(لم تكوني امرأة عادية حتى يكون حبي لك عاديا).. بهذه الجملة اللاعادية استهلّ الروائي الشاب محمد حسن علوان مشروعه الأدبي بروايته الأولى (سقف الكفاية) التي كانت أطول رسالة حب كما سُميتْ في حينها، ثم (صوفيا) التي كانت مساءلة فلسفية ووجودية للموت والحب، وانتهاء ب (طوق الطهارة) التي انقسمت حول جدارتها الفنية والروائية آراء النقاد وانطباعات القراء الذين تسامى سقف كفايتهم عاليا جدا، بحيث أصبحوا يترقبّون في كل نص وليد ينجبه علوان أن يشبه مولوده الأول (سقف الكفاية)! لكنّ هؤلاء المنقسمين لا بد أنهم متفقون على جمالية السرد وكثافة اللغة في نصوص علوان جميعها، فأدواته البلاغية تكفي أن تمنحه شرعية التحرّك في مساحة كان الروائيون (الحكائيون) يحتكرونها لأنفسهم قبل أن تؤسس أحلام مستغانمي الأرضية الملائمة للرواية/ القصيدة التي برع فيها علوان وجيله المنشق عن تقاليد القص. وفي هذا الحوار، يجيب علوان عن بعض الأسئلة الشائكة التي ينتظر قراؤه إجاباتها ما دامت أعماله تطرح الأسئلة ولا تجيب. * إلى أي مدى تمكنت بتلاعبك اللغوي والسردي من ستر “فضائحك” إذا صح الافتراض في تلافيف رواية؟! لم أتلاعب باللغة لأن التلاعب بها ليس سهلا أمام قارئ حاذق. كل ما فعلته أني لجأتُ إليها لجوءا كاملا لتعينني على فجاجة الحقيقة. اللغة ساعدتني على الكشف أكثر من الستر. وأنا، كالكثير من الناس، في حاجة ماسّة إلى الكلام الذي يوصلني إلى الآخر دون أن يفقد الاتجاه. * شخصيات (طوق الطهارة) بعيدة قليلا عن الواقع السعودي ولا تمثل المجتمع.. وهي لا تشبه القارئ الذي يبحث في النص عن مرآة لحاله. ألم يكن ضمن مشروعك الروائي أن ترصد التحولات الواقعية التي يعيشها المجتمع بدل اقتراح حالات نادرة وشديدة الخصوصية؟ (الرصد) ليس مهمة الروائي، بل هو من وظائف علماء السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا. كثيرون يعتقدون أن الرواية ليست إلا دراسة اجتماعية مصاغة بشكل درامي فحسب، ويحصرون الرواية في مجال ضيق وغير فني بوصفها (مرآة للمجتمع) و(تنتقد ممارسات اجتماعية.. إلخ). بينما الرواية، مثل كل الفنون الأخرى، لا يفترض بها أن تلعب غير دورها الفني الموجه لذائقة الإنسان وروحه وفكره ووعيه. هل تفترض من اللوحة التشكيلية أن (ترصد التحولات الواقعية) فقط؟ وهل نتوقع أن تكون المقطوعة الأوبرالية (مرآة المجتمع)؟ الشكل الكتابي للرواية لا يحمّلها مهام إضافية غير ما تتحمله الفنون الأخرى، ولكنه يحمّلها رسائل مختلفة للوعي الإنساني العام والذائقة المطلقة. القارئ الذي يبحث عن مرآة حاله في النص لا يبحث عن صورة منعكسة مباشرة، ونظرية تلقّي الفنون عموما تحيلك إلى إجابات حول ما يبحث عن القارئ من الرواية أوسع بكثير من مجرد النظر في مرآة روائية. الكثير من الروايات المتماهية في جودتها الفنية وانحيازها للفن تناولت حالات غير واقعية أبدا وأكثر ندرة مما قد ينجبه أي مجتمع إنساني في أي عصر كان. والأمثلة كثيرة جدا. * يبدو أنك حبست أنفاس القارئ في معظم الرواية (أعني طوق الطهارة) وحجبت عنه الأحداث المهمة حتى تصبها دفعة واحدة في الفصلين الأخيرين.. هل كان هذا متعمّدا على سبيل التشويق.. أم أنك فوجئت بعد 200 صفحة أن عليك أن تنهي العمل سريعا قبل أن يتحول إلى ملحمة طويلة كما هي حال (سقف الكفاية)؟ اجتهدتُ لتخرج الرواية بالشكل الذي يبلور فكرتي ويمتع قارئها ويمتثل لروح الفن قدر المستطاع. لكل قارئ ذائقة مميزة، ومن المتوقع جدا أن يضع القارئ افتراضاته السلبية حول العمل مثل (تعمد التشويق، بطء الأحداث،... إلخ). في نهاية المطاف الكتابة محض محاولة وأنا أحاول. * أبطالك في الغالب مهووسون بالحب خصوصا في (سقف الكفاية) و(طوق الطهارة)، لكنهم في الحقيقة يقدسون الحب لا الحبيبة.. فهم قادرون على الشفاء لكنهم يبجّلون حزنهم ويحبون أن يعيشوا تعاستهم. إلى أي درجة يقترب هذا التحليل من واقع شخوصك؟ الروايات استغرَقَت في الحديث عن الشخوص بما لا يدع مجالا للكاتب أن يضيف عليها بعد نشرها. وشخوص الرواية، مثل كل مكوناتها الأخرى، هي رهن ذائقة القارئ وقناعته وقبوله ورفضه، وبالتالي لا يمكن أن نخرج بتحليل واحد. بعض القراء وجدوا شخصية (ناصر) في سقف الكفاية مثالية ومعتدلة بينما اعتبرها قراء آخرون شخصية مختلة وتعاني مشكلات نفسية بالغة. تحليلات متناقضة كهذه تصلني باستمرار من القراء عن الشخصية نفسها، وهي تحليلات مثيرة للاهتمام وتحرض على التأمل والتفكير. ولكني في الغالب لا أفضل أن أضيف إلى الشخصية بعدما كتبتها فعلا ونشرت الرواية. ما بعد نشر الرواية هو وقت القارئ وليس وقتي. * ألا يثير استياءك أن كثيرا من الآراء النقدية تحاول أن تسمي أعمالك كل شيء إلا أن تكون رواية، ف (سقف الكفاية) كانت (أطول رسالة حب)، و(طوق الطهارة) عدّها أحد النقاد مقالات ذاتية ووجدانية بتقنية سردية ضعيفة.. ووصفتها أخرى ب (دفتر مذكرات خاص)؟ لا يمكن أن يصل الأمر إلى حد الاستياء أبدا. على العكس، أمنُّ لهم اثنتين: أنهم قرؤوا الروايات أولا، ثم إنهم اقتطعوا من وقتهم ليكتبوا عنها ويصفوها بصفة ما أيا كانت. من البساطة التفريق بين الرأي النقدي الذي يتعمد الإساءة لشخص الكاتب وجرح كبريائه الكتابي عن طريق توبيخ روايته نقديا، وبين الرأي النقدي الحاد الذي وإن جاء سلبيا وغير متفق مع مستوى الرواية فإنه يظل فنيا وموجها للرواية نفسها متجاهلا من كتبها ولماذا كتبها. * يلجأ أنصاف الموهوبين عادة إلى المس بالمقدسات لتحقيق الشهرة من خلال إثارة الشعور العام.. وما دمت تمتلك الموهبة ومقومات النجاح، ما الذي يدفعك إلى التجديف؟ بعض الشخوص الروائية تأتي في قالب نفسي واجتماعي وفكري يُجري على لسانها ما يعتبره البعض تجديفا وما أعتبره أنا صدقا روائيا ومكوِّنا لا يمكن إهماله من مكوِّنات الشخصية وبنائها الدرامي والإنساني. ما يجري على لسان الشخصيات لا علاقة له بأفكار كاتبها والخلط بينهما سيكون وخيما جدا ويعكس عدم وضوح في الرؤية الفنية وقصور في استيعاب الرواية وماهيتها الفنية. وبالمناسبة، لم تشتهر أي من رواياتي بوصفها مجدّفة وتمسّ المقدّس أبدا، ولا أتمنى لأي منها شهرة (غير فنية) المصدر. * فيما سميته أنت مزحة ثقيلة، كانت (سقف الكفاية) أطول رسالة “ترقيم” في العالم كما يلمز محمد العباس.. هل تلقيت مزحة ثقيلة أخرى على (طوق الطهارة)؟ رسالة بلوتوث مثلا بعد أن تطورت أساليب الترقيم؟! هناك من قال إن المقصود بالعنوان (طوق الطهارة) هو المرادف الذكوري الفسيولوجي المفترض ل(غشاء البكارة) لدى الأنثى، وهذا التفسير الذي منح العنوان بعدا فسيولوجيا مثيرا للاهتمام يكاد يكون جادا، ويكاد يكون مزحة أخرى، لا أعلم!