فجعت الأوساط الأدبية والثقافية العربية بوفاة الأديب المتميز والشاعر الكبير محمد الثبيتي، الذي وافته المنية في ساعة متأخرة من مساء أمس الاول في مكةالمكرمة، وذلك بعد معاناة طويلة مع المرض، على أثر تعرضة لأزمة قلبية حادة قبل أكثر من سنة، وبرحيل الشاعر محمد الثبيتي تكون الساحة الثقافية بالمملكة قد فقدت أحد أعمدة الشعر في مشوارها الطويل، حيث يعتبر الفقيد من أبرز الشعراء وله مجموعتان شعريتان هما ايقاعات على زمن العشق وعاشقة الزمن الوردي وغيرهما من الأشعار الاخرى والكتابات الأدبية. حين يأتي ذكر الشاعر محمد الثبيتي، تحضر صورة الشعر المحتفظة بجماليتها وحداثتها، والمتكئة على الموروث الغائر في مناجم بعيدة، لا يبلغ مداها إلا شاعر له أجنحة جامحة به نحو التحليق باتجاه الحلم، ومانحة قدرةً على التمرد، ليصطف المتعبون حول جمر غضى هذا البدوي المعتّق في وجع القرى الفائق من فقر المدن، مطالبين بالمزيد من مهج الصبح والشاذلية، والقهوة المرة المستطابة. إنه مركز بوصلة يستحكم ببراءة في مؤشرها، ليحرك محور اللغة، ويديره صوب المفردة الناعمة، القابلة للتداول في السعودية والعالم العربي، قاطعاً على نفسه العهد بطهي قصائده على نار الجودة الهادئة. عشق الشعر منذ نعومة أظافره كانت بدايات الراحل الشاعر محمد بن عواض الثبيتي مثل معظم البدايات البسيطة والمتواضعة، ويقول الراحل في ذكريات صباه الاولى" بدأت كتابة الشعر في السادسة عشر من عمري، كنت أعشق الشعر منذ الصغر، فأبي كان يلقّنني الشعر وأنا ما زلت في المهد، شيء طبيعي وفطريّ أيضاً أن أنشأ على تلاوة الشعر الجاهلي ثم ما تلاه من الشعر العربي كله، عشقت من الشعراء الكثيرين: الأعشى، عمر بن أبي ربيعة، أبو تمام، المتنبي، جرير، قرأت لهم الكثير ودخلت من خلالهم بوابة الشعر. و أذكر من محاولاتي القديمة جداً جداً قصيدة قلتها وأنا في السادسة عشر من عمري كنت أعارض بها قصيدة لشوقي قلت قصيدة أذكر منها هذا البيت: - إذا جاد الزمان لنا بيوم وصالاً جاد بالهجران عاما بعدها - كتبت الكثير من القصائد التي لا تخرج عن كونها تقليداً لشوقي ولغيره من الشعراء... بعد فترة من الكتابة المبتدئة والتقليد الرديء استيقظ في نفسي هاجس آخر يقول هذا ليس شعراً، يجب أن تتجاوز، يجب أن تدخل عالم الشعر الحقيقي، فكتبت محاولة جديدة اسمها ايقاعات على زمن العشق وهي مرحلة نزارية بحتة. وأنا أعتبر دخولي الصادق والحقيقي إلى عالم الشعر عندما اكتشفت القصيدة الحديثة بعد تجاوزي لنزار قباني وخاصة بعد قراءتي للسياب والبياتي اللذين وضعا قدمي على الطريق السوي للشعر. وقد وصف الراحل الشعر بأنه القصيدة التي تكون عندي حلماً مرة ومغامرة في عالم مجهول مرة أخرى وأنا أعتبر أن الشعر، أو أن كل قصيدة تعطيني حياة جديدة وعالماً جديداً ...