فجع الوسط العلمي العربي بوفاة العلاّمة الأستاذ الدكتور محمد أحمد السيد خاطر أستاذ اللغويات بجامعتي أم القرى والأزهر ، الذي لقي ربه وهو في طريقه إلى الجامعة صباح الاثنين 18/7/1432ه بمشعر عرفة في حادث مروري مروّع. والشيخ سادن حكمة ، وصاحب حجة ، وزعيم اعتدال. درس العربية في الأزهر ، وفقه كثيرًا من أسرارها ، وأجاد اللغة الإنجليزية ، وانفتح على معارف الآخرين وعلومهم بوعي واقتدار ، فكان مؤمنا قويا يأخذ الكتاب بقوة، أدرك أن ثقافة التوحد لا تصنع إلا الخوف والاكتئاب والظنون ، فكان توّاقا للجديد ، شادّا إليه الرحال ، باحثًا عن الحكمة أينما وجدها كان أحق بها. عرفته كثير الصمت ، دائم التفكير ، ينزّه نفسه عن الغيبة والنميمة ، فلا يرى في الناس إلا أحسن ما فيهم ، يقع على الفضيلة وهي غائبة ، ويفتش عن الحسنة وهي مغيّبة. ويحسن بالناس الظن ، ويحثهم على البعد عن صغائر النفس وشهواتها. كان متخففا من الدنيا ، مستعدا ليوم الرحيل ، فهو حمامة مسجد ، وقرين صيام ، وجهه يطفح بالنور ، ولسانه يلهج بذكر الله ، وكم من رجل إذا رأيته ذكرت الله. أحبه زملاؤه ، ولازمه طلاّبه ، وهو الوعاء الذي مليء علما ، فلم يبخل بوقته وجهده عن تلاميذه ، ولعلّه من العلماء الأفذاذ الذين رأوا أن صناعة العقول أهم من كتابة البحوث ، فكوّن بعمله هذا جيلا من العلماء إذا ذكروا ذكر الشيخ. في مجالس العلم تجده صامتا لا يكاد ينطق ، إذا سئل أجاب ، وإذا قال أسمع. كان يحتد مجلس الدراسات العليا في الجدل العلمي ، والشيخ سارح ببصره ، يتأمل في حركة العقول ، وسجال الأفكار ، وكثيرا ما كان يوصيني رحمه الله بأن الفعل أبقى من رد الفعل ، وأن المواقف العظيمة تحتاج إلى قرارات جسيمة ، وأن الحق لن يدع لأحد صاحبا. تركته صاحبته في العام الماضي ورحلت بهدوء تام ، خرجت من حياته ، ولم تخرج من ذاكرته ، تركها وهي ترتب المنزل لاستقبال ابنتها وصهرها القادمين للزيارة من القاهرة ، وذهب إلى الجامعة ، وعن عودته إلى المنزل وجدها جثة هامدة ، فاتصل بالطبيب ، وحملها إلى المستشفى ، وأشرف على غسلها وتكفينها ودفنها ولم يخبر أقرب جيرانه إلا بعد عودته من مراسم الدفن حتى لا يزعج أحدا. ما أعظم شعورك يا أبا أحمد. كان يأتيني مواسيا لي في أعبائي في عمادة الكليّة ، ناصحا ومؤازرا ، في زمن قلّ المؤازر فيه وعز الناصح ، فأمازحه بحديث عن الزوجة رحمها الله ، فتنهمر دموعه وكأنه طفل صغير فقد أمه فأردد معه أبيات محمد بن عبدالملك وزير الخليفة الواثق التي يقول فيها: ألا من رأى الطفل المفارق أمه=بعيد الكرى عيناه تبتدران رأى كل أم وابنها غير أمه=يبيتان تحت الليل ينتحبان وبات وحيدًا في الفراش تحثه=بلابل قلب دائم الخفقان فلا تلحياني إن بكيت فإنما=أداوي بهذا الدمع ما تريان وإن مكانًا في الثرى حظ لحده=لمن كان في قلبي بكل مكان أحق مكان بالزيارة والهوى=فهل أنتما إن عجت منتظران رحمك الله يا أبا أحمد: لقد كنت في قوم عليك أشحة=من الموت إلا أنه طاح طائح يودون لو خاطوا عليك جلودهم=وما تدفع الموت النفوس الشحائح