قال تعالى ﴿ ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا﴾ يُرَجِّح أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ويَنْقُل عن جمهور المفسرين:أن الذي سمانا المسلمين هو الله سبحانه وتعالى ، خلافاً لبعض المفسرين الذين يرون أن الضمير هوراجع إلى أبينا إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم ؛ ويؤيد الطبري ماذهب إليه بأن إبراهيم لم يسمنا مسلمين في هذا القرآن بل الذي سمانا مسلمين فيه هو الله عز وجل فيكون سبحانه هو الذي سمانا مسلمين من قبل وفي هذا، كما نصت الآية. فتسمية هذه الأمة بهذا الاسم العظيم اختصها الله به فيما أنزله على رسله من الكتب السابقة وفي هذا الكتاب العظيم الذي اصطفى به محمداًصلى الله عليه وسلممن بين سائر الرسل ، واصطفانا به من بين سائر الأمم. هذا الاسم العظيم يعود إلى الجذر اللغوي سلم ومعظم بابه كما يقول ابن فارس دال على معانً تجتمع على الصحةِ والعافيةِ ،والشاذُ عن ذلك قليل ؛ فيأتي دالاً على الخلوص من العاهات والأمراض ، ودالاً على الأمن ،والطمأنينة ،والصلح ، والانقياد والخضوع اللذين هما في دين الإسلام لا يكونان لغير الله ، والسلامُ من أسماء الله ، ومن أسماء الجنة ، وتحية المسلمين في الدنيا وليس ذلك لأمة غيرهم ، وتحية أهل الجنة في الجنة . ولو تأمل كل مسلم هذا الاسم وسار في أخلاقه وعلاقاته مع الخلق ومع الخالق بما يستفيده من المعاني المشتقة من هذا الاسم لأفلح فلاحاً عظيما ؛ ولا ينبغي لطائفة من المسلمين أن تتخذ بديلاً عن هذا الاسم للتعبير عن دينها الذي هو منهج حياتها وعلاقتها بربها وبالكون وسائر مناحي الحياة ؛ فلا خيار لأحد مهما عظم عِلْمَاً ومكاناً بعد خيار ربنا عز وجل {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. لكن ما كادت تمضي على وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثون عاماً حتى نشأ من المسلمين الحدثاء وأبنائهم من تفرقوا في الدين واستحدثوا فيه أقوالاً ليست منه ، وذلك نتيجة بغيهم على أهل العلم من الصحابة والتابعين وتلقيهم النصوص الشرعية على غير مسالك الفهم التي تثمرالاستنباط الصحيح للأحكام ، فحلَّت بالأُمة آفة التفرق في الدين التي حلت بالأمم السابقة ؛ فكان لزاماً على أهل الحق تمييز المفارقين له بأوصاف تشير إلى ما جنحوا إليه من ابتداع ؛ وتمييز أنفسهم بما يدل على الحق الذي عندهم ؛ فكان أعظم خصائصهم التي فارقهم الأقوام فيها: لزوم سنة النبي صلى الله عليه وسلم من حيث القبول ؛ إذ يرون عدالة جميع الصحابة فينقلون عنهم ما رووه عن نبيهم ، ويقبلون خبر الواحد في كل أبواب الفقه والاعتقاد ويقدمون النصوص على مآخذ العقول ، ويرون موافقة العقل للنقل ، وما ظهر فيه خلاف بينهما فالمقدم هو صحيح المنقول . فكان وصف أهل السنة مما لا يمكن لمخالف منازعتهم فيه . ثم لما حدثت الفتن في أواسط عهد بني أمية ، والتي اختلطت فيها أخبار الملاحم في آخر الزمان بأحاديث لزوم الطاعة ، ولم يتمكن الفقهاء بعدُ من تحرير الموقف الأصولي حين تعارض هاتين الفئتين من الحديث ، فوقع جمهورٌ من ثقات التابعين في خطأ تنزيل أحاديث الملاحم على الواقع ، فخرج أهل المدينة في الحرة معتقدين أن هذا أوان جيش الشام الذي سيُخسف به ؛ وخرج جيش خراسان معتقدين أن عبدالرحمن بن الأشعث هو القحطاني الذي تحدث الرسول عنه . وبعد انقضاء هذه الفتن عرف الجميع أن الحق في نَهْي من نَهَى عن تنزيل أحاديث الملاحم والفتن على الواقع ، وأن الصحيح هو العمل بأحاديث لزوم الجماعة لأنها أوامر ونواه ، والأمر والنهي في باب الدلالة مقدم على الخبر ؛ وظل على خلاف ذلك بعض الفقهاء المنتسبين إلى السنة ،وسائر طوائف الخوارج والمعتزلة والشيعة ؛ فجاء عند ذلك إلحاق وصف أهل السنة بأهل الجماعة ، لأنه ليس كل من أخذ بالسنة آخذ بلزوم الجماعة ،فكان قَرْن الوصفين محدِّداً ومميزاً للمسلمين الباقين على ما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم . لكن آفة الافتراق في الدين دخلت على هؤلاء المنتسبين إلى السنة والجماعة ؛ فخرج منهم من لا يشترط العمل في الإيمان ، ثم من يستثني خبر الواحد من القبول في أبواب الاعتقاد ، إذا جاء على خلاف ما يعقله هو ، ثم من يأول بعض صفات الله عز وجل ليصل إلى نفيها عنه سبحانه ، ثم من يعتقد أن الله حالٌّ بذاته في خلقه ومن يعتقد أن الله تعالى يُعبد بما لم يشرع ، ومن يستغيث ويتوسل بالموتى ومن يشهد لمعينين بالولاية ويتخذهم وسطاء بينه وبين ربه أو يخرق لهم كرامات وأحوال جعلت ما في قلوبهم من خوف ورجاء ومحبة للمخلوقين من الأموات مزعومي الولاية أعظم مما في قلوبهم لله تعالى ، وكَثُر ما يخترعونه أو ينقلونه من النِّحَل الأخرى من خرافات ويصبغوا به الإسلام مع انتسابهم لأهل السنة والجماعة . فأصبح الانتساب إلى السنة والجماعة لا يُطابق واقع حال الناس من خلاف للسنة ومفارقة للجماعة ، ليس في حياتهم العملية وحسب بل في تأصيلهم ، إذ أصبحت كل تلك البدع وأعظم منها تُؤَصَّل وتُخَرَّج على أنها هي السنة وهي الجماعة ؛ويُفْتَى بكفر من خالفها وجواز قتله وقتاله ، كما حصل مع ابن تيمية ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهاب وغيرهم رحمهم الله تعالى. فكان لزاما أن يُمَيَّز الباقون على المنهج الأصل بمصطلح يُعرفون به حتى لا يذوب ما معهم من أثارة العلم ونضارة الحق في غمرة تلك المستحدثات ؛ فكان اتِّباع السلف من الصحابة وتابعيهم في فهمهم للدين هو سِمَتُهم التي لا يشاركهم غيرها فانتسبوا إليهم في فهمهم للإسلام بعد انتسابهم للإسلام عقيدة وشريعة ومنهج حياة. وكان لهم على صحة ما ذهبوا إليه أدلة قاطعة في معناها قطعية في ثبوتها ، ومنها قوله تعالى﴿ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا﴾ [النساء: 115] فأولَى من يصدق عليهم وصف الإيمان هم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين شهد لهم رب العزة في كتابه بأنهم المؤمنون حقا ﴿والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقا لهم مغفرة ورزق كريم﴾ [الأنفال: 74] فكان اتباع سبيلهم حتم لازم فهو السبيل الذي زكاه الله وذمَّ وتوعد من خالفه ، وكان الانتساب إليهم انتساباً لأصل الدين وحقيقته وصفائه. وكان من معالم سبيلهم الذي أثنى الله عليه وأمر باتباعه وذم ما عداه : فَهْمُ الكتاب والسنة على وفق أفهام العرب ، فلا تأويل ولا تعطيل ولا معنى باطناً ومعنى ظاهراً ؛ ولا يعملون بالمتشابه حتى يعرضوه على المحكم ، ولا يُبَيِّنُون المجملات بعقولهم وآرائهم قبل أن يُفْرِغُوا الوسع في البحث عن بيانها في نصوص الشريعة ؛والمصالحُ عندهم ما شهد الشرع لها ،والمفاسد ما شهد الشرع عليها ، وكل ما يراد به الثواب ويُتقى به العقاب فهو عبادة ولا يعبد الله إلا بما شرع وكيفما شرع ، كما لا يُعصى إلا باقتراف ما منع ، وما كان ذريعة إلى طاعة فهو طاعة يجب فتحها وما كان ذريعة لمعصية فهو معصية يجب غلقها . وسبيل المؤمنين التي نهى الله عن مفارقتها هي سبيله سبحانة التي أمر بالدعوة إليها ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين﴾ [النحل: 125] فمن تخلى عن الحكمة والإحسان في الموعظة والجدال فقد فارق منهج السلف في هذا وإن وافقهم في الفقه وأصول الاعتقاد لأن من أراد أن يدعو إلى سبيل الله بغير الطريقة التي عَلَّمَ الله فقد اتبع غير سبيل المؤمنين التي زكاها الله . ومخالفة سبيل المؤمنين لا تعتبر بأفراد المسائل التي قد يزل فيها العالم ، وإنما تعتبر بجعل المخالفة في باب من الأبواب أصلاً ، فمن أوَّل بعض الصفات مثلا لا يحكم عليه بمخالفة منهج السلف في