المملكة ترأس أعمال الدورة العادية الأولى لمجلس وزراء الأمن السيبراني العرب    الأخضر يبدأ استعداده لمواجهة اليمن ضمن خليجي 26    جامعة الملك خالد تحقق المرتبة الخامسة عربيًا والثانية وطنيًا    ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة يصلون مكة ويؤدون مناسك العمرة    السعودية تنظّم منتدى الرياض الدولي الإنساني فبرايل المقبل    لاجئو السودان يفرون للأسوأ    الجامعة العربية تعلن تجهيز 10 أطنان من الأدوية إلى فلسطين    تطوير واجهة الخبر البحرية    أول رحلة دولية لسفينة سياحية سعودية    إصدار النسخة الأولى من السجل الوطني للتميز المدرسي    القبض على شخص بمنطقة الحدود الشمالية لترويجه «الأمفيتامين»    اختتام أعمال منتدى المدينة للاستثمار    مشروعات علمية ل480 طالبا وطالبة    "كايسيد" يعزز من شراكاته الدولية في أوروبا    النفط يتراجع بسبب مخاوف زيادة المعروض وارتفاع الدولار    جيش الاحتلال ينتهك قواعد الحرب في غزة.. هل يُفشل نتنياهو جهود الوسطاء بالوصول إلى هدنة ؟    «مستشفى دلّه النخيل» يفوز بجائزة أفضل مركز للرعاية الصحية لأمراض القلب في السعودية 2024    "الشركة السعودية للكهرباء توضح خطوات توثيق عداد الكهرباء عبر تطبيقها الإلكتروني"    كافي مخمل الشريك الأدبي يستضيف الإعلامي المهاب في الأمسية الأدبية بعنوان 'دور الإعلام بين المهنية والهواية    د.المنجد: متوسط حالات "الإيدز" في المملكة 11 ألف حالة حتى نهاية عام 2023م    الأمير سعود بن نهار يستأنف جولاته للمراكز الإدارية التابعة لمحافظة الطائف.    النائب الأول لرئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع ووزير الداخلية بالكويت يزور مركز العمليات الأمنية في الرياض    أمين عام رابطة العالم الإسلامي يلتقي بابا الفاتيكان    «الحياة الفطرية» تطلق 66 كائناً فطرياً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    فعاليات يوم اللغة العربية في إثراء تجذب 20 ألف زائر    لا تكتسب بالزواج.. تعديلات جديدة في قانون الجنسية الكويتية    رضا المستفيدين بالشرقية استمرار قياس أثر تجويد خدمات "المنافذ الحدودية"    تجمع القصيم الصحي يعلن تمديد عمل عيادات الأسنان في الفترة المسائية    بلسمي تُطلق حقبة جديدة من الرعاية الصحية الذكية في الرياض    وزارة الداخلية تواصل تعزيز الأمن والثقة بالخدمات الأمنية وخفض معدلات الجريمة    وزارة الصحة توقّع مذكرات تفاهم مع "جلاكسو سميث كلاين" لتعزيز التعاون في الإمدادات الطبية والصحة العامة    أمانة جدة تضبط معمل مخبوزات وتصادر 1.9 طن من المواد الغذائية الفاسدة    نائب أمير مكة يفتتح غدًا الملتقى العلمي الأول "مآثر الشيخ عبدالله بن حميد -رحمه الله- وجهوده في الشؤون الدينية بالمسجد الحرام"    وزير العدل: مراجعة شاملة لنظام المحاماة وتطويره قريباً    استعراض أعمال «جوازات تبوك»    ضيوف الملك من أوروبا يزورون معالم المدينة    المملكة تؤكد حرصها على أمن واستقرار السودان    البنوك السعودية تحذر من عمليات احتيال بانتحال صفات مؤسسات وشخصيات    متعب