- قال إمام وخطيب المسجد الحرام، فضيلة الشيخ الدكتور فيصل بن جميل غزاوي، في خطبة الجمعة اليوم: فمن رحمة الله بالعباد أن هداهم إلى صراطه المستقيم، وبيَّن لهم الحق ليتبعوه، والباطل ليجتنبوه وقد تكفل الله عَزَّ وَجَلَّ لمن اتبع هداه بألَّا يضل ولا يشقى قال سبحانه: (فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى). وأَوْضَحَ أن من اتبع الهدى واستقام على الحق فإنه لا يضل في الدنيا، بل يكون مهتدياً مستقيماً ولا يشقى في الآخرة، بل له الجنةُ والكرامة، ومن أعرض عن كتابه وسنة رسوله صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولم يتبع الهدى فإن له معيشة ضنكاً، وهي ما يقع في قلبه من القلق والضيق والحرج، وهذا من العقاب المعجل، وله يوم القيامة العذابُ الأليم في دار الجحيم. وهكذا أيها الإخوة، فإما أن يتبع المرء الحق الذي أنزله الله، والهدى الذي يهتدي به الخلق، وإما أن يضل ويخسر: (فماذا بعد الحق إلا الضلال). وتابع: قال ابن القيم رَحِمَهُ اللَّهُ: "كل من أعرض عن شيء من الحق وجحده وقع في باطل مقابل لِما أعرض عنه من الحق وجحده ولا بد، حتى في الأعمال من رغب عن العمل لوجه الله وحده، ابتلاه الله بالعمل لوجوه الخلق فرغب عن العمل لمن ضره ونفعه وموته وحياته وسعادته بيده، فابتلي بالعمل لمن لا يملك له شَيْئَاً من ذلك، وكذلك من رغب عن إنفاق ماله في طاعة الله ابتلي بإنفاقه لغير الله وهو راغم، وكذلك من رغب عن التعب لله ابتلي بالتعب في خدمة الخلق ولا بد، فليتأمل من يريد نصحَ نفسِه وسعادتَها وفلاحَها هذا الموضعَ في نفسه وفي غيره". وأبان أن الناظر إلى واقع المسلمين اليوم ليرى ما يورث الحزن والأسى؛ بسبب ما يقع فيه كثير منهم من المخالفة لكتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والجفاء لأوامرهما وارتكاب نواهيهما وهجران السنة، ومعارضة النصوص الشرعية بالمعقولات والأذواق والأقيسة والعادات. وتابع، أيها الإخوة: إن الإعراض عن وحي الله تعالى له مظاهر كثيرة في واقع الأمة اليوم، فمن ذلك: تلقي الدين من غير أهله، بأن يَأْتِي أناس لا علم عندهم وهم أبعد ما يكونون عن التمسك بالدين، والالتزام بشرع الله فتُجعل لهم دعاية وتُضفى عليهم الألقاب ويروج لفتاواهم وأطروحاتِهم، وهم ليسوا بأهل للفتيا ولا الاجتهاد، ومع ذلك يأخذ الناس عنهم وينخدعون بهم ويثقون فيهم ولا يميزون بين من يُرشدهم وينصحهم وبين من يضلهم ويلبِّس عليهم، ولقد صح عن النبي صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" رواه أحمد والدارمي من حديث ثوبان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فحذارِ أخي المسلم أن تَتَلقى العلمَ من غير أهله المعتبرين؛ ولذلك قال ابن سيرين: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.وفق "تواصل". وأَوْضَحَ، من مظاهر الإعراض عن الوحي: تأويل النصوص على غير حقيقتها وتفسيرُها على غير مراد الله، وهذه طريقة كثير من أهل الأهواء فهم لا يغيرون نص الآية أو الحديث لكن يغيرون في تفسير الآية وشرح الحديث فتبقى الألفاظ لكن معناها محرف ومبدل. وأردف "غزاوي" أن من مظاهر الإعراض عن الوحي أيضاً: وضعُ النصوصِ رهينة للمنطق البشري ومحاكمتُها للعقل البشري القاصر. وأَوْضَحَ، عباد الله: ومن مظاهر الإعراض عن الوحي: اعتقادُ أن الشريعة لا تفي بحاجات الناس في هذا العصر، وأن أحكامَها جامدة وأنها لا تصلح للتطبيق في الواقع المعاصر، وهؤلاء يريدون تنحيةَ الشريعة عن الحكم، واستيرادَ المناهجِ الغربيةِ والقوانينِ الوضعية، فيا ويحهم أنى يؤفكون؟ وتابع، ما حجة من ينحي شريعةَ الله عن حكم الحياة، ويستبدلُ بها شريعة الجاهلية: (أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون). وأَشَارَ إلى أن من مظاهر الإعراض عن الوحي: تركُ بعضِ الْكِتَاب وَالسُّنَّة إذا كانت الأوامر تتعارض مع المصالح الشخصية، أو تفوت على المرء منافعه الخَاصَّة، قال الله منكراً على من يفعل ذلك: (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض) ومن مظاهر الإعراض عن الوحي: مناقضة صريح الْكِتَاب وَالسُّنَّة، ومن مظاهر الإعراض عن الوحي البعد عن منهجه القويم وصراطه المستقيم بالجنوح إلى تفريط وإضاعة، أو إلى إفراط وغلو مع أن الإسلام قد جاء آمراً بالاعتدال والاقتصاد والوسطية في كل أمر، حتى مُيزت هذه الأمة وخُصت