حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    وطن الأفراح    حائل.. سلة غذاء بالخيرات    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    الشيباني يحذر إيران من بث الفوضى في سورية    رغم الهدنة.. (إسرائيل) تقصف البقاع    الحمدان: «الأخضر دايماً راسه مرفوع»    تعزيز التعاون الأمني السعودي - القطري    المطيري رئيساً للاتحاد السعودي للتايكوندو    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    46.5% نموا بصادرات المعادن السعودية    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    مليشيات حزب الله تتحول إلى قمع الفنانين بعد إخفاقاتها    الأبعاد التاريخية والثقافية للإبل في معرض «الإبل جواهر حية»    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    جدّة الظاهري    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    5 علامات خطيرة في الرأس والرقبة.. لا تتجاهلها    في المرحلة ال 18 من الدوري الإنجليزي «بوكسينغ داي».. ليفربول للابتعاد بالصدارة.. وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    ارتفاع مخزونات المنتجات النفطية في ميناء الفجيرة مع تراجع الصادرات    وزير الطاقة يزور مصانع متخصصة في إنتاج مكونات الطاقة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    أمير الشرقية يرعى الاحتفال بترميم 1000 منزل    الأزهار القابلة للأكل ضمن توجهات الطهو الحديثة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    مسابقة المهارات    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    وهم الاستقرار الاقتصادي!    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    %91 غير مصابين بالقلق    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    البحرين يعبر العراق بثنائية ويتأهل لنصف نهائي خليجي 26    التشويش وطائر المشتبهان في تحطم طائرة أذربيجانية    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    حرس حدود عسير ينقذ طفلاً مصرياً من الغرق أثناء ممارسة السباحة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    ملك البحرين يستقبل الأمير تركي بن محمد بن فهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    نائب أمير منطقة مكة يرأس اجتماع اللجنة التنفيذية للجنة الحج المركزية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السوق الأول ( الحلقة العاشرة)
نشر في عاجل يوم 22 - 07 - 2013


الحلقة العاشر
السوق الأول .
صحراؤنا وكل الصحاري المماثلة دائماً ما تدفن تاريخها وأثارها وأفعالها التي راحت , وإن حاولت أن تقتفي أثرها وتفهم شيئاً عنها فإنك تُصدم في سُراب يتبعه سُراب , لاتعثر على ماءٍ ولا على دلائل ترشدك إليها ولا إلى تاريخها , ماعدا أولئك الحكواتيين الذين يكررون كلاماً لا نثق به , ولكن شهود العيان هم الوسيلة الوحيدة , وهم صك الإثبات الوحيد بالرغم من الزيادة والنقصان والمبالغة لذلك سأعتمد على شهادتي وذكرياتي التي أعرفها عن هذا السوق العظيم .
كل مازودتنا به المراجع التاريخية أنه أول سوق نشأ في بريدة , وأول محفل جماهيري يلتقي فيه الناس , وأنه وقبة رشيد نواة بريدة الأولى ربما بالقرن العاشر الهجري وربما بالقرن الحادي عشر.