بن مشعل يطلق ملتقى «لجان المسؤولية الاجتماعية»    أمير نجران يدشن مركز القبول الموحد    جمعية النواب العموم: دعم سيادة القانون وحقوق الإنسان ومواجهة الإرهاب    العلوي والغساني يحصدان جائزة أفضل لاعب    مدرب الأخضر "رينارد": بداية سيئة لنا والأمر صعب في حال غياب سالم وفراس    القتل لاثنين خانا الوطن وتسترا على عناصر إرهابية    لا أحب الرمادي لكنها الحياة    استعادة القيمة الذاتية من فخ الإنتاجية السامة    تجربة مسرحية فريدة    إن لم تكن معي    "القاسم" يستقبل زملاءه في الإدارة العامة للإعلام والعلاقات والاتصال المؤسسي بإمارة منطقة جازان    لمن القرن ال21.. أمريكا أم الصين؟    الطفلة اعتزاز حفظها الله    ولادة المها العربي الخامس عشر في محمية الأمير محمد بن سلمان الملكية    شكرًا ولي العهد الأمير محمد بن سلمان رجل الرؤية والإنجاز    ضمن موسم الرياض… أوسيك يتوج بلقب الوزن الثقيل في نزال «المملكة أرينا»    الاسكتلندي هيندري بديلاً للبرازيلي فيتينهو في الاتفاق    أكياس الشاي من البوليمرات غير صحية    ضيوف الملك يشيدون بجهود القيادة في تطوير المعالم التاريخية بالمدينة    نائب أمير منطقة تبوك يستقبل مدير جوازات المنطقة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



شريط الذكريات .. الجردة (الحلقة السادسة)
نشر في عاجل يوم 22 - 07 - 2013


شريط الذكريات ... (الحلقة السادسة)
الجردة
\"جردة\" مصطلح شعبي يطلقه الناس عادةً على الأرض الرملية المستوية، وإن زاد ميلان الأرض الرملية قليلاً يسمونها \"صيهد\" ، وإن زاد الميلان أكثر يسمونها \"ظهر\" أي ظهر نفود . لهذا اكتسبت ساحة الجردة هذا المسمى. ويدل هذا المصطلح أيضاً على الأرض الجرداء الخالية من النباتات والأشجار.
وكلا التعريفين ينطبقا تماماً على ساحة الجردة.
وساحة الجردة هي ما على يمينك قبل أن تنحدر لشارع الخبيب، تُقابل ساحة القصر من الجنوب، دخلت ضمن سور المدينة في عهد الأمير صالح الحسن المهنا تقريبا.
صارت سوقاً لبريدة عام 1340ه، وخاصةً للإبل والأغنام بعد أن ضاقت ساحة الوسعة عن تحمل هذه الكمية الضخمة من الإبل. وساحة الوسعة راحت توسعةً للمسجد الجامع من جهة الشمال.
الجردة تعتبر سابقاً أكبر سوق للإبل بالعالم، وقد أكد هذا الخبر غالبية المستشرقين الذين زاروا المنطقة. منها انطلقت قوافل عقيل إلى العراق والشام وفلسطين ومصر. وقد أسسوا أسواقاً لهم بهذه الدول ، فمثلاً سوق الشيوخ في بغداد وحي \"صوب عقيل\" في بغداد وسوق العصر في دمشق وسوق بلبيس في مصر كلها أسواق للإبل احتكرها أهل القصيم وقاموا بتأسيسها، كما أسسوا أسواقاً أخرى ومدناً داخل المملكة، مثل حفر الباطن ومدينة رفحا ولينه وفي العراق أسسوا مدينة الزبير وما زال بعضهم يقيم فيها الآن، جميعهم انطلقوا من ساحة الجردة للبحث عن الرزق في الأيام الخوالي الموحشة.
بعض الناس الآن اختلط عليه الأمر وصار يسمي سوق الخضار بالجردة وهذا خطأ كبير وتشويه لمعالم المدينة وإهانة فاضحة لساحةٍ صنعت رجالاً ما زلنا نفتخر بهم ووضعوا لنا تاريخاً مجيداً يجب أن نعض عليه بالنواجذ.
