جاء الإسلام حربا على الفقر، قاطعا الطريق على كل صور الاستغلال، ليقود الناس من ظلام التخلف إلى نور التقدم، وقد اعترف العالم بذلك أخيرا، بعد أن طحنتهم الأزمة المالية، ورأوا في منهج الإسلام الاقتصادي طوق النجاة. وفي هذا الحوار تلتقي “شمس” الدكتور عبد الحميد الغزالي، الذي يعد واحدا من رواد الاقتصاد الإسلامي المعاصرين؛ لنتعرف منه على أهم ملامح الأزمة وموقف الاقتصاد الإسلامي منها... فإلى الحوار: بعيدا عن تعقيدات المصطلحات المتخصصة.. كيف يمكننا فهم أسباب الأزمة العالمية؟ - بدأت الأزمة من خلال بنوك الاستثمار التي تعمل خارج رقابة (البنك المركزي الأمريكي)، حين ركزت بطريقة بشعة على الربح من خلال الإفراط في الإقراض للمواطنين الراغبين بشدة في تملك وحدات سكنية، من دون الاستعلام عن قدرتهم على سداد القرض وفوائده. وقد وصلت فقاعة الرهن العقاري إلى ذروتها؛ حين رأينا ارتفاعا لسعر الفائدة مع عدم قدرة المقترض على السداد أصلا، ومن هنا لم تستطع هذه البنوك استرداد أموالها، فانتزعت من المقترضين الضمانات التي تتمثل في هذه الوحدات السكنية، فزاد عرض هذه الوحدات، ما أدى إلى انخفاض كبير في أسعارها، وفقا لقانون العرض والطلب. كما أن هذه الوحدات لم تكن ضامنة لأصل القرض فقط، وإنما كانت ضامنة أيضا لأضعاف أضعافه؛ من خلال ما يسمى ب(التوريق). وماذا يعني مصطلح (التوريق)؟ - يعني أن البنك المقترض الأول أصدر سندات بقيمة هذه الوحدات وباعها لمؤسسات نقدية أخرى بسعر فائدة أقل مما سيحصل عليه، وهذه البنوك التي اشترت السندات باعتها بدورها لبنوك أخرى... إلخ، وهكذا إلى عشر دورات. وهو ارتباط استثماري مالي وهمي، لا يرتبط بأصول حقيقية. وكانت تلك العمليات تتم خارج رقابة البنوك المركزية، وقدرت ب 600 تريليون دولار، بينما المعاملات المصرفية التي تخضع لرقابة البنوك المركزية، لا يزيد تقديرها على 150 تريليون دولار. ترى.. أليس من الصعب في ظل سيطرة العولمة، الحديث عن الاقتصاد الإسلامي بدلا من اقتصاد الأنظمة الوضعية، في ظل التوقيع على معاهدات تنسجم مع سياقات الفكر الاقتصادي الغربي؟ ليس من العسير أن نستمسك بخصوصياتنا، حتى لو وقعنا على اتفاقيات ومعاهدات هذه العولمة في الدارالبيضاء عام 1995، ويمكن جدا أن يكون الاقتصاد الإسلامي بدلا من الاقتصاد الوضعي في ظل العولمة، على أساس أن الاقتصاد الإسلامي يقوم علي ركيزتين: الأولى: الزكاة؛ وهو إجراء، لو تم تفعيله، يدفع بعملية التنمية إلى الأمام، ولا يصطدم بشيء من سياقات العولمة. الثانية: هي تحريم الربا؛ لأنه أبشع صور أكل أموال الناس بالباطل، وهو أيدز الاقتصاد المعاصر؛ لأنه يهاجم الجهاز المناعي في الاقتصاد، كما فعل بالاقتصاد الوضعي المعاصر. * هل تنبه الاقتصاد العالمي إلى خطورة الفوائد الربوية قبيل الأزمة المالية العالمية؟ بالطبع؛ ولو نظرنا إلى التجربة اليابانية، لوجدنا أن الحكومة اليابانية منذ نحو عشر سنوات تعطي قروضا صفرية الفوائد للوحدات الإنتاجية؛ لتنشيط الاقتصاد، إيمانا بأن الفوائد تضر العملية الإنتاجية. وكان أحد الاقتصاديين الغربيين منذ الثمانينات من القرن الماضي يتساءل عن سبب التصرفات الطائشة للاقتصاد الأمريكي، ثم أجاب على نفسه بأن هذا يعود إلى التصرفات الطائشة للفائدة الربوية. ويقول آخر: إن أفضل إدارة للنشاط المالي المعاصر، ما يكون معدل الربح فيه يساوي صفرا. وبعض البنوك في أوروبا وأمريكا أنشأت نوافذ إسلامية، ليس إيمانا بالفكرة الإسلامية، ولكن إيمانا بجدواها، واستغلالا لهذه الجدوى المرتفعة أنشأت فرنسا بنكين إسلاميين في (البحرين) يعملان وفقا للشريعة الإسلامية. أي أنكم تقصدون أن الاتجاه الغربي الأخير نحو المصرفية الإسلامية ليس مجرد ردة فعل لخيبة المصرفية الغربية في مواجهة الأزمة المالية، بل عن دراسات وأبحاث سبقت ذلك الحدث؟! - نعم؛ هذا صحيح. وقد أصدر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي عدة دراسات، قبيل هذه الأزمة، تعترف بأن صبغة العمل المصرفي الإسلامي هي أثمن صبغة لعملية التنمية؛ لأنه استثمار حقيقي لتمويل مشروعات حقيقية، ومن هنا يمكن أن يطبق الاقتصاد الإسلامي من دون أن نصطدم بالعلاقات الاقتصادية الدولية مع بقية دول العالم؛ لأن المصلحة في هذه العلاقات إذا سارت وفقا للمنهج الإسلامي ستصب في مصلحة الطرفين. كما عرف العقلاء في الغرب مغزى كلام الاقتصادي الألماني الشهير (جوهان بتمان)، الذي حذر في كتابه الشهير (كارثة الفائدة) من خطورة تنامي سعر الفائدة، وأثر ذلك في الاقتصاد العالمي، ودعا إلى اتباع النظام الإسلامي في المعاملات المالية، ووقتها تعرض (بتمان) لانتقادات حادة وتهكم عليه المتعصبون وأطلقوا عليه اسم (الملا بتمان!) ما أهم العلامات البارزة حديثا في الفكر الاقتصادي الإسلامي؛ تنظيرا وتطبيقا؟ كنا أنشأنا للمرة الأولى على مستوى العالم الإسلامي قسما للاقتصاد الإسلامي بالمعنى الأصيل، وقد شرفت أنا شخصيا بإنشائه في جامعة أم القرى بمكة المكرمة، في محاولة لإعداد الاقتصادي المسلم الذي يستطيع أن يتعامل مع مشكلات العصر من منظور إسلامي حقيقي، وبعد ذلك نشرنا هذا الفكر في بعض الجامعات الأخرى في بعض الدول، مثل السودان وباكستان وإيران، وأيضا صدرت مراجع عصرية كثيرة عن الاقتصاد الإسلامي تتجاوز الخمسة آلاف مرجع، يمكن الرجوع إليها في المعهد الإسلامي للبحوث والتدريب التابع للبنك الإسلامي بجدة، ثم لدينا جمعية الاقتصاد الإسلامي العالمية، والمعهد الإسلامي للبحوث والتدريب، ونصدر مجلة (البحوث) في الاقتصاد الإسلامي، ومجلة (دراسات إسلامية) ودورها تنمية الفكر والتطبيق للاقتصاد الإسلامي في الدول الأعضاء للبنك؛ وهي 58 دولة حتى الآن. هذا من الناحية النظرية؛ فماذا عن الجانب التطبيقي؟ - طبق الاقتصاد الإسلامي في مجال البنوك، وهي ظاهرة وجدت وستزدهر، وتجاوز عدد البنوك الإسلامية حتى الآن على مستوى العالم المئات، تتعامل في مئات المليارات من الدولارات، وتدخل في كافة الأنشطة الاقتصادية والاستثمارية، كما أن لديها ملايين العملاء في شتى أنحاء العالم، وهذا مظهر من مظاهر التطبيق في الاقتصاد الإسلامي، ونأمل أن يكون تطبيق النظام الاقتصادي الإسلامي متزايدا، إن شاء الله.