ما نعرفه نحن وما نعيه أنه سوقاً للحوم ويجمع كل المهن التي تُشتق من الحيوان كالخرازة والدباغة . مهن متداخلة ومتشابكة ويعتمد بعضها على بعض يعج بها هذا السوق , وتعتمد عليها عوائل كثيرة , حصلت لقمتها وعاشت في عزة وشرف في وقت لا يمكن الحصول على اللقمة إلا بشق الأنفس . كان أجمل سوقاً في بريدة تتحرك فيه الأنفس في خفة وجد ونشاط, وكل\" القصاصيب\" يتسابقون في الإبداع واجتذاب الزبائن لعلهم يبيعون لحومهم قبل غروب الشمس وبالتالي فساد هذه اللحوم لعدم وجود الثلاجات والكهرباء , كانت معركة حامية يشتد لهيبها قبل نهاية النهار . يختلط صياحهم مع إغراءات الزبائن مع النكات والتعليقات الساخرة , وتبادل الشفرات التي لا يمكن فكها مهما فعلت. معركة السوق اليومية تجعل العمل قاسي ورتيب لذلك أدخلوا المرح والضحك كنوع من الدعم النفسي المضغوط.اكتشفوا الفكرة النفسية القائلة \"بأن المرح والضحك أثناء العمل يجدد النشاط ويجعل الحياة مقبولة وبالتالي يزيد الإنتاج \"
اكتشفوها قبل قائلها بعشرات السنين فانعكس ذلك على مناخ السوق المرح , ومن أصابه هم, أو غم ما عليه إلا أن يجلس على عتبة إحدى الدكاكين . ويعيش هذه الأجواء المرحة والضاحكة .وبالتالي يعود إلى بيته في حالة سعيدة . كثير من رجالات البلد المهمين يأتون إلى هذا السوق عندما تنتابهم حالة من حالات الاكتئاب, يسمعون النكات ويشاهدون الحث على الشراء ويراقبون تلك الأجسام الأنيقة وهي تتحرك على الأرض ويشاركون القصاصيب في تلك النكات التي تنطلق كالقذائف وهي تنفجر من تلك الزوايا بلا تكلف . وأجمل ما في هؤلاء الأشاوس عميانهم من الجزارين الذين يضعون النكتة مباشرة تجعل القلب المهموم يطير سعادة وفرحاً وعندما يشعرون هؤلاء الوجهاء أن الاكتئاب ذهب عنهم يعودون إلى بيوتهم . مازلنا نسمع تلك النكت يتردد صداها بين أذنينا. أنه غبار الأمس وحكاياته الذي لم يغب عنا لحظة واحدة.
في زمن الاكتئاب الذي نعيشه حالياً دائماً ما نهرب إلى الماضي . نردد أقوالة ونستشفي بروحه . إنه نسيم معركة راحت , بعض رجالها تحت الثرى والبعض الآخر مازال ينهض بتثاقل , يحمل وثائق التاريخ ونتائج الجولات السابقة ويضحك كلما مر بخاطره مقلب سبق أن نظم خيوطه
من ستين أو سبعين دكاناً يحتويها هذا السوق وكلها مبنية من الطين ومسقوفة من خشب الأثل تتكون مهنة أساسية تتفرع منها مهن أخرى تختلط مع بعض وتصبح في النهاية \"سوق عكاظ \".
وبهذه المناسبة العظمى لابد أن نتعرف على الفئات المهنية التي تحتكر هذا السوق .
الفئة الأولى :- الجزارون بائعي اللحوم الحمراء فقط وهم غالبية أهل السوق وهم بيت القصيد . ينادون على لحومهم منذ قبل شروق الشمس حتى ما قبل الغروب . والشاطر بتسويق لحومه هو من يملك الإبداع في وصف لحومه وموهبته الفذة في جذب الزبائن حتى عتبة دكانه يمزج وصفه لمميزات لحمه مع قليل من النكات الجميلة ويضيف عليها قليل من بهارات الأصوات والأهازيج الخافتة حتى يسترخي الزبون ويقطع التفاوض ويدفع المطلوب. ولكن للنظافة والهيئة العامة للدكان وأقمشة الشاش التي يلف بها اللحم دور كبير وعجيب باجتذاب الزبائن . عندما يقترب المساء تشتد صولة السوق وتتعالى الأصوات الجميلة تنطلق من كل زاوية من زوايا السوق وكل ينادي على لحمه من أفواه وأجسام متعافية غذتها تلك الروح الضاحكة دائما وأفضلهم إبداع في جذب الزبائن هو ذلك القصاب الذي يستطيع ترويج لحومه قبل غروب الشمس.
