عندما تعطل محرك هام في أحد مصانع الشركات الغربية الكبرى ، ولم ينجح مهندسو الشركة في اكتشاف سبب العطل ، لجأت الشركة للاستعانة برأي خبير في هذا النوع من المحركات بدلاً من تفكيك الماكينة الضخمة .. وعندما حضر الخبير ، وتفحص أجزاء المحرك البخاري بتمعن ، أحضر مطرقة وضرب على جزء محدد من المحرك فبدأ بالعمل بصورة طبيعية ولم يستدع الأمر سوى دقائق عمل قليلة ، وتمكن المصنع من معاودة الإنتاج . لكن القصة لا تنتهي هنا !! فعندما أرسل الخبير فاتورة الإصلاح إلى الشركة كانت عشرة آلاف دولار ، ولم يرق الأمر لمالك المصنع حيث رأى أن في الأمر مبالغة في تقدير تكاليف عمل الخبير ، وأراد إحراجه فأعاد الفاتورة مع خطاب يطلب فيه تفصيل تكلفة عملية الإصلاح .. وكان رد الخبير كالتالي : دولار واحد ثمن طرقة واحدة بالمطرقة . 9999 ثمن خبرتي لأنني عرفت أين أطرق وكيف .؟؟؟ وبغض النظر عن تفاصيل القصة ، فإنها تقودنا إلى دلالات هامة وحساسة ، وهي تقدير الخبرات المتراكمة والرأي واستثمارها ، ففي معظم سياقات حياتنا وممارساتنا المهنية والاجتماعية لا يبدو الناس شديدي الحماس لاستيعاب الآراء أو استثمار الخبرات ، فضلاً عن دفع ثمن مناسب لشراء رأي أو خبرة ، في مقابل تقدير كبير للعناصر المادية واستعداد أكبر لدفع كامل ثمنها . إن هذا يقودنا لفهم أحد الأسباب لتعثر كثير من المشاريع ، وتعرضها لمعوقات وإشكالات كان من الممكن تجاوزها أو حتى عدم حدوثها .. ولهذا نجد أن ميزانيات ضخمة تستنزف من أجل شطحات فردية ، أو رؤية غير قادرة على تصور الواقع وأبعاده وينتج هذا في مظاهر واضحة للعيان تؤثر على حياة الناس بشكل مباشر ولا يكادون يجدون لها تفسيراً مناسباً ؛ ابتداءً من مشاريع حفر وإصلاح تبدو غير نهائية مروراً بسرير غير متاح في مستشفى وطالب يحتاج والده إلى شفاعة لإلحاقه بكلية أوبمدرسة !! .. إن الحقيقة التي يجب أن نصغي إليها جميعاً إن خطأ واحداً في التقدير قد يفضي إلى نتائج ضخمة وغير متوقعة على المدى الطويل ، وكلما كان القرار أو الرأي مهماً تضاعف تأثيره وعاقبته ، وكلما ازداد تراكم الآراء الخاطئة ، أو غير المبنية على رؤية واستشراف سليم ، كلما دقت مسماراً في نعش المؤسسة وفي مستوى الإنتاجية أو الخدمة المقدمة . إن ما نشاهده يومياً في محيط حياتنا يؤكد وجود حالة من انعدام الوزن وغياب الرؤية وتهميش الخبرات بشكل مستمر ، ويجعل العمل المؤسسي في دائرة من الفراغ المعرفي والمهني مما يؤدي إلى تكرار العمل بنفس الطريقة التي أنتجت المشكلة مما يؤدي بالعمل إلى الدوران في حلقة مفرغة لا نهاية لها يعاد فيها إنتاج أخطاء الماضي ..! إن غياب الرؤية السليمة عن المسؤول ، وعدم الاستعانة بالرأي ، أو الاستجابة له ناتج عن مجموعة من الأسباب أهمها ، ضعف الانتماء للمنشأة وعدم الاهتمام ، أو الشعور الوهمي بالكمال ، أو الاستعانة بالجهات أو الأفراد غير المؤهلين لتقديم المشورة أو الرؤية المناسبة ، أو ضعف الصلة بالواقع بشكل يجعل المسؤول أو صانع الرؤية يعيش بعزلة عن واقعه ومحيطه الاجتماعي بشكل يجعله عاجزاً عن استيعاب احتياجاته أو تقييم المتطلبات بشكل صحيح ، أو عدم القدرة على ترتيب الأولويات بما يحقق الهدف . وبقدر ما تتطور بنية المجتمع الحضارية في العالم المتقدم يزداد احترامه للرأي والفكرة والابتكار ، ونجد المؤسسات المدنية والحقوقية تصرف جزءاً كبيراً من ميزانياتها للإنفاق على الاستشارات والرؤى والخطط المناسبة لتحقيق أهدافها ، في الوقت نفسه نجد أن هذا الجانب يقع في ذيل اهتمامات المسؤول ، إن لم يكن غير مستوعب لأهميته على الإطلاق ، بل إن بعض المسؤولين قد يهتم بالحصول على المشورة والاستماع للرأي الخبير بشأن موضوع شخصي عادي وغير مؤثر أكثر من الوقت الذي قد ينفقه على دراسة أو مراجعة أو استشارة الأشخاص المناسبين في موضوع مهني وحساس قد يترتب عليه تبعات كبرى تتعلق بمستقبل المسؤول أو بحياة الناس اليومية في المدى القريب أو البعيد . الطريف أن بعضاً من المسؤولين في قطاعات حيوية وهامة وذات تماس مباشر بحياة الناس اليومية قد يفتقرون للإلمام بأبسط الأرقام الضرورية اللازمة لتكوين الرؤية المناسبة أو استشراف المستقبل ، أو التخطيط بصورة مناسبة . إضاءة : قد تنجح في صناعة حل آني لمشكلة ما من خلال قرار سريع غير مدروس ، لكنك بذلك قد تسهم في تكوين مشكلة تستعصي على الحل في المستقبل ... أحمد بن عبدالله أباالخيل [email protected]