الجردة تغير فيها أشياء وبقي فيها أشياء لم تتغير. ما زالت تمارس عملها التي كانت تقوم به ، الشكل العام للجردة لم يتغير فيه شيء كما كنت أذكرها قبل خمسة وخمسين عاماً ، مُدارة من الجهة الغربية والجنوبية والشرقية بالدكاكين المظللة ولكنها مبنية جميعها من الطين ومسقوفة بالخشب، والجردة مفتوحة من الجهة الشمالية على ساحة القصر، ودكاكين الجهة الغربية تبيع الملابس الرخيصة بالإضافة إلى القهوة والهال والبخور.
أما الجهة الشرقية فتباع فيها أغراض البادية وبيوت الشعر، والجهة الجنوبية تغير نوع البضاعة المعروضة فيها، فبدل تجارة الأسلحة والعطورات والبخور الآن، كانت سابقاً سوقاً لتجارة الحبوب بجميع أنواعه (القمح – الشعير – الجريش – الذرة الصفراء - وأنواع البذور).
وسط الجردة هو بيت القصيد وهو الأهم لأنه سوق للإبل والأغنام ومن هذا السوق ((أعني سوق الإبل)) اكتسبت الجردة أهميتها وأصبحت تُعرف بأنها أكبر سوق بالعالم لتجارة الإبل.
أمام الجهة الغربية من الساحة كانت تقف سيارات أهل القرى القادمين للبيع والشراء في هذا السوق، لكل قرية ونيتها الخاص بها ويسمونه \"البريد\"، يأتون في الصباح والمساء بأجر معلوم يدفعه الراكب لصاحب السيارة وأحياناً يكون لكل قريتين أو ثلاث بريد واحد فقط. ما زلت أتذكر أهل القرى وهم يصعدون إلى بريدهم محملين بالخبز الرخيص الذي يجلبه الخبازون إلى الجردة مساءً لبيعه قبل فوات تاريخه، يضعونه في كراتين كبيره هي كراتين \"التتن\" الذي كان الخبازون يبيعونه في ذلك الوقت. والخبازون الذين يمارسون مهنة الخبز كانوا من الأخوة اليمنيين ما عدا قلة قليلة من أهل البلد الذين استمروا يمارسون هذه المهنة قبل قدوم أهل اليمن.
و\"التتن\" حكايته حكاية في هذا البلد وسوف أكتب عنه في الحلقة القادمة وأتمنى من الله أن يساعدني على ذلك وأستطيع أن أكتب كلاماً جميلاً عن هذا \"المخزي\" كما كان يسميه الناس ولو أنني أعتقد بأنني لن أسلم من البعض، ولكن هذه هي ذكرياتنا أسعدتنا أو أغضبتنا ماذا نعمل هل ننسى ذكرياتنا الجميلة؟
من هذا السوق كانت تنطلق القوافل إلى الأسواق التي ذكرتها في الشام والعراق ومصر، يبيعون جمالهم ويشترون بأموالها كل أصناف البضائع، من المواد الغذائية إلى الملابس، يعودون بعد أربعة أو خمسة أشهر، وبعضهم لا يعود أبداً ، إما لأن الحياة أغرته هناك، أو لأنه قُتل في الطريق دفاعاً عن أمواله من قطاع الطرق الذي يترصدون لهم في الطريق. والعودة يحددها الربح أو الخسارة. يعودون فرحين أو مهمومين. يكسبون أحياناً ويخسرون أحايين أخرى، بعد عام السبعين هجرية أي عام 1370ه . توقفت الحملات تقريباً، إما لكون المملكة أصبحت تستوعب تلك الإبل بسبب تحسن الأوضاع المعيشية بعد إنتاج النفط، أو لوجود السيارات التي أصبحت تعمل كبدائل عن الإبل في نقل البضائع، لهذين السببين توقفت الحملات نهائياً.