هناك شخص واحد فقط من بائعي اللحوم الحمراء يجلس على عتبة دكانه صامتاً , ولا يقوم بنشر الدعايات للحومه , يجلس في كل طمأنينة,وعندما يأتي إليه زبوناً ينهض لقضاء حاجته بتثاقل ثم يعود إلى مكانه بهدوء,لا يعنيه أن بقي لحمه أو باعه كله فهو غير متحمساً لذلك .عند آذان المغرب يقفل دكانه على ما تبقى من لحم وبعد الصلاة يعود مرة أخرى ولكن لماذا يعود؟!!!!!
لأن هناك عشرات الضيوف الجياع متحلقين حول دكانه ينتظرون طعامهم.
تريدون أن تتعرفوا أيها الأعزاء على ضيوفه ... حسناً.
إنها القطط الجائعة !!!
يسلم على الجميع ثم يدخل إلى داخل الدكان ويشرع في تقطيع ما تبقى من لحوم قطعاً صغيرة تساوي عدد القطط يقذف القطع واحدةً واحدة . وكل قطة تحصل على حصتها تغادر المكان بكل أدب . وإن حصل اعتداء فإنه يهدد المعتدي على زميله بقوة صارمة .
بقى على هذا الحال حتى مات , وعندما مات تبعته بريدة جميعها إلى مثواه الأخير و الناس لم تتوقف من الدعاء له بالمغفرة والرحمة وقد بقيت الناس تتذكره زمناً طويلاً .
سجلي يا\"غينس\" رقماً جديداً قديماً لم يعهده العالم من قبل .
سجلي \"رفيقاً للحيوان \" كان منسي تحت رمال الصحراء , ولم تصل أخباره إلى الدوائر العالمية ,لإنسان يطعم القطط الجائعة , في منطقة جائعة كانت اللحوم فيها تعتبر حلماً من الأحلام لا يناله إلا من وسع الله عليه بالرزق والمال . يقول الذين يعرفونه جيداً أنه لم تتأثر حالته الاقتصادية أبداً بالرغم من أنه استمر عشرات السنين وهو يمارس هذه العادة الجميلة, كان مشهداً ملائكياً عظيم ونحن نأتي كل مغرب إلى هذا المكان ونرقب الوضع باندهاش وحيرة لم نجد لها إجابة. وكل ما خرجنا به من احتمالات أنه شخص من أهل الجنة إن شاء الله.
الفئة الثانية من القصاصيب :- بائعي اللحوم البيضاء, وعددهم أقل من الأولى غالبيتهم من القصاصيب المتقاعدين الذين مرت عليهم سنوات من العمل الشاق أو من الفقراء الذين لا يملكون رأس المال, أو ذوي العاهات مثل العميان الذين أنطفأ نورهم وهم يصارعون الحياة في هذا السوق .
ليس لديهم دكاكين وإنما يفترشون الأرض . يبيعون سواقط اللحوم مثل \"الكرش _والأمعاء\" يسمونها \"الزُبيل\" وكذلك \" الكبد-القلب والكلى-والرأس-والكوارع\" ويسمونها \"القًصابة\" يعرضونها للزبائن بواسطة زنابيل كبيره مصنوعة من خوص النخل على شكل صحنٍ كبيرٍ . زبائنها من الفقراء والمزارعين والمرفهين أيضاً الذين يحبون التنويع في طعامهم . والزُبيل له مذاق جنوني , ولذة عجيبة وتضاف على المرقوق والمطازيز جواً رومانسياً يغري بالنوم المبكر . وتعتبر بديل \"الفياقرا\" لأن لها قوة طبيعية خارقة . جربوها إن أردتم ذلك (ولكنني أخاف أن أتهم بالتشجيع على زواج المسيار) .
الفئة الثالثة :- البخّاصون. جامعوا البخص من السوق .
وهي بقايا العظام , كعظام الساق-والأضلاع الكبيرة – و أخفاف الإبل التي يقذفها القصاصيب خارج محلاتهم . أصحاب هذه المهنة من الفقراء يأتون بها إلى بيوتهم بكميات كبيرة ,و يقومون بطبخها على نار حاميه لمدة طويلة ولكن ليس لأكلها فقط وإنما لتسريب الدهون منها أيضاً,ثم يجمعونها بأطباق ويذهبون بها إلى السوق لبيعها .نعم!!!