وأتمنى أن أكون نبتة قوية الجذور في غابة الشعر الساحرة ... ويرى الراحل أنه قد حقق الكثير من خلال الشعر حيث يقول" لو جاز لي أن أعتبر نفسي حققت شيئا فسأقول أنني أكتب الكثير من القصائد وأصدرت مجموعتين شعريتين وأرى أنني حققت من خلال ذلك شيئاً أعتز به وهو جزء من طموحي وقد كتبت مؤخراً مجموعة من القصائد أثق ثقة تامة أنها متميزة على مستوى الشعر في السعودية وتجاوزت بعض التجارب الشابة في الوطن العربي. تجربة الثبيتي تجربة الثبيتي تلك كانت مختلفة في تشكل وعيها بالأسطورة والمكان ومعجم الصحراء؛ فهو شاعر مثقف يكتب بلغة حديثة ومنطلقاً من عوالم ثقافته حتى الشعبية منها, والأسطورية المحلية أو التي يبتكرها في ثنايا فلسفته الشعرية: “جئتُ عرافاً لهذا الرمل / استقصي احتمالات السواد / جئت أبتاع أساطير ووقتاً ورماد / بين عيني وبين السبت طقس ومدينة”. بقي الثبيتي مؤثراً في جيله وفي أجيال تاليه من الشعراء الذين لم تختف بصمة الثبيتي من قصائدهم, واستمر الثبيتي في ترسيخ حساسيته الجديدة للشعر وبلغة جزلة وقادرة على الدهشة, دهشة الفن ودهشة الحياة المليئة بالحزن والإنسانية واجتراح مناطق الشعر الجديدة في تجربته, فنقرأه في قصائد باتت شهيرة ويتناقلها عشاق شعره: “ تعارف “ و “ قرين “ و “ وضاح “ الأوقات “ و “الطير”... كما في تلك القصائد المدهشة في ديوان “التضاريس”, وسنلحظ استخدام الثبيتي لعناوين دواوينه بشكل حديث منذ وقت مبكر في زمن الحداثة الشعرية السعودية بالأخص, حيث لم يكن ذائعاً ولامستخدماً تلك العناوين المنزاحة لغوياً أو التي تصف حالة شعورية ما كما لدى الثبيتي. فعناوين مثل “موقف الرمال” و “تهجيت حلماً .. تهجيت وهماً” وغيرها تشير إلى الحساسية الواعية والمبكرة والحالة الإبداعية التي عاشها الثبيتي. وحتى بعد أن توقف الثبيتي لمدة من الزمن، على الأقل عن الظهور الإعلامي, كانت قصائده لا تزال تبحث في حداثتها وجديدها وتنقب في ظمئه للغة واتساعاته في علاقته مع الأشياء دون مكنون سابق يستند عليه. أسلوب فريد في أشعار الثبيتي يبتكر الثبيتي شكله وطريقته ونصه في كل مرة, ويجترح مخبوءاً شعورياً في كل قصيدة, يمسك بسماوات قديمة وينثرها في طريق ناصع حيث تمطر المعنى الذي يكترث له الثبيتي مع جماليته أيضاً وغنائيته: “ يا أشعثاً عقر الطريق وشل بادرة الخصوبة / بعدما وهنت قوادمه وأضحى وردة غبا وعقته الطريدة “, تلك الموسيقى في نصه التي تجيء ليس لأنها شرطاً شعرياً فهو منذ أولى نصوصه خارج الدرس الشعري المؤطر, بل لأنها تقدم ذلك الشرط بوعيها الشعري الجديد وتتماس معه لتعيد صياغته وإيقاعاته من جديد. وتحت عنوان القصيدة يكتب “ كيف تأتي القصيدة / مابين ليل كئيب ويوم عبوس؟/ وماذا تقول القصيدة بعد غروب المنى/ واغتراب الشموس” .. وهو صعلوك الشعر الذي يقول “من يقاسمني الجوع والشعر والصعلكة/ من يقاسمني التهلكة؟” ليترك الشعر جنباً إلى جنب مع الحياة. ولتمرسه في كتابة الشعر، حتى في طرقه التقليدية، سنلحظ أن الثبيتي لا يخضع دوماً إلى البحث عن قوافٍ بجهد وبعيدة عن المعنى الذي يريد, فمخزونه اللغوي ومعجمه الوفير والثر أسهما في أن يخضع اللفظ الشعري في مفهوم القصيدة العمودية