كُنت أتذكر أبناء البادية وهم يجلبون إبلهم إلى السوق بالعشرات وأتذكر أشكالهم الجميلة ، وأتذكر أيضاً تلك الجدائل الطويلة التي تتدلى على أكتافهم وملامحهم الحازمة وتلك الأسلحة البيضاء التي يتمنطقون بها، يأتون إلى الجردة يبيعون جمالهم وأغنامهم ويستبدلونها بالبضائع وخاصةً حاجتهم من التمر والقمح، يسيرون جماعات وهم ملتحمون مع بعض متماسكين ومتحفزين لردة الفعل، كيف لا وهم قد وصلوا إلى مكان جديد وحياة صاخبة وأشكال من الناس لم يعتادوا عليها بالصحراء. حتى إبلهم ردات فعلها عنيفة عندما تسمع الأصوات وتشاهد الحركة الكثيرة، وأشد ما تفزعها أصوات السيارات التي لم تعتد عليها، فعند دخولها السوق تحدث معركةً صاخبةً والعصي تأخذ دورها في قمع تمردها، وكثيراً ما تحدث كوارث للناس مثل ما تفعله حوادث السيارات في الوقت الحاضر. ولا يمكن لأي شخص من هؤلاء أن يبيع نوقه حتى يأتي بشخص يُعرِّف عليه وإذا لم يجد هذا الشخص فيستحيل بيعها، هذا نظام وضعته الدولة في ذلك الوقت حفاظاً على الأمن وسيادة النظام، إذا أدركنا أنه في ذلك الوقت كانت الدولة تعمل على بسط الأمن وكان شغلها الشاغل وذلك في بداية التأسيس، وهي تحاول القضاء التام على الغارات التي تحدث لعابري الصحراء.
أتذكر شخصاً حاول اختراق هذا النظام، وقد اشترى جملاً من صاحبه الذي جلبه إلى السوق بلا مُعرِّف، وقد حكم عليه القضاء بخمسين جلدة والتغريب لمدة سنة إلى مدينة عنيزة ، وكانت مدينة عنيزة هي بلد التغريب إذا حكم القاضي على شخص ما بهذا الحكم . كل الغرباء الذين يأتون للبيع أو الشراء فإنهم ينامون في الجردة ويطبخون ويأكلون فيها ، ونيرانهم كعيون الجن منتشرةً في كل مكان من الجردة. منظر جميل لا يمكن نسيانه أبداً.
جُلب إلى السوق مرةً شخص وابنه وقُطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف، لأنهم رفضوا الاستجابة لقرار الدولة بمنع السلب والنهب والغارات على المارين بالصحراء، واستمروا يمارسون هذه العادة لأنهم يعتبرونها من البطولات والأعمال المجيدة التي يجب المحافظة عليها ولأنهم يعتبرونها قانونا من قوانين الصحراء التي يجب عدم التنازل عنها، الغريب في الأمر أن هذا الشخص كان يقول الشعر بصوتٍ عالٍ أثناء تنفيذ الحكم ويمقت الزمن الذي جعل هذه العادة جريمة يجب عقاب من يمارسها، كان يفتخر ببطولاته السابقة والسلب والنهب الذي كان يمارسه ويعدد الصناديد والفرسان الذين قتلهم في ساحة الوغى ونهب أموالهم وجمالهم، ويعيب على الناس تركهم هذه العادة.
في الوسط بين الأغنام والجمال كانت تُفرش سجادة عظيمة ومحترمة يجلس عليها شيخ مهيب يحترمه الجميع اسمه (عبدالله الموسى العضيب) ويدعى أحياناً \"ابن موسى\" اختصاراً، والد الاستاذ \"موسى العضيب\" رحمه الله مدير المعهد العلمي سابقاً. تُفرش له السجادة في الصباح والمساء، يقضي بين الناس ويحل مشاكلهم ويوفق بين الخصمين، سواءً بسبب الخلافات في البيع والشراء أو خلافات أسرية، ويعتبر محكمةً أولية، وحكمه غير ملزم ولكن أكثر الناس يلتزم به، ويشبه إلى حدٍ ما \"إصلاح ذات البين\". ورث هذه المهنة عن والده رحمه الله، ويقوم بممارسة هذا العمل بلا مقابل وإنما تبرعاً منه، كثيراً ما تعرض رحمه الله لهجمات الإبل ولكنه بقي مصراً على الجلوس في الوسط ليكون كالعلم الذي يسترشد به الناس، حتى ابنه موسى لعب دوراً مهماً في خدمة البلد قبل أن يتوفاه الله رحمهم الله جميعاً على ما قدموه لوطنهم من خدمات كثيرة.
