لم يتوقع أحد أن محاولات انتشال جثمان من بئر، يمكن أن تمتد إلى أكثر من 12 يوما. ولم يتوقع أحد أن الدفاع المدني الذي باشر الحالة، يمكن أن يضطر إلى الاستعانة بالعديد من الجهات الحكومية والخاصة لمساعدته في سرعة إنهاء مهمته، وصولا إلى الجثمان. وبعد مرور يومين بدأ الأمل يفقد في العثور على السيدة التي سقطت خلال سيرها برفقة قريباتها، في حادث عرضي داخل البئر. كانت البداية في 2 يناير الماضي، عندما أعلن عن سقوط سيدة عرضا في بئر في مركز أم الدوم التابع للطائف. وقتها تم استنفار كل الجهود، على أمل إنقاذها من الموت، ولكن مرور الوقت بسبب ضيق فوهة البئر بدد الأمل في العثور عليها حية، لتبدأ المحاولات في الوصول إلى جثمانها وانتشاله، وإكرامها بالدفن. لكن سيناريو الانتشال لم يسر حسب التفاؤل الأولي، حيث بدت العوائق تحول دون سرعة الانتشال، إلى الدرجة التي كست حالة من اليأس المترقبين، سواء في المركز ومن يعرفون أسرة الفتاة، أو غيرهم ممن شاطروا الأسرة الأحزان لفقدانها ابنتها. وبعد 12 يوما، بدأ الانفراج يلوح في الأفق، وبدأ رجال الدفاع المدني يتسللون إلى عمق البئر، وينتشلون الجثمان، لينتهي أطول سيناريو انتشال جثمان عرفته المملكة على مدى عدة عقود. بعد النهاية رغم أن النهاية -التي استطاع أن ينهي بها الدفاع المدني في الطائف سيناريو انتشال السيدة من البئر- كانت مأساوية، في ظل بدء العزاء، في أوساط الأسرة المكلومة، إلا أن الدفاع المدني بدا أكثر ثباتا في ظل قدرته على الوصول إلى الهدف المنشود، في العثور على الجثمان، «ولو بعد حين»، متمسكا بالحكمة المتداولة: «أن تصل متأخرا خير من ألا تصل». على الصعيد العام، بدأ الدفاع المدني متفائلا بما حققه من نجاح، يعتقد أنه أرضى به طموحاته، رغم حالة الألم التي عاشها رجاله، مشاطرين ذويها، الذين تجرعوا مرارة الانتظار الذي وصفوه بالطويل. وجه الشبه استعاد الكثير من المتابعين حادثة تشيلي التي، تابعها الملايين بالصوت والصورة، عبر العالم، التي احتجز فيها 33 عامل منجم في باطن الأرض على مسافة تبعد أكثر من 700 متر، لمدة تزيد على 69 يوما، ليتم انتشالهم بعد ذلك بكبسولة مبتكرة، صنعها الجيش التشيلي، لتصل إلى عمق الأرض، في رحلة استمرت نحو 22 ساعة و 39 دقيقة، ليتم إنقاذهم فرادى، بمعدل 40 دقيقة لانتشال العامل الواحد. وحادثة تشيلي بدأت منذ 5 أغسطس 2010 وحتى 14 أكتوبر 2010. ووقتها أعلن رئيس تشيلي بينيرا أن عملية «سان لورينثو، للعثور على العمال ال 33 وإخراجهم تكلفت ما بين عشرة إلى 20 مليون دولار». ووقتها أيضا بدأ العالم يتحدث عن أهمية الشخص هناك، لإنقاذ حياته. ولأن حادثة تشيلي ترجمت معنى قيمة الإنسان الحي، تابع سكان المملكة باهتمام بالغ انتشال جثمان سيدة أم الدوم، وبدؤوا في العد والتعداد «حادثة تشيلي كان معدل إنقاذ الشخص الواحد لا يتعدى يومين، قياسا على العدد والمدة التي تم إنقاذهم فيها، فيما لدينا بلغ المعدل لانتشال جثة واحدة 12 يوما، ليتضح الفارق». البعض شكك في انتشالها، في ظل صعوبة الوصول إليها، حيث إن عرض فوهة البئر لا يتعدى 40 سم، والعمق 50 مترا، إلى الدرجة التي راج فيها الحديث عن مدى شرعية ردم البئر، وتحولها من منبع للحياة إلى مقبرة. إلا أن أسرة الشهيدة، أنهت الأمر، بحرصها على عدم ردم البئر، واعتبارها وقفا لها. لكن بعض المشككين، عادوا واعتبروا مرور الأسبوع الأول على عدم انتشال الشهيدة، بادرة سيئة، ربما برهنت العجز في الانتشال، وربما كشفت ارتفاع تكلفة الانتشال، وربما دللت على احتمال اليأس من الانتشال، وكل من هذه الخيارات ترجح عدم الاستمرار في الانتشال، وإنهاء المهمة دون نتيجة. لكن المدني رد على كل المنتقدين، وخرج بعد ذلك الأسبوع بابتكار «تشيلي» ممثلا في كبسولة مشابهة لقارب النجاة في تشيلي، لتنتهي بعد ساعات معدودات «نحو 72 ساعة» عملية الانتشال. لتتداول المجالس، السؤال المهم: ماذا حدث؟ يعترف الدفاع المدني بالطائف، بأنه استوحى فكرة تصنيع كبسولة الانتشال والحفر التي استخدمها في الارتوازية، من الكبسولة التي استخدمت في تشيلي لإنقاذ عمال المنجم من باطن الأرض. ويعتبر الدفاع المدني أن ميزانية العملية الواحدة المماثلة لحادثة أم الدوم تعتبر مناسبة مع معطيات الحادث، وبما يتناغم مع مهامه في تنفيذ الواجبات المنوطة به. لكن الدفاع المدني استبعد أن يمتلك الآليات والمعدات التي يمكن أن تساعده في العديد من مهامه، دون اللجوء إلى مكاتبات لجهات حكومية أو حتى شركات أهلية يتم التفاوض معها على أجرة العقد، ثم نقل الإحداثيات. سألنا الناطق الإعلامي بإدارة الدفاع المدني بمحافظة الطائف المقدم خالد القحطاني، بداية عن سر الكبسولة، فاعترف «استوحينا الفكرة كاملة من كبسولة تشيلي، بعد الوقوف على حادثة أم الدوم، لكننا كنا المبادرين في التصنيع، ولم نستورد الكبسولة، لتضاهي بالضبط مثيلتها». لكن القحطاني شدد على أن «الكبسولة التي انتشلت الجثمان، صناعة سعودية 100 % حيث تم تصنيعها في ورشة الدفاع المدني بالمنطقة في مركز حدا، بما يتلاءم مع سعة بئر الإنقاذ التي تم حفرها عن طريق إحدى الشركات العالمية بموازاة ارتوازية السقوط». وبدأ القحطاني في وصف الكبسولة السعودية، مشيرا إلى أنها «مصنعة من الحديد، يعتبر طولها مترين، وقطرها مترا في متر، وبها باب بعرض وطول متر في متر أيضا، بالإضافة إلى تحديد موقع لفتحة العمل التي توجه إلى منطقة الحفر، أو شق الخندق، كما أن الكبسولة جهزت بكامل أجهزة وسائل الإنقاذ، وبها طفايتان للحريق، بالإضافة إلى تثبيت أسطوانة أوكسجين مسحوب منها كمامتان للعاملين بها في الأسفل، وكذلك جهاز لاسلكي على القمر الواحد يتم التواصل من خلاله بغرفة التحكم في أعلى البئر للرفع والنزول والدوران، كما أنها زودت بكامل معدات القص والحفر من الدريل والكريكات والمسدس الصخري». استفادة قادمة لكن القحطاني قلل من أهمية الاستفادة من الكبسولة في حوادث أخرى «تبدو الفائدة قليلة، لكوننا لم نتعامل منذ ثلاثة عقود تقريبا مع حوادث من هذا النوع، الأمر الذي يعني أننا ربما ننتظر عقودا أخرى لوقوع حوادث مماثلة، لا سمح الله». واعتبر أن «الدفاع المدني أنجز مهمته في زمن قياسي لانتشال الجثمان من الارتوازية، وفترة 12 يوما لا تعد طويلة، بل كان هناك منذ البداية تفاؤل بنجاح المهمة في هذه المدة القصيرة، خاصة أننا نعرف أن الجميع يتابع عملنا على مدار الساعة، وليس فقط من يجاوروننا في موقع البئر». استئجار الآليات واستبعد أن يلجأ الدفاع المدني إلى امتلاك آليات مماثلة، بما يسرع من عمليات الحفر في الحوادث المماثلة، مبينا أن «فكرة امتلاك المعدات والآليات التي تمتلكها الشركات التجارية والأهلية، التي استعان بها الدفاع المدني لعملية الحفر والانتشال، ليست واردة، لعدة أسباب منها على سبيل المثال أن الدفاع المدني يمتلك حق بند التعويض الآمن وهو ما يقتضيه المرسوم الملكي بأن جميع مؤسسات الدولة الحكومية والأهلية تعمل تحت مظلة