إنه ذلك لزمن الفقير الذي أكلنا أطرافه ولا تتعجبوا لو قلت لكم: أن غالبية أفراد هذه المهنة الأليمة هم الآن من أصحاب الأراضي والعقار ركبوا \"اللكززات \" ونحن يا من لم نلمس إلا أطراف ذلك الزمن الفقير مازلنا نركب \"الجموس القديمة \" نعم هل هذه تسمى عدالة التوزيع أم تبادل الأدوار؟؟ .
الفئة الرابعة :- الحزارون \"مصنعوا المحزر \"
وهذه هي صناعتنا البريداوية الوطنية التي نشتهر بها ونفاخر بها القرى المجاورة . ومع ذلك يعيروننا بها .لأنهم لا يستطيعون الحصول عليها بسبب غلاء ثمنها الخيالي .
ونحن نقول لهم: \"تف عليكم حامضة \" ومن غلاء ثمنها تقاس بالملعقة وتشبه في صناعتها ومذاقها الفسيخ المصري , و الجبنة الرومية قريبة الشبه ,
وهاهي الحضارات القديمة تصنعها ,ولما لا نكون متحضرين مثلهم
\"واللي ما يقدر الصقر يشويه \" هكذا نرد على هجومهم وعموماً هي أفضل كثيراً من الكراث !!!!!
هي عبارة عن شحوم يعاد تركيزها عشرات المرات . ويصبح مفعولها أكثر تركيزاً من الشحوم العادية . ويكفي للطبخة الواحدة نصف ملعقة منها تعوض الشخص عن اللحوم ومادة البروتين .
مشكلتها في صناعتها وفي رائحتها التفجيرية التي تغرى على الانتحار تستمر رائحتها في الفم والجسد عدة أسابيع , ولو شئت أن تتخلص من رائحتها لا تستطيع حتى لو ذهبت إلى حمامات تونس البخارية الشهيرة أو أخذت دشاً ساخناً من خليط العطورات الفرنسية , أو حتى استبدلت جلدك وفمك بأفواه وجلود عارضات الأزياء الأسبانية, أو حتى فجرت نفسك بقنبلة نووية !!! سوف تبقى آثار الرائحة في مكان الانفجار .
ذكرني هذا بذلك الزمن البعيد . عندما كنا ندرس الإبتدائي . وكان بعض المعلمين من الأخوة الفلسطينيين إذا جاؤوا أول مرة للفصل يأتون وهم يلبسون الملابس الفرنجية والكرفتات , وداهنين شعورهم بالكريم المعطر الرائحة . ولابسي أحذية تلمع من النظافة . أقول عندما يأتون بهذه الطريقة .يفاجأون بهذه الرائحة العظيمة .. رائحة المحزر المختلطة مع رائحة البول ورائحة الأطعمة المتعلقة على الثياب . وتلك الثياب التي لا تُخلع إلا مرةً واحدةً في السنة . وهذا الفصل الضيق جداً والمبنى من الطين وعدم وجود التكييف . وهو قادم من البعيد يقطع السهاد والوهاد .
بلا طرقات مسفلتة من الشام إلى بريدة . كيف بالله أن تتصور المشهد والمفاجأة العظمى التي سوف يواجهها هذا المعلم الذي حكم عليه القدر بالإعدام . بعضهم يسقط مغمياً عليه . ومن لديه مقاومة يأتي من الغد وهو متلثماً بشماغ ويقاوم بشراسة حتى( يقضي الله أمراً كان مفعولا).
يستخدمون في صناعة المحيزرة\"الشحوم الثقيلة مثل شحوم الإبل\".