كان منظر السوق ممتعاً وخلاباً للزائرين أو لمن أراد أن يقضي وقت فراغه بالتجول ، كل البيع والشراء يحدث بأصواتٍ عالية وتختلط مع أصوات الأغنام والجمال الخائفة التي تحاول العودة إلى مراعيها. الغرباء والقادمون من الصحراء يشدونك لمشاهدة تحركاتهم الحذرة والمتحفزة، وتلك الجدائل الطويلة وهي تتدلى من على كتوف الرجال المدججين بالسلاح يسيرون جماعات إلى أشغالهم التي جاءوا من أجلها.
تنتاب الإبل صولات وجولات عندما تُشاهد معالم المدينة، وتقترب من ضوضاء الناس والسيارات، فيحدث لها نوع من الهستيريا العنيفة وردات الفعل الرافضة لأنها جُلبت من صحراء هادئة ولم تعتد على هذا الجو الذي لا يناسبها والغريب عليها. بعضها يحاول الهروب والعودة إلى دياره بالقوة ولو أدى ذلك إلى التدمير ودهس الناس، والحوادث التي تقع بالجردة تشبه إلى حدٍ ما حوادث السيارات في هذا الزمن.
في الجردة فرقة من الناس مدربون على العودة بالناقة إذا هربت حتى ولو هربت إلى مسافةٍ بعيدة، يمتازون بسرعة العدو وهناك فرقة أخرى مدربة على عقل الناقة وعزل النوق بعضها عن بعض عند انتهاء البيع والشراء وكل هذا بأجر معلوم يدفعه صاحب الناقة، ومنهم أيضاً المتخصص في طرح الناقة أرضاً عند عقلها وهذا يمتاز بقوةٍ خارقةٍ وعضلات مشدودة.
في سوق الإبل أفراد موهوبون بالحسابات يتجه إليهم البدو لعد نقودهم ومحاسبة المشتري إذا علمنا أنه في السبعينات الهجرية كان الناس يتداولون النقود بذات القطع المعدنية التي تُحمل بالأكياس والتنك. لابد لنا أن ندرك صعوبة عدها وتحميلها وسهولة فقدانها إذا سقطت على الأرض وخاصةً إذا كانت الأرض رملية يختفي فيها كل شيء . بعد الظهر يأتي بعض الأطفال لحرث الأرض طول ساحة الجردة لعلهم يعثرون على أي قطعةٍ نقدية.
أتذكر أنني عثرت على قطعة تساوي قرشاً واحداً. بعد البحث والعناء وقلب الأرض عاليها سافلها.وكانت تلك القطعة التي مازلت أتذكرها يعلوها الصدأ من طول المدة وتوالي السيول عليها وبول الإبل المتكرر، ذهبت بها إلى البيت فرحاً وبدأت أدعكها بالماء طوال ذلك المساء حتى بانت معلمها. كانت من ذكريات الطفولة التي رُسمت في ذاكرتي حتى الآن.
بعد صلاة الجمعة من كل أسبوع يقام الحراج على الحمير والبقر.
والحمير وسيلة من وسائل الركوب وحمل الأثاث وجلب المحاصيل الزراعية من القرى والحقول المجاورة . وكانت تستخدم كما تستخدم السيارات في هذا لوقت لا تخلو مزرعة من حمار أو حمارين أو ثلاثة، وتعتبر من الوسائل الزراعية التي لاغنى للفلاحين عنها، كما أن المدينة تحتاج إلى الحمير لنقل المشتريات الثقيلة، استفاد منها طبقة من الحمالين شيباً وشباباً وأصبحت مصدراً رئيسياً لمعيشتهم واشتهروا بها، لا بل اشتهرت عوائل كثيرة بممارسة هذه المهنة.
