خلصت في مقال الأسبوع الفارط إلى القول إنّ رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم - لم يقم حدّ الردة على أحد من المرتدّين؛ وكذا أصحابه من بعده ما عدا قصة أبي بكر الصّديق - رضي الله عنه- الشهيرة. مع هذا فمن حقنا أنّ نطرح السّؤال القائم؛ وأعني به: هل هناك إجماعٌ تّامٌ بين العلماء على إقامة حدّ الردّة ؟ خاصّة أنّ أكثر القائلين بحد القتل يستندون إلى حديث "من بدّل دينه فقتلوه"؛ مع رفض الإمام مسلم اعتماده بحسب الباحثة الدكتورة فوزية العشماوي في دراستها التي أشرتُ إليها سابقًا. يخلص الباحث الإسلاميّ الدكتور محمد سليم العوا في كتابه (عقوبة الرّدّة: تعزيرًا لا حدًّا) إلى القول: “إنّ العقوبة الواردة في الحديث النبويّ الشّريف إنّما هي عقوبة تعزيرية، وليست عقوبة حدٍّ.. مفوضة إلى السلطة المختصّة في الدّولة الإسلاميّة تُقرّر بشأنها ما تراه ملائمًا من أنواع العقوبات ومقاديره. وبذلك نجمع بين الآثار الواردة عن الصّحابة التي تثبت في بعضها حكم قتل المرتدّ، وفي بعضها الآخر عدم قتله، وعلى ذلك -أيضًا- نحمل رأي النخعي، وسفيان الثوري؛ في أنّ المرتدَّ يُستتاب أبدًا؛ ولا يقتل”. أبلغَ ميمون بن مهران والي الخليفة عمر بن عبد العزيز بأمر بعض المسلمين الذين تركوا الدّين الإسلاميّ في الخفاء، ولم يجهروا بعدائهم للمسلمين؛ فأمره بإطلاق سراحهم. وهذا يتساوق في الجملة مع القول بعدم القتل. إنّ كثيرًا من العلماء، والفقهاء، والمفسرين ذهب إلى القول: إنَّ حدّ الردّة قتلاً يكون لجماعة المرتدّين بشرطه؛ وهو (الاقتران بالمحاربة)، وليس الردّة الفرديّة دون جهر بالعداء. بدليل أنّ المذهب الحنفيّ لا يُجيز قتل المرأة المرتدّة؛ لأنّها غير محاربة، أمّا الذين يرتدون دون محاربة فلا يحكم عليهم بالقتل. لكن دعونا نتساءل مع الباحثة فوزية العشماوي: ما المقاصد الشرعيّة من قتل المرتدّ؟ وأيّ فائدةٍ تعود على المجتمع، وعلى الصّالح العام من قتله؟ وهل المقصد من قتله هو الرّدع حتّى يتّعظ كلّ مَنْ يُفكّر في الخروج عن الإسلام، فيظلّ مسلمًا وهو كارهٌ؛ لأنّه خائفٌ من عقوبة القتل؟ إنّ الارتداد عن الدّين الإسلاميّ ليس مجرد موقف عقليّ، أو نفسيّ, أو شخصيّ؛ بل هو تغيير للهويّة، والانتماء، والولاء من أمّة الإسلام إلى أمة أخرى. فالذي يرتدّ عنّا لا ينتمي إلينا، فلا خير فيه إذن؛ فلنتركه يرحل كما فعل الرّسولُ - صلّى الله عليه وسلّم- مع الأعرابيّ.. فلماذا لا نحذو حذو الرسول عليه الصلاة والسلام، ونترك من يريد أن يخرج من حظيرة الإسلام أن يرحل عنه غير مأسوفين عليه؟! إنّني لا زلت أكرّر ما قلت به في صدر مقال الأسبوع الفائت من أنّ هناك الكثير من صفحات الفقه الإسلاميِّ تمتلئ بالمسائل الخلافيّة ذات العلاقة الجوهريّة بحياة النّاس؛ ولمّا يزل الكثيرُ من فقهائنا وعلمائنا يتحرّزون من الخوض فيها، إمّا بالتّأكيد ثبتًا بالدّليل الصّريح، أو نفيًا بالبرهان البيّن والواضح. ودبَّ هذا التّحرز على بعض الباحثين في علوم الشريعة حتّى اسْتَشْكلَ الأمرُ على الكثيرين خوضا في غمار التّصحيح والتبّيين. وعطفًا على ذلك أختم بالقول: لقد آن لعلماء، وفقهاء المسلمين أنّ يوحدوا كلمتهم فيما يتعلق بحرية العقيدة تأكيدًا أنّ القرآن الكريم كفل تلك الحرّية وأن" لا إكراه في الدّين". كما يجب على بعض العلماء أن يُصحّحوا موقفهم من حدّ الردّة في ضوء السياق التّاريخي؛ تطبيقًا لمبدأ حرّيّة العقيدة، وبيانًا للفرق الشّاسع بين المرتدّ ك(مرتد)؛ لا فتنة من ارتداده، وبين مرتدٍّ (محارب) يسعى للفتنة والمقاتلة!!