يعبئون هذه الشحوم داخل كرش الخروف حتى تكون على شكل كرة قدم كبيرة, ثم يضعون في فتحة الكرش نوع من العظام التي تشبه الماسورة ذات فتحة ويربطونها جيداً بفتحة الكرش حتى تستطيع الكرش أن تطرد الغازات التي في داخلها حتى لا تنفجر, ثم تعلق في سقف الغرفة أو الدكان , بعيداً عن القطط والنمل والحشرات الأخرى ,تستمر معلقة لشهر أو أكثر ,تكون في هذا الوقت قد حصلت التفاعلات الكيميائية والفيزيائية,(و إن شئت حتى التفاعلات النووية ). وتبدأ البكتريا عمليتها التحويلية , تنتشر حينها الرائحة بشكل كبير بالمكان والزمان حتى يحصل الفساد المطلوب وهذا مؤشرٌ على سير العملية بنجاح ,ثم تأتي مرحلة ما بعد الفساد تقل الرائحة وتكتفي بالمكان الذي هي فيه . وبهذا نكون قد حصلنا على دهون مركزة شديد التركيز, تُنقل بعد ذلك إلى الأسواق ,وتُباع (بالقطارة) لإرتفاع سعرها الفاحش , يتهافت إليها الزبائن من كل صوب . وتشد إليها الرحال من كل أرجاء نجد وما جاورها . لها صُناع متخصصون يشتهرون بصناعتها . أحياناً ما تشترك كل العائلة في صناعتها حتى النساء والأطفال وتتحول البيوت إلى مصانع . الرائحة تشتعل بالحي . ولكن الناس متضامنون مع بعض ويجاملون بعضهم بعض مادام الأمر فيه بحثاً عن الرزق .ولكن هناك من يتمرد من أصحاب البيوت المجاورة على هذه الرائحة . ولكن قطعة منها تستعمل كبقشيش تجعل اللعاب يسيل على مضض.
الفئة الخامسة :-( الذبّاحون )
وهم الذين يقومون بذبح الإبل والأغنام وجلبها لأصحابها من القصاصيب المتواجدين في دكاكينهم . هذه الفئة عملها في بيوتهم أو أحواشها التي تنتشر بين الأحياء . غالباً ما يشترك جميع أفراد العائلة بالعمل . وهناك نساء يقمن بالدور كله حتى ذبح الإبل. يبدأ العمل بالساعة الثالثة ليلاً وتستمر حتى صلاة الفجر . وبهذا الوقت تكون اللحوم جاهزة لنقلها للسوق بواسطة الحمير أو العربات التي تجرها الحمير أيضاً .
صوت رغاء الإبل وهي تستغيث قبل الحكم عليها بالإعدام تملأ عنان السماء ويسمع هذا الرغاء كل من في الحارة ,ومشكلة الإزعاج هذه تكون على أشدها في فترة الصيف عندما ينام الناس فوق السطوح.
يستغرب الإنسان أحياناً عندما يرى الناس المجاورين يتحملون تلك الأصوات والروائح الكريهة . ولكن ذاك زمن يتعاون الجميع فيه في السراء والضراء .
في عام 1379 عندما كان الملك سعود \"رحمه الله \" يقوم بزيارة لبريدة وذلك لافتتاح بعض المشاريع الإستراتجية بالبلدة مثل المسجد الجامع الذي جدد بناؤه بعدما كان مبنياً من الطين وأضرت به سيول الهدام , وتم بناؤه من الصخور ,وتم تنفيذه على يدي فلسطيني المهجر . وكذلك المكتبة العامة والتي تقع إلى الشرق من مسجد الجامع , والمستشفى المركزي بديل للمستشفى القديم الذي هو أيضاً من طين والذي يقع شرق شارع الخبيب, وافتتاح الثانوية العامة , والمعهد العلمي . ومن المشاريع الاقتصادية والزراعية الكبرى , مشروع الدغمانيات الكبير والذي أستخدم فيه أحدث الوسائل الزراعية الألمانية . يديره خبراء ألمان ,والأهم من ذلك كله زيارة الناس في بيوتهم , والإطلاع على أحوال مجتمع كان في يوم من الأيام البنية التحتية لأول كيان سعودي, وكل هذه المهام الشاقة أنجزها \" أبو الشعب\" في نصف شهر تقريباً .