لك الآن أن تتصور كمية الحمير التي يحتاجها الناس والتي تُجلب إلى هذا السوق للبيع.
والحمير ثلاثة أنواع:_
1. الهكيري: أو حمار \"الهكر\" كما يسمونه، لونه أسود وهذا يصلح كقائد لرعية الأغنام وزبائنه الرعاة وأهل الأغنام، يركبه الراعي ويمشي أمام الغنم، يتبعه الكلب وخروف المرياع الذي تتبعه الغنم أينما سار.
2. الحمار العادي: لونه أبيض متوسط الحجم \"نقل خصوصي\" تُحمل البضائع والمحصولات الزراعية على ظهره مباشرةً، هذا النوع من الحمير المظلومة والمضطهدة، لأنه يحمل البرسيم من الحقل أو القرية على ظهره ولا يستطيع أن يتمتع بأكل ولا حزمة صغيرة منه لأن فمه مكمم بالأسلاك الحديدية بحيث لا يمد رأسه ويأكل مما يحمله. يُشبه الناس بعض الأشخاص ويقولون مثل \"حمار العلف يحمله ولا يذوقه\"، وهو يضرب مثلاً للأشخاص الذين لا يتمتعون بما معهم.
3. الحمار الحساوي: وهو حمار كبير الحجم ضخم الجثة ، قريب الشبه من الحصان ، يستخدم في جر العربات المصنوعة من الخشب ذات العجلتين التي بحجم عجلات السيارة. وهذا النوع يسمى \"نقل عام\" ينقل البضائع والأكياس الضخمة التي لا يستطيع نقلها الحمار العادي.
يوضع على العربة الخشبية لوحة صغيرة تحمل كلمة \"نقل عام\" ورقم خاص بها صادر من هيئة الأمر بالمعروف، ويدفع صاحب العربة ضريبةً سنوية لهيئة الأمر بالمعروف عندما تقوم الهيئة بوضع نقاط تفتيش بتقاطعات الطرق، كانت بديلاً للبلدية والمرور وتقوم بنفس الدور التي تقوم به البلدية والشرطة والمرور والمباحث ومكافحة الخمور والتتن والمخدرات والتهريب والدعارة والمباحث العامة وإن شئت مكافحة الإرهاب والسرقات. لأنها كانت في ذلك هي الكل بالكل وذلك لأن جميع تلك الأجهزة لم تُنشأ في مدينة بريدة . وإذا أردت أن تُبالغ أيضاً في كثرة المهام التي تقوم به فالاستخبارات المركزية، والإنذار المبكر، ومراقبة التيارات الفكرية القومية والبعثية والماركسية واللبرالية والعلمانية. إنها جهاز متكامل لا يمكن الاستهانة به في ذلك الوقت، وتقوم أيضاً بإصدار التصريحات لأصحاب السياكل بركوبها خاصةً للشباب البعيدين عن أماكن الدراسة والاستعانة بها للوصول إلى مدارسهم ومداهمة \"الزكرت\" الذين يسهرون ليلاً وتأديبهم وأخذ التعهدات الصارمة عليهم بأداء صلاة الفجر بلا تأخير .
والبقرة في ذلك الزمن تعتبر أم العائلة، ولا يمكن أن يخلو بيت أو مزرعة بدون البقرة ولأن اللبن والتمر هما وجبة الغداء الرئيسية. وبعض الفقراء الذين لا يملكون بقرة يستعيضون عن اللبن بالماء مع التمر، ولكن الناس والجيران متضامنون مع بعضهم، فمن يملك لبناً زائداً يهدي من لا يملك . ولك أن تتصور كمية الأبقار التي يحتاج إليها الناس . فالسوق يشهد حركة كبيرة للبيع والشراء.
وكلما توفرت الشروط والمميزات في البقرة ارتفع سعرها، والشروط والعيوب تقُال بصوتٍ مرتفع من قبل السمسار. ولا يمكن للشاري أن يدفع إلا العربون وبقية المبلغ يدفعه الشاري بعد التجربة والفحص.
