يمضغ الكلمات في فمه طويلا، حتى يظن السامع لحديثه أنه سيرمي به قويا، لكنه يخذل كل منتظريه؛ إذ يبتلع كل شيء.. وتظل الإجابة معلقة، فلا يعرف من حوله أين هو إن غاب؟.. أما إذا احتاج إلى الدواء وهو يجلس بينهم فلا يمكن لأحد معرفة ما تناول؛ لأنه يجتهد ألا يراه أحد.. أقترب منه، لأسأله فيجيبني لأنه قد وثق بي، وربما لأنه ظن أن تعليمي الجامعي سيحميه من قسوة النظرة المعهودة من عوام المجتمع. عين الجنون أبتعد عنه وأنا أخمن في نفسي جنونه، فعلى المرء في أعرافنا الاجتماعية أن يذهب للتداوي بطب الأعشاب أو للتداوي بالقرآن الكريم، أما أن يقصد باب الطب النفسي، فذاك من وجهة نظر كثير من أفراد المجتمع عين الجنون. يرمقني فهد الغملاس؛ وأنا أمضغ كلمات التعجب، وألفظها من فعل ذلك الشاب بنفسه، فكيف يقدم على خطوة العلاج النفسي، وبجرأة يفصح لي فيستوقفني من بعيد، وهو يسألني لمعرفة أسباب سلوكي هذا، فأصرخ فيه: «لست بمريض نفسي».. فيقول لي وقد ساءه جوابي: «علاج الإنسان بالطب النفسي لا يعد جنونا أو عارا، ليهرب منه متلقيه أو يتلقفه الناس بالحساب والسخرية، كما يفعل البعض، عندما يتهكم على الحالة المزاجية السيئة لغيره، بأنه مريض نفسي». ويضيف: «من المتعارف عليه لدى البعض أنه إذا أراد السخرية من غيره أو انتقاصه، رماه بالمرض النفسي أو بالجنون». الإعلام هو السبب يلتفت الغملاس إليّ وقد ملأني الصمت والخجل، وهو يقول: «أرى أن هذا الأمر قد تفشى بلا وعي أو إدراك لقيمة الطب النفسي، فالفضائيات تمتلئ بالمسلسلات والأفلام التي تعزز هذه الفكرة، كما أنها تصور المرضى النفسيين أحيانا كالمجانين، وتزيد على ذلك عندما تنتقص من سلوكيات الأطباء حينما تصفهم بالغباء، وتصورهم بالغرابة، أو أن تجعل منهم شخصيات كوميدية فاشلة». هذا من وجهة نظر الغملاس قد عزز فكرة النفور من العلاج بالطب النفسي، وأصبح أحد أسباب رفض بعض أفراد المجتمع للطب النفسي كعلاج، «كأن يقول المريض أو المريضة النفسية إذا اكتشفت أمر علاج الناس، فسيرمونني بالجنون» .ثم ينصرف من أمامي؛ لأعود لصمتي. الوعي الاجتماعي أجلس على الأريكة بين مجموعة من الأصدقاء، والحيرة ترتسم على ملامح وجهي.. يقترب مني خالد وقد سمع ما دار من حديث سابق، فيدلي بدلوه، إذ يرى أن الوعي الاجتماعي لدينا بالمجتمع السعودي بشأن الطب النفسي قد تطور. ويضيف: «لكن خوف المريض وأهله من النظرة القاصرة التي لا تزال عالقة في أذهان بعض الناس، تأسره؛ لذا لا يخبر عن مرضه أحدا». ويقول: «بالتالي لا يسمح لأحد بمساعدته في إنجاح علاجه النفسي، بل إن هناك من يظل في البيئة ذاتها، ولا يتلقى العلاج إلا من خلال الأدوية». يبتسم خالد مستدركا حديثه، بأنه لا ينكر أن بعض أفراد المجتمع الذين لا يؤيدون العلاج النفسي، يسهمون في انهيار نفسية المريض. ويقول: «درجة الوعي بالطب النفسي ودوره متفاوتة بين أفراد المجتمع، لكنها متقدمة مقارنة بالسنوات الماضية». فأندهش من قوله وأصمت. الطب النفسي والقرآن يسلب كل هذه الدهشة سامي القرني؛ الذي يرى أن الطب النفسي في الخارج بكل تطوره، لا يزال يوازي لدى بعض أفراد مجتمعنا طب الأعشاب لدى بعض العطارين. ويقول: «أما العلاج بالقرآن فهو شيء مختلف، وإن كان يعالج الأمراض الروحية في المقام الأول، كما أن المرضى وبعض الأطباء النفسيين يقومون بدمج الأمرين معا». يعتدل القرني في جلسته، وهو يتساءل عما إذا كان الأب والأم والأخ والأخت والمعلم والكاتب والطبيب، بل والمريض، جميعهم متحدين في دعمهم للعلاج بالطب النفسي، أم أن هناك منهم من يقف ضد العلاج به؟.. فأتذكر نفسي وما كنت أقول وأدهش وتدهشون فما أكون برأيكم ومن تكون؟!