كان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز العشر سنوات . والصغار دائماً ما ترسم الأحداث في ذاكرتهم بشكل تفصيلي , وترسم مشهداً يستمر يتكرر مع الشخص حتى آخر لحظة من حياته .
كان هناك دعوات كثيرة في برنامج الملك تعتبر أساسية , وأخرى تأتي على الطريق مفاجأة وهو ذاهب لتلبية دعوة أساسية . كتلبية دعوة رجل مسن على قارعة الطريق يحمل دلته وفنجانه . يقف الملك ويفتح نافذة السيارة ويتناول الفنجان ثم يغادر . وأحياناً تكون الواقفة على قارعة الطريق عجوزاً مسنة تؤشر بفنجانها في لحظة مرور الملك , فيتوقف ويشرب الفنجان ويسأل العجوز عن أحوالها . هذه الدعوات العرضية التي تواجه الملك كثيرة ومتعددة. تعبير صادق بلا مقدمات وبلا بهرجات تنطلق من أرواح محبين . ليست كالأصوات المبحوحة التي تنطلق من عقيرتها كأصوات الحمير .
وأقول كان في برنامج الزيارات الأساسية حضور حفل القصاصيب الذي بدأ في الساعات الأولى من الصباح.
من كان يراقب حركات السوق قبل الزيارة بأسبوع لابد أن يشكك في الأمر . تحركات غريبة على غير العادة , هرج ومرج , ولغة خافتة لا تكاد تسمعها,وأصوات يتداولها القصاصيب تدل على شيء ما سيحدث . ومشالح تُشاهد يلبسها القصاصيب لأول مرة في التاريخ , والحركة بينهم بأقصى سرعتها , مشاورات بين مجموعة هنا , وأخرى هناك , أصوات ترتفع محتجة سرعان ما تتفق , وجهاء يأتون ويقولون شيئاً ,ويغادرون بسرعة .
المناداة على اللحوم أصبحت هادئة وبلا حماس . يبيعون لحومهم بأي سعر يفرضه الزبون ويقبلونه بسرعة , بعضهم بدأ يلقي فحصة عابرة على جدران المقصب وكأنه يشاهده لأول مرة , ثم يمط شفتيه دليلاُ على عدم الرضا . هناك صندوقاً يحمله بعض الرجال ويمرره بطريقة سرية تقذف به بعض النقود بكل استحياء . وهناك رؤوس تتمايل يميناً ويساراً مع بعض الكلمات الخجولة تعبيراً عن ضيق ذات اليد !!!!
بعد أسبوع من هذا كله جاء يوم جديد . صارت البضائع المجلوبة إلى السوق من نوع آخر, وتحولت أعمال القصاصيب الروتينية إلى أعمال أخرى جديدة.
بدأوا ينسجون على الجدران الطينية قماشاً من الكريم الأخضر وتحولت الجدران الغارقة بالدماء والدهون إلى لون سندسي جميل , وألبسوا أبواب الدكاكين قماش الكريم الأخضر الغامق , وفرشوا أرضية السوق الترابية والمغموسة بالدهون فرشوها بالسجاد الإيراني الزاهي .
فتحات السوق الشمالية والجنوبية غطيت بالستائر من الكريم الأبيض, وعلى يسار الداخل إلى السوق من الناحية الشمالية بني موقد القهوة والشاي والحليب , صفت الدلال البغدادية والرسلانية وهي تلمع كالذهب وأباريق الشاي المشجرة , ودلال الحليب الرفيعة التي تشبه الأصنام فتحول \"الأوجار \" كمجرة كويكيبات دريه, وتقلد الرجال الأحزمة الحربية , وتوجوا رؤوسهم بالعُقل لأول مرة بالتاريخ , وحملوا السيوف الهندية , والفقير منهم حمل الفؤوس والسواطير والسكاكين البلدية .
تغيرت لغة الأصوات القديمة ,والمناداة إلى صياح الفرسان في ساحة الوغى , وصاروا يتقاذفون أشعار الحرب الصحراوية وهم مصطفون على جوانب السوق ينتظرون قدوم جلالته على أحر من الجمر.
