء . اختفى لوحده خلف نور طفيف خلف عتمة ، اختفى دون ضجيج ودون استعراض للألم ونهاية الجسد كما يفعل النبلاء في زمن المتسلقين على بقايا الأموات . بحثت عنه في ذات البهو كانت رائحته تعصف بالمكان ولكني لم أجده .. سألت عنه الجميع فلم يجبني أحد سوى ذلك الغارق في الحزن .. أشار نحو نافذة مكتوب عليها من هنا يرحل الشعراء .. نظرت له فهز رأسه : أجل لقد مات ذلك النحيل .. هل يموت الشعراء ؟ هل يموت من كان يحيا في كل مساحات البيد التي تأبى الانكماش والضيق ؟ خرجت وأنا أتلو بقايا قصائد متناثرة ومحطمة حفظتها فوق جسدي لعل المساء يخبر النجوم عن محمد الثبيتي الذي أخرس من خانه في لحظة ضعف . لم يمت لأنه باقٍ فينا .. بينما هم ماتوا ويموتون كل يوم وهم أحياء لأنهم خرجوا من المشهد من الباب الخلفي المظلم .