والمميزات التي يجب أن تتمتع فيها البقرة الجيدة، هي الهدوء عند الحلب – عدم رضع نفسها – أن تعطي الحليب بلا بخشيش أثناء الحلب ( أن لاترفع اللبن)، أن تكون كمية الحليب نفس الكمية التي ذكرها السمسار أثناء العرض. إذا توفرت هذه الشروط جميعها فإن المشتري يدفع الثمن إذا انتهت الفترة المتفق عليها للفحص. والبخشيش يسمونه الناس \"الأوقافه\" أي نوع من مخلفات الأطعمة التي تتوفر بالبيت . والحمار أيضاً له شروط ومميزات يجب أن تقال بصوتٍ مرتفع أمام الزبائن. وكلما توفرت المميزات ارتفع السعر ومميزات الحمار هي: لا يعض – ولا يركل – ويتمتع بالأخلاق الحميدة – ويتمتع أيضاً بالسرعة والقوة ويستجيب لأي أمر من صاحبه ولا يحتج أو يعترض أو يبدي انزعاجه بكثرة النهيق التي تؤذي الجيران.
ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أذكر \"الزبدة\" التي تنتجها البقرة . لأنها الوسيلة الوحيدة لدهن المعدة وتدسيم الشوارب يرغبها الناس عوضاً عن اللحم الذي لا يستطيعون الحصول عليه إلا القادر، وهؤلاء أقلية من الناس يعدون بالأصابع واللحوم لا يشمها الناس إلا في مناسبات الأعراس أو في عيد الأضحى فقط لذلك تعتبر الزبدة الوسيلة الوحيدة للتعويض، والبقرة التي تعطي زبدة ذات حجم كبير تعتبر مطلباً للناس لا يمكن الاستهانة به، وتعتبر هذه البقرة من النعم النادرة وتوارى عن الأنظار خوفاً عليها من عين الحسود، ولا يمكن أن يصرح بهذه الميزة علانية أمام الناس وإنما تقال في الآذان وبصوتٍ خافت.
بعض الأحداث التي وقعت في الجردة:
1- خرج من الجردة أول مفرزة من المتطوعين لحرب فلسطين عام 1948م يحملون علم الملكة وبجانبه علم القصيم ذي اللون الوردي المثلث الشكل ذو لسان طويل من نفس القماش، خرجت هذه المفرزة ودخلت الحرب وحاربت بشراسة ضد العدو الصهيوني ولم يعد من أفرادها إلا القليل وسقطوا شهداء دفاعاً عن أرض فلسطين الحبيبة.
2- خرج من الجردة أيضاً أول جيش لأهل القصيم يحمل العلم ذاته مشاركاً في الجيش السعودي لحرب اليمن الشهيرة بقيادة \"حمود المشيقح\" على ما سمعت، ويقولون إنه أول جيش اقتحم عقبة اليمن الشهيرة التي تعتبر عقبةً أيضاً أمام الجيش السعودي.
3- خرجت من الجردة قافلة المؤيدين والمعارضين لمدارس البنات في يوم واحد يسيرون بالسيارات متجهين إلى الرياض في موكب واحد، يتوقفون معاً ويأكلون ويشربون معاً ويتحدثون مع بعض، وقد استقبلهم جلالة الملك فيصل جميعاً وتحدث إليهم معاً وسمع منهم جميعاً وعادوا بنفس الموكب بمشهد عظيم وقد استقبلهم الناس عند العودة بطريقة تعبر عن روح الديمقراطية السائدة في ذلك الوقت، بلا تكفير أو إقصاء أو مصادرة والكل محترمون عند الناس.
