** قبل أيام كنت أصطحب أحد الأصدقاء في سيارته بين جدة ومكة عندما قال لي ونحن نتحدث ساعتها عن إشكالية الأدب عندنا: إذا ما نظرنا نظرة واقعية مجردة بعيدة عن العاطفة لأدبنا وأدبائنا فإننا لا نجد ذلك المفكر المتين الفكرة الواسع المعرفة.. الذي يمكن أن نضع نتاجه أمام فكر الآخرين دون أن يدخلنا الخوف أو الهلع من حكمهم، ففي مصر مثلا هناك زكي نجيب محمود.. ونجيب محفوظ، وطه حسين.. والعقاد، وغيرهم.. وغيرهم كثير.. وهذا ينطبق على سوريا، والعراق.. والمغرب.. والجزائر.. ولو سقت لك الأسماء لأصابنا الكلل. والسبب في ذلك يعود إلى تكويننا الثقافي فنحن أخذنا قضية الفكر قضية للوجاهة أكثر منها قضية جدية للحياة.. فثقافتنا ثقافة على الماشي.. وهذا ينطبق على كل الأجيال التي مرت بنا أو مررنا بها دون استثناء.. إن الذي يمكن أن يكون عندنا هو الشعر، وغير ذلك لا شيء، أعود إلى سؤالك وأقول: إن الأدب عندنا ومنذ خمسين عاما ولا يزال لا يجد وعاء إلا الصحافة، والذي نراه الآن ينشر في الصفحات الأدبية ليس هو ذلك الأدب الذي يبحث عنه. إنه غارق فيما يسمى (بالمماحكة) والترصد للآخر.. وقفل الأبواب في وجه كل ثابت صحيح.. إن الصفحات الأدبية إذا ما كانت هزيلة وهذا ما أشتمه من السؤال، فهي انعكاس صادق لحالة الأدب فهي وعاء لما يقدم لها ليس إلا. ولا تصدق أن هناك أدبا أو فكرا ذا قيمة ولم ينشر، والذي يقول غير ذلك عليه أن يثبت، فواحد مثل الدكتور حسين مؤنس عندما سئل عن الأستاذ حمزة شحاتة قال لا أعرفه. قد يكون هذا قصورا من الدكتور مؤنس.. ولكنه في جانبه الآخر أن ما قدم لحمزة شحاتة لا يتناسب وقيمة حمزة شحاتة عندنا.. تلك القيمة التي يمكن أن تفرض ذاتها على الآخر. إذن والحالة هذه فإن المنشور انعكاس للواقع. تذكرت ذلك اللقاء الذي تم ذات ليلة في الرياض، عندما عبر صاحب كتاب “صدمة الحضارة” د. صموئيل هاننجتون عن دهشته التي ملأت عليه نفسه فارتسمت على محياه بعد ذلك الحوار الذي أجراه مع ذلك الرجل الذي يصر في أحاديثه على أنه رجل لا يحمل الابتدائية.. ولكنه طالب معرفة يحاول أن يكتسبها من الحياة، ذلك الرجل الذي تلمس في كلماته كبرياء ابن الصحراء.. وتشعر في نظراته فراسته وحدته.. هذا الرجل يقول عنه “د. صموئيل” معبرا عن دهشته: “إنني عندما عزمت على المجيء إلى هنا قال لي بعض الأصدقاء: إذا ما ذهبت إلى “السعودية” عليك أن تلتقي “عبدالعزيز التويجري” رحمه الله - وأعتقد أنهم على حق فيما نصحوني به.. إنني أعترف بأنني عرفت الكثير مما كنت أجهله.. بل إنني تعلمت الكثير”. لم يقل “صموئيل” هذا القول إلا بعد أن أخذه ذلك الحوار الدقيق والذي كان يحمل في منهجه دقة المطروح مع بساطة التناول، تلك البساطة الواعية التي بهرت صاحب أخطر مؤلف “صدمة الحضارة” فجعلته يقول كل ذلك الإعجاب والانبهار. وكأنني به قد أصيب بما أسميه “بصدمة التويجري” الذي استطاع أن يصل إلى لب الرجل عندما قال له في ثنايا الحوار إن العقل متحرك وهو قيمة الإنسان.. فاليوم ليس الأمس وغداً ليس هو اليوم، فالعقل لا يتجمد لأنه إذا ما تجمد – مات – فهو يسع كل هذا الكون، فأنا أؤمن بأن العقل لا يحد وهو متطور على الدوام فمثلا لو أتيت لي قبل أربعين عاما قد لا أستقبلك في بيتي لأن هناك “وَحْشهْ” الآن أنا سعيد بأن أراك هنا.. هذا التغير في الفهم أتى وتفكيري وعقلي لم يكن جامدا عفوا لا تفهم أنني أمتدح نفسي – أعوذ بالله فالإسلام دين العقل ودين الحوار.. فهو يرفض العنف والعدوان، فالله سبحانه وتعالى يقول للرسول محمد صلى الله عليه وسلم: “اُدعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم”. هذا هو خلق الإسلام، فلا عنف ولا إرهاب.. ولكنه عقل وحوار، وهو ما دعت إليه كل الأديان السماوية في صفائها. إن الحوار مع أمثال هؤلاء يعطي لهم منافذ أكبر وأكثر للدخول إلى عالمنا.. الذي يتعامل معه البعض “سماعي” فيحكمون علينا بالهوى، ولعل إحدى مميزات هذا الانفتاح على الآخر وإجلاسه على رمال “صحرائنا” ليتصفح خطابنا.. بدل أن يقرأ عليه.. فلا يفهمه لأن القراءة في الغالب تكون مغلوطة لأن من يقوم بها أناس لهم أهواؤهم وأغراضهم الذاتية.. لهذا كم هو رائع هذا الذي تنهجه.. في عمقه الأبعد.. والأشمل.