بذلك، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً﴾. قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: "ولما كان الوسط مجَانِبَاً للغلو والتقصير كان محمودا؛ً أيْ هذه الأمة لم تغلُ غلو النصارى في أنبيائهم ولا قصروا تقصير اليهود في أنبيائهم". وأَضَافَ أن وسطية هذه الأمة مستمدةٌ من وسطية منهجها ونظامها، فهو منهج وسط لأمة وسط، منهج الاعتدال والتوازن، فلا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير، ولا تشدد وتنطع ولا تهاون وتساهل. وأَشَارَ إلى أن من مظاهر الإعراض عن الوحي عدم الاقتصار في جانب العبادة على ما ورد في الْكِتَاب وَالسُّنَّة، بل تجاوز ذلك بالتعبد بالمحدثات في الدين وما لم يأتِ به الشرع المبين كالاحتفال ببعض المواسم والمناسبات، وإحياءِ لياليها بالقيام وصيام أَيَّامها والصدقة فيها، وكثرة الذكر تقرباً إلى الله، ففي شهر رجب تشيع أحاديث كثيرة لا زمام لها ولا خطام، بل هي كما بين العلماء موضوعة مكذوبة، ومع هذا يخص بعضهم هذا الشهر وليلة سبع وعشرين منه خَاصَّة بما لم يرد عن النبي الكريم الذي أنزل عليه الوحي، بل قال صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَذِّرَاً: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وفي رواية لمسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) ولم يثبت عن النبي صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اعتمر في رجب، بل أنكرت ذلك عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، وقَالَتْ: (ما اعتمر رسول الله صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في رجب قط) متفق عليه والجزم بتحديد ليلة الإسراء والمعراج لا يثبت قال ابن تيمية رَحِمَهُ اللَّهُ: "لم يقم دليل معلوم لا على شهرها، ولا على عشرها، ولا على عينها، بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يُقطع به". وأَوْضَحَ أنه لو ثبت تعيين ليلتها لما شرع لأحد تخصيصُها بشيء من العبادات؛ لأنه لم يثبت عن النبي صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا عن أحد من صحابته أو التابعين لهم بإحسان أنهم جعلوا لليلة الإسراء مزية عن غيرها، فَضْلاً عن أن يقيموا احتفالاً بذكراها، بالإضافة إلى ما يتضمنه الاحتفال بها من البدع والمنكرات، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، ويرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يحيينا مؤمنين ويتوفانا مسلمين، ويلحقنا بالصالحين. وأردف فضيلته في خطبته الثانية قائلاً: يتعرض التمسك بالوحي لهجمات شديدة، ومؤامرات عظيمة، ويتقبل كثير من المسلمين ما يواجهون به من غزو فكري، ودعوات آثمة للانسلاخ من الدين؛ بسبب ما هم فيه من الجهل والانغماس في الشهوات واتباع الهوى، ويتأثرون بما يروِّج له الأعداء عبر الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، وما يضِج بكثافة من دعوات للافتتان بأشياء مخالفة للوحي يروجون لها ويلبِّسون على الناس بها ويزعمون أنها من الدين. وتابع، معاشر المسلمين: علينا أن نتأكد ويستقر في قلوبنا أن كل ما يلحق الأمة المسلمة من ذلة ومهانة وتخلف، فهو نتيجةُ مخالفة الوحيين: (وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير). وأَشَارَ إلى أن ما تصاب به الأمة من الهزيمة والمصائب فيه عظة وتذكرة، فلعل العباد يؤوبون إلى رشدهم، ويعودون إلى الحق الذي تركوه كما قال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون)، ومتى رجع العباد وغيَّروا ما بأنفسهم من عقائد باطلة ومفاهيم خاطئة، واستبدلوا بها ما جاء في كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى الَّلهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا فعلوا ذلك أصلح الله حالهم وأحسن مآلهم: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، وأما إذا تمردوا وبقوا على عصيانهم أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، وسنة الله ماضية لا تحابي أحداً. وما أهونَ الخلقَ على الله إذا هم عصوا أمره وخالفوا شرعه. واختتم فضيلته خطبته قَائِلاً أيها الناس: علينا أن نتمسك بشرع ربنا، ونعملَ بالْكِتَاب وَالسُّنَّة في واقعنا، ولا نحيدَ عنهما قِيد أُنملة؛ إذ إن حياة الأمة مرتبطةٌ ثباتاً ونُمُوّاً وارتقاءً، بقدر ما نُحييه من العمل بالوحيين الشريفين.