الصفات إلا إذا كان الأصل عنده هو التأويل وعدم الإجراء على الظاهر ؛ وسبيل المؤمنين ليس هو قول إمام بعينه ، بل ما اجتمعوا عليه من أصول الدين والقواعد التي تستنبط بها أحكام الفروع ، كالاستدلال بالكتاب جملة وبالسنة جملة وبالإجماع والقياس جملة ؛ ثم تأتي قواعد فرعية في الاستدلال يختلفون فيها وفق قواعد علمية ينبني عليها اختلافهم في الفروع العملية ويعذر بعضهم بعضا فيها . فسبيل المؤمنين هو الفهم الصحيح للإسلام ، وهو الفهم الذي يتمكن من العالم فتصطبغ به نظرته لكل ما حوله من معالم الكون وحياة المجتمعات واقتصادياتها ، وموارد الكون ، وتاريخ الأمم ؛ وإن قُلْتَ إن شأنه في ذلك هو شأن جميع الفلسفات الكلية التي عرفها تاريخ الحضارة في العالم كفلسفة أرسطو التي تصبغ نظرة صاحبها إلى نفسه وكل ما يحيط به ، قلت لك: حقاً ، بل رؤية الإسلام إذا تمكنت من صاحبها كانت أشد تأثيراً عليه في موقفه من كل شيء ، بل إنها تُكسب صاحبها ما هو فوق ذلك وهو الحدس والفراسة واستشراف المستقبل ، ووزن أقوال الآخرين وأفعالهم . وكلما كان الإسلام في النفس والعقل والممارسة أكثر نقاء من الشوائب وأبعد عن البدع وأقرب إلى الأصل الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم ،كلما كانت نظرة صاحبه إلى الماضي والواقع والمستقبل أقرب إلى النقاء وأبعد عن شائبة الظلم والجهل والعدوان والعجلة والهوى . ولا يؤتى المؤمن في نظرته لما حوله إلا من تلقاء نفسه من غلبة للهوى في رأي معين أو ضعف في استكمال أدوات المعرفة فيما يبدي الرأي فيه ، أما إذا تخلص من هواه وكملت أدوات العلم عنده فإنه يكون بتوفيق الله له أقرب لسداد الرأي ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾ [العنكبوت: 69] فالجهاد في الآية المراد به الثبات على الإيمان والعمل بالعلم وإقامة السنة وابتغاء مرضاة الله، وليست على الراجح خاصة في الجهاد العرفي لأنها نزلت قبل فرضه كما ذكر ذلك السدي ونقله عنه ابن عطية والقرطبي وغيرهما وإن كان يدخل فيها ؛ لكن مبتغانا من الآية هنا أن الإيمان وحسن الاتباع للشرع كم جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وكما هو سبيل الرعيل الأول مظنة زيادة البصيرة والتوفيق إلى الحق كما قال تعالى﴿يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا) [الأنفال: 29] وقوله سبحانه﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم) [الحديد: 28] وقولهواتقوا الله ويعلمكم الله)[البقرة282] فمن يسير على منهج السلف في فهمه للدين وعمله به أحرى بالحق وبالنظر الصائب حين تدلهم الخطوب ويكثر اللغط وتضيع الحجج . وسبيل المؤمنين وهم السلف رضي الله عنهم هو النهوض بالدين ليطبع حياة الناس ويشكلها كما يريد وليس الانطباع والتشكل كما يريد الناس ؛ فالصحابة شكَّلُوا حياة العرب والفرس والترك والقبط والروم والبربر كما هي تعاليم الدين كما فهموها عن كتاب الله وسنة نبيهم ، ولم يجعلوا الدين يتشكل وفق هيئات تلك الأمم الموروثة وطبائعها وعاداتها ؛ فهو يحقق مفهوم الأمة الواحدة تحقيقاً لا يقتصر على وحدة القناعات العامة ؛ وإنما يُصِر على أن تكون القناعات العامة إحدى مظاهر وحدة الأمة وليست كلها ؛ فالأمة ذات دين واحد ، والدين ليس علاقة العبد بربه وحسب بل هو نظام العبد في شأنه كله من عبادته حتى لباسه وطريقة كلامه . ولهذا يستعصي الإسلام الحق عن أن يخضع لأي شكل من أشكال القيم ليست من إنتاجه ؛ ولا يتسامح في العادات والطبائع الموروثة إلا مع ما يمكن أن يتلائم مع قيمه . وهذا في الحقيقة هو سر الجفوة اليوم بين العالم والسلفية ؛ فعالم اليوم يطلب دينا صلصالياً يتشكل كما يراد له ، والسلفية على عكسه تريد عالما صلصاليا يتشكل كما يريد النص الشرعي أو الأدلة المنبثقة منه . د محمد السعيدي