ثم جاء الملك !!!
فبلغت الأرواح الحناجر , وتعالت أصوات الترحيبات والتبريكات بقدوم أبو الشعب \" فترجل العظيم من سيارته وصافح الشيب منهم والعميان ثم لوح بيده الميمونة على بقية الحضور , جذبوه إلى محفل القهوة والشاي . ثم قيلت أشعار عند محفل الشاي بعضها سبق أن سمعه الملك وبعضها يسمعه لأول مرة . عندها نهض الملك إلى مكان العرضة الذي يقع بمنتصف السوق , وقد اصطف القصاصيب وهم يحملون السيوف والسواطير والسكاكين , فغاص جلالته بينهم . دقت طبول الحرب , وصهل الفرسان , وأرتج المكان وارتجت معه كل بيوت الحي الدبلوماسي . وعلت أصوات الحرب وبدأوا يتقاذفونها بينهم وتمايلت أجسادهم ورؤوسهم طرباً وحمستهم الأشعار إلى الاستعجال بالمعركة . وخيل للبعض وكأن الدماء التي كان يشاهدها في السوق بالأيام التي سبقت وكأنها دماء الأبطال . والجمال التي تجز رؤوسها وكأنها أعناق الفرسان المعادية . وكلاً منهم يزاحم من بجانبه حتى يصل إلى أقرب نقطة يشاهده الملك وهو يفعل العجب العُجاب , حتى وصلت الأمور إلى أن رؤوس العميان الثائرة اصطدمت برأس الملك عدة مرات . حتى الحشود من الرجال والنساء والأطفال الذين ضاقت بهم الطرقات المؤدية إلى المقصب أصبحوا تواقين للحرب . وغنى الأطفال وأنا من ضمنهم أغنية فلسطين المشهورة التي كنا نرددها بذلك الوقت .
جينا وجينا لك يا فلسطين
حنا رجالك يا فلسطين
بعد نصف ساعة تقريباً سكنت الأصوات وتغيرت الأدوار . وتحول الملك إلى مكان السامري . حيث كانت فرقة من القصاصيب تتهيأ لجولة صاخبة . ثم صدحت الأصوات العذبة , وصاحت الطبول , وهبت رياح الحب والغرام , وبدأ الحنين على العشاق الذين غادروا وتركوا أبوابهم تذراها الرياح . ومن شدة الحماس بدأ المشاهدون يتذكرون الأيام السالفة \"وهل كان لهم في يوم ما حبيباً يبكون عليه بهذه المناسبة السعيدة\" . والملك واقف يشاهد المسرح \"الروماني\" متلذذاً ومعجباً في آن واحد . المقربون للملك قالوا :-
لأول مرة نرى هذه الإشراقة السعيدة على وجه الملك .
وقالوا أيضاً أنه استغرق وقتاً طويلاً يتذكر هذه المناسبة .
استمرت بريدة بعد هذا الحدث أسابيع عديدة وهي تغني . ومن كان لا يجيد الغناء حاول أن يجرب.
أنها ذكرياتنا الجميلة التي لا يمكن نسيانها, نستمر نسترجعها كل مارأينا ذواتنا وهي تهرب من الاكتئاب . بالرغم من حالة الرخاء\" والزيطة \" التي نعيشها الآن حتى وصلت بنا الأمور أننا صرنا نفضل الزمن الفقير, وكلما حاصرنا هذا الاكتئاب هربنا واعتلينا رجماً من رجوم الصحراء وحاولنا أن \"نزعَج الصوت \" بأهات وحسرات \" تكسر القلب \" على عيون غادرت ولم تعد , تهب علينا ريحها مع الأثير . عندها لا نستطيع أن نملك قلوبنا ودموعنا , فتتكسر القلوب وتسيل الدموع والسنوات تمضي , ولا حياة لمن تنادي
ودمتم بألف خير
موسى النقيدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.