الدفاع المدني ومسخرة لخدمته وتنفيذ مهماته وأهدافه، وفي حالة استدعاء مباشرة حوادث إنقاذ أو إسعاف أو إطفاء، وهي مهام الدفاع المدني يتم الاتصال إذا استدعت الضرورة ذلك، على أي مؤسسة حكومية أو شركة أهلية، وتوفير آليات ومعدات مما تمتلكها تلك الجهات، مقابل الاتفاق السريع على قيمة العمل، لكن ليعلم الجميع أن الدفاع المدني ليس عاجزا عن امتلاك مثل هذه الآليات الضخمة، لكنه في حال امتلاكها فإنها تحتاج سنويا إلى صيانتها وتشغيلها، وتوفير الكادر العملي لها والتدريب طول الوقت، وهذا يتطلب مبلغا ماليا بصفة دورية ومستمرة أكثر من قيمة الاستئجار المتبعة، والتي تتم في حالة الضرورة القصوى فقط». ميزانية الانتشال وكشف القحطاني ل «شمس» أن ميزانية انتشال جثمان الشهيدة من البئر، في ارتوازية أم الدوم بلغت نصف مليون ريال: «وزعت على عدة شركات ساهمت في إنجاح المهمة مثل شركة ابن لادن، ومعادن، أرامكو، الشركة العربية التركية، وشركة أهلية أخرى أسندت لها مهمة حفر الخندق الموصل بين بئر السقوط وبئر الإنقاذ، بالإضافة إلى تواجد خمس سيارات إنقاذ، وسيارة تجهيزات الغوص، ومعدة تجهيزات حوادث الزلازل، وأجهزة القص، والحفار الكبير، بالإضافة إلى توفير خمس رافعات وخمس بوكلينات وكذلك عشر شيولات، تتناوب العمل في موقع الحادثة، وإحضار غطاسين تتميز بالضخ القوي لسعة ثلاث بوصات، وكذلك أجهزة التصوير الحراري، وأجهزة جس النبض البشري، بالإضافة إلى مشاركات العديد من الجهات الحكومية مثل البلدية والشرطة والإمارة والهلال الأحمر». متابعة الآبار وشدد الناطق باسم الدفاع المدني بالطائف على أن مسؤولياتهم في متابعة الآبار المكشوفة ومحاسبة ملاكها وخطورتها على حياة المواطنين تنقسم إلى واجهتين «الأولى سابقة وهي أن جهود الدفاع المدني قبل حادثة أم الدوم ملموسة في الميدان، حيث قمنا بالتوعية، ولا نزال نوعي الناس، وقطعنا جهودا مع شيوخ القبائل ورؤساء المراكز الإدارية، وشكلت لجان من قبل الدفاع المدني لرصد الآبار المكشوفة، لتوضيح مدى خطورتها، حيث تمت تغطية العديد منها، وإنشاء رقاب لبعضها ترتفع عن مستوى الأرض بمتر، كما بذلنا جهدا آخر في تقليص استخدامات المواتير اليدوية في قعر الآبار وتوعية ملاكها للاستعاضة عنها بغطاسات كهربائية في أعلى البئر، ويتم تشغيلها كهربائيا دون الحاجة إلى النزول عبر سلالم مهترئة، تمثل خطرا في حالات الصعود والهبوط». وشدد القحطاني على أن الصعوبات التي تواجههم، وتعيق بعض جزئيات العمل تتمثل في «هجرة أصحاب بعض الآبار، وجود آبار تعود ملكيتها لورثة كثيرين يصعب تجميعهم وبحث ردمها أو تعزيز جوانبها». وبين أن الوجه الثاني في المتابعة وهو اللاحق يتمحور في التوعية بعد هذا الحادث بآلامه وآماله، خاصة أن النسبة العالية من سكان المملكة يمتلكون آبارا، ويجب رفع رقابها وتسويرها جيدا حتى يحد من خطورتها «في حالة عدم استجابة مالك ارتوازية لضوابط السلامة يتم معاقبته عن طريق مخافر الشرط». واستبعد إمكانية الاتجاه لتوفير دراسة حول تصنيع آليات تراعي الأقطار الصغيرة لفوهات الآبار، التي لا يتعدى قطرها 40 سم، بدلا من التكلفة والاستعانة بشركات كبيرة لهذا الشأن، متسائلا: «لماذا نذهب إلى الأصعب، ونترك الأسهل، وهو أن كل صاحب بئر ارتوزاية، يسورها ويشبكها ويحفظها جيدا، ويرفع رقبتها عن الأرض بواقع متر، لأنه ربما كانت المعدة المستبدلة تتطلب أموالا طائلة على المستفيدين من حفر آبارهم وهو ما سيرفضه المواطن».