والتفعيلة إلى المعنى الذي يريد .. ويعود في كل مرة ليرسم مفاهيمه عن الشعر وعن القصيدة متخذاً منها عيناً على كل العالم والرؤى: “تفوحين من حمى شبابي قصيدة / أشاطرها لوني وشكل أناملي “. وفي نفس القصيدة “قلادة” يقول: “لغة استهل بها وطني أستهل بها قلب معشوقتي “. أهم المؤثرات ومن أهم المؤثرات التي كان لها الأثر في شعره يقول الشاعر إيجازا أستطيع القول أنني وقفت كثيراً على التراث العربي واستوعبت الكثير من التجارب الشعرية العربية، ولنقل تجارب نزار قباني والسياب والبياتي وغيرهم إضافة إلى تجاربي الذاتية. أثر التراث في شعره وعن رأيه عن التراث فيقول الشاعر" بالنسبة لتراثنا العظيم ففيه الكثير مما يستحق الوقوف عنده والاستفادة منه، ووجه الاستفادة لا يعني فهمه فقط واستعادته، ولكني أعني تمثله ومحاولته وتجاوز بعض رموزه واستغلال بعضها الآخر في تجربة شعرية حديثة، أما بالنسبة لاستفادتي من الشعر الحديث فتأتي من خلال قراءته واستيعابه والوقوف كثيراً عند التجارب المتميزة التي خاضها معظم شعرائنا. وعلى سبيل المثال أذكر أدونيس وتجربته الرائعة التي ما زالت –وهذا اعتراف مني- أقف عندها وأتأملها إضافة الى تجارب السياب والبياتي الغنية. رأيه في الشعر الشعر في رأي الراحل محمد الثبيتي عالم جديد حيث يقول الشعر دخول إلى عالم جديد ومغامرة جريئة لمعرفة الحياة واكتشافها، وشعر السياب ليس هذه التقسيمات التي يضعها بعض النقاد، ولكنه هو القصيدة التي تحمل رؤيا جديدة واكتناهاً لمعنى المستقبل والحياة معا. وعلى هذا الأساس فالقصيدة مهترئة. وقد يقول شاعر شاب قصيدة مهترئة، وقد يقول شاعر تجاوز الستين قصيدة جديدة ورائعة دون النظر إلى الشكل على انفراد والمضمون إلى انفراد، فاعتناق الشكل والمضمون وامتزاجهما لولادة رؤيا رائعة هو الشعر الحديث. رأيه في الجيل الشبابي جيل الشباب أو الشعراء الشباب في الوطن العربي يكتبون أشياء رائعة الآن وأنهم قد حققوا شيئاً وإن لم يحققوا كلّ شيء. ويبدو ذلك في التجاوز الذي حققوه في الفترة الأخيرة. والذي يتضح لنا من خلال ما قرأنا ونقرأ أو ما نسمع له من شعر في كافة الأقطار العربية رغم كل ما يواجهون به من اعتراضات من النقاد والأجيال السابقة، وأعتقد أن تجربتهم ناضجة وستحقق نصراً كبيراً للقصيدة العربية الحديثة في السنوات القليلة القادمة. وأكد الفقيد أن الشباب لم يحققوا كل شيء، أو في الأصح أنهم حققوا ما يطمحون اليه، واستطرد قائلاً لا أريد أن ينسحب رأيي على جميع الشعراء الشباب، إنما أردت القول بأن هناك أصواتاً وان كانت معدودة، أعطت تجارب متميزة وتستحق الانتباه والإصغاء، وأنا لا أنكر أن هناك أصواتاً شابة تسئ إساءة بالغة إلى قصيدة الشباب الحديثة. دوافعه في الكتابة يقول الراحل أنا أكتب من أجل أن أقول شيئاً جديداً وجميلاً، من أجل أن أتسلق الكلمة وأوغل في اللغة... وأقول لقلوب الأطفال هذا أنا، وهؤلاء أنتم وهذا الشعر. وأن القصيدة عندي استشراف للمستقبل وقراءة للواقع فإنها