4- من الجردة غادرت قافلة من سيارات الحكومة وهي تحمل الطلبة خريجي الابتدائية وهم مخفورون من رجال الأمن لإجبارهم بالقوة للدراسة بالمعاهد العليا التي فتحتها الدولة في ذلك الوقت مثل دار التوحيد بمكة وكلية الشريعة واللغة العربية بمكة أيضاً، وحدث هذا في الستينات الهجرية وهذه أول مدارس عليا تفتحها الدولة بعد الابتدائي في عهد الملك عبدالعزيز يرحمه الله وكانت الدولة تحتاج رجالاً متعلمين لجميع الوظائف التي تحتاجها أجهزتها. وكانت فكرة الناس في ذلك الوقت تدور حول إشاعة مردها أن الدولة سوف تستحوذ على الشباب المتعلمين لتجنيدهم للقتال في فلسطين لأنهم ذاقوا مرارة التجربة عام 1948م. لذلك هربوا بأولادهم الخريجين إلى القرى المجاورة بعيداً عن أعين الدولة . ولكم أن تتصوروا فكرة التحديث التي سار عليها الملك عبدالعزيز والملك سعود والملك فيصل رحمهم الله. هذا التحديث الذي أزعج الناس كثيراً لأنها أفكار لم يعتادوا عليها من قبل. ولكن لم يمر على هذه الحادثة أكثر من ست أو سبع سنوات إلا ويكاد كل بيتٍ له شاب مبتعث إلى الولايات المتحدة أو بريطانيا للدراسات العليا وكان الناس يتفاخرون بذلك.
5- عام 1376ه في سنة الهدام المعروفة انطلقت من الجردة أول مظاهرة تحدث بالمملكة يسمونها ثورة \"عكية\" وأفرادها يسمونهم \"قوم عكية\" لها مطالب متعددة غير منظمة تضم ثقافات متعددة وتختلف مطالبهم وغالبيتها حول شئون الشباب سأفرد لها حلقة مستقلة وخاصة إن أمكن ذلك في الأيام المقبلة . وسوف أجعلها على شكل دراسة عن هذه الظاهرة الفريدة.
6- في عام 1379ه أقيم للملك سعود احتفال صغير، قام به مجموعة من دلالي السيارات وكان هذا بعد العصر وانتهى الحفل بعد ساعةٍ من إقامته، واكتفى الملك سعود بفنجان قهوة وممارسة العرضة النجدية. ولم يكن هو الاحتفال الرسمي لأهالي بريدة الذي أقيم جنوب المطار القديم . وإنما هذا هو استجابة لدعوةٍ من ضمن دعوات كثيرة استجاب لها الملك سعود من ضمنها أيضاً دعوة قام بها الجزارون \"القصاصيب\" بالمقصب القديم وهو سوق الذهب الحالي. ومن ضمنها أيضاً دعوة ابن سيف ذلك الرجل البسيط الذي أقام احتفاله بسطح البيت وشرب الملك سعود قهوته وعرضة بسيطة كاد السطح أن يسقط.
إنها أيام جميلة وبسيطة، مازلت أسمع تلك الموسيقى العسكرية الصاخبة التي تجوب شوارع المدينة ونحن نكاد نجن من الفرحة والسعادة التي اعترتنا ونحن نحتفل كل يومٍ في مكان ترحيباً بزيارة الملك سعود رحمه الله.
من ضمن الذكريات التي لا أنسها وقوف العريس بالجردة بمعية والده وهو لابس المشلح لأجل أن يسلم عليه الناس ويباركوا له . كما أن الجردة هي المكان الوحيد الذي يذهب إليه الناس لدعوة الآخرين للمناسبات. وذلك لأن الجردة هي المكان الرئيسي الذي يمر منه الناس كل يوم.
في الجردة تنفذ العقوبات جميعها للرجال فقط، أما النساء فتنفذ فيهن العقوبات في قبة رشيد وبالجانب الذي يخص النساء.
كل العقوبات تنفذ بعد العصر ما عدا العقوبات الكبرى التي تنفذ بعد صلاة الجمعة مباشرة. الجلد سابقاً كان ينفذ بواسطة عسيب النخل القاسي بعدما ينقع بالماء لعدة أيام حتى يكون عذابه شديدا. ولكن في الآونة الأخيرة اُستبدل بعصى الخيزران.
موعدكم إن شاء الله في الحلقة القادمة ودمتم بخير.
موسى النقيدان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.