مزيج من الدهشة والتأمل. بعض من أجمل أشعار الراحل الرحيل إلى شواطئ الأحلام أَلْقَيتُ بينَ يديكَ كُلَّ عِتَادِي وأَرَحْتُ مِنْ هَمِّ الطَّريقِ جَوادِي وفَرَرْتُ مِنْ لَفْحِ العَواصفِ حِينمَا طَالَ الرَّحيلُ، وماتَ صَوتُ الحَادِي وتَجَاوبَتْ أَصْداءُ صَمْتِي في الرُّبَى وعَلَى السُّهولِ وعِنْدَ مَجْرَى الوادِي ولَمَحْتُ أَوراقَ الخريفِ يَجُرُّهَا مِن خلفهِ ذيلُ النسيمِ الهَادِي فتركْتُ فِي الصحراءِ كُلَّ قصائِدِي ودَفَنْتُ بينَ رمالِهَا إنْشَادِي وعلَى شواطئِ نَاظِرَيكَ تَقَطَّعَتْ أسبابُ سَعْيِي وانْطَوتْ أَبْعادِي فَارْمِي قيودي باللهيبِ وحَطِّمي أسوارَ رُوحِي، واقلعِي أَوتادِي كالنارِ،كالأعصارِ قُودِينِي إلَى قدَرِي، ولا تَسْتَسْلِمِي لِعِنَادي يا نَجم إنْ سألَ الشعاعُ: فَإنَّني سافرتُ في ركبِ الزهورِ الغَادِي صَحبِي هناكَ على السفوحِ تركْتُهُم ينعونَ جهلي، وانْقِيَادَ فُؤادِي وملاعبَ الأنسِ الرضيعِ هَجرْتُهَا وهجرتُ فيهَا مَضجعِي ووِسَادي عجباً.. أَتَذْبُلُ في الربيعِ خَمائِلي ويضيعُ في ليلِ الشتاءِ جِهَادي في أحضان السكون . هنا أنحرُ الليلَ، أغني الزمان هنا أتلقَّى حديث القمرْ هنا أقتلُ الشِّعرَ عند الغروبِ وأبعثهُ حينَ يأتي السحرْ هنا أصهرُ النورَ حتَّى يذوب وألقي في عيون الزهرْ هنا يرقد الهمُّ في خاطري ويسلبني أملي المنتظَرْ *** هنا يومض اللحن في أضلعي وينزع أسرارَهُ من دمِي وينحتُ من مقلتيّ الرؤى وتطربُ أوتاره أنجمي ويغرقني في الشقاء اللذيذِ وتملأ أوهامه عالمي ديوان عاشقة الزمن الوردي صوت من الصف الأخير إلى الراكضين خلف الأجيال يزرعون الأمل ويجنون التعب والملل والإرهاق هَل كنتَ يوماً في الحياةِ رسولا أَمْ عَاملاً في ظِلِّها مَجْهولا تَسخُو بروحِكَ للخُلودِ مَطيّة وحُبِيتَ حظّاً في الخلودِ ضَئيلا الشاعر محمد الثبيتي .ولد الشاعر محمد عواض الثبيتي عام 1952م في منطقة الطائف. حصل على بكالوريوس في علم الاجتماع وعمل في وزارة التربية والتعليم. أعماله الشعرية: عاشقة الزمن الوردي ، تهجيت حلما .. تهجيت وهما، بوابة الريح ، التضاريس، موقف الرمال. أصدر النادي الأدبي في حائل مؤخراً أعماله الكاملة في مجلد واحد، يضم جميع إنتاجه الشعري. حصل على عدد من الجوائز أهمها: • الجائزة الأولى في مسابقة الشعر التي نظمها مكتب رعاية الشباب في مكة سنة 1397ه. عن قصيدة "من وحي العاشر من رمضان" .• جائزة نادي جدة الثقافي عام 1991 عن ديوان (التضاريس).• جائزة أفضل قصيدة في الدورة السابعة لمؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري عام 2000 م، عن قصيدة (موقف الرمال.. موقف الجناس).• جائزة ولقب ( شاعر عكاظ) عام 2007م في حفل تدشين فعاليات مهرجان سوق عكاظ التاريخي الأول.منذ عام تقريباً رقد على السرير الأبيض، إثر تعرضه لأزمة قلبية بعد عودته من رحلة ثقافية إلى اليمن، الى أن توفاه الله يوم أمس الأول . تغمده الله بواسع رحمته واللهم آله وذويه الصبر والسلوان.