لا تعذلية أو : قمرٌ في بغداد شعر إبن زريق البغدادي هو الشاعر العباسي أبو الحسن علي بن زريق البغدادي, وكان له ابنة عم أحبها حبًا عميقًا صادقًا, ولكن أصابته الفاقة وضيق العيش, فأراد أن يغادر بغداد إلى الأندلس طلبًا للغنى, وذلك بمدح أمرائها وعظمائها،ولكن صاحبته تشبثتْ به, ودعته إلى البقاء حبًا له, وخوفًا عليه من الأخطار, فلم ينصت لها, ونفَّذ ما عَزم عليه، وقصد الأمير أبا الخيبر عبد الرحمن الأندلسي في الأندلس, ومدحه بقصيدةٍ بليغة جدًا, فأعطاه عطاءً قليلاً، فقال ابن زريق- والحزن يحرقه-: \"إنا لله وإنا إليه راجعون, سلكت القفار والبحار إلى هذا الرجل, فأعطاني هذا العطاء القليل؟!\". ثم تذكَّر ما اقترفه في حق بنت عمه من تركها, وما تحمَّله من مشاقٍ ومتاعب, مع لزوم الفقر, وضيقِ ذات اليد، فاعتلَّ غمًّا ومات. وقال بعض مَن كتب عنه إنَّ عبد الرحمن الأندلسي أراد أن يختبره بهذا العطاء القليل ليعرف هل هو من المتعففين أم الطامعين الجشعين, فلما تبيَّنت له الأولى سأل عنه ليجزل له العطاء, فتفقدوه في الخان الذي نزل به, فوجدوه ميتًا, وعند رأسه رقعة مكتوب فيها هذه العينية. فبكاه عبدالرحمن الاندلسي بكاءً حاراً. وقال عنه الشاعر المصري فاروق شوشة في كتابه : \"أحلى عشرين قصيدة حب\" : وهذا شاعرٌ قتله طموحه ، يعرفه دارسو الأدب ومحبّوه ، لكنهم لا يعرفون له غير هذا الأثر الشعري الفريد يتناقله الرواة ، وتعنى به دواوين الشعر العربي ؛ فإذا ما تساءلنا عن الشاعر وعن سائر شعره فلن نظفر من بين ثنايا الصفحات بغير بضعة سطور تحكي لنا مأساة الشاعر العباسي / ابن زريق البغدادي الذي ارتحل عن موطنه الأصلي في بغداد قاصداً بلاد الأندلس ، عله يجد فيها من لين العيش وسعة الرزق ما يعوضه عن فقره ، ويترك الشاعر في بغداد زوجة يحبها وتحبه كل الحب ، ويخلص لها وتخلص له كل الإخلاص ، من أجلها يهاجر ويسافر ويغترب وفي الأندلس - كما تقول لنا الروايات وا لأخبار المتناثرة - يجاهد الشاعر ويكافح من أجل تحقيق الحلم ، لكن التوفيق لا يصاحبه ، والحظ لا يبتسم له ، فهناك يمرض ، ويشتد به المرض ، ثم تكون نهايته في الغربة ؛ ويضيف الرواة بعداً جديداً للمأساة ، فيقولون أن هذه القصيدة التي لا يعرف له شعرٌ سواها وجدت معه عند وفاته سنة أربعمائة وعشرين من الهجرة ، يخاطب فيها زوجته ، ويؤكد لها حبه حتى الرمق الأخير من حياته ، ويترك لنا - نحن قراءه من بعده - خلاصة أمينة لتجربته مع الغربة والرحيل ، من أجل الرزق وفي سبيل زوجته التي نصحته بعدم الرحيل فلم يستمع إليها ، ثم هو في ختام قصيدته نادم - حيث لم يعد ينفع الندم أو يجدي - متصدع القلب من لوعةٍ وأسى ، حيث لا أنيس ولا رفيق ولا معين . والمتأمل في قصيدة ابن زريق البغدادي لا بد له أن يكتشف على الفور رقة التعبير فيها ، وصدق العاطفة ، وحرارة التجربة ؛ فهي تنم عن أصالة شاعر مطبوع له لغته الشعرية المتفردة ، وخياله الشعري الوثّاب ، وصياغته البليغة المرهفة ، ونفسه الشعري الممتد ؛ والغريب ألا يكون لابن زريق غير هذه القصيدة ، مثله كمثل دوقلة المنبجي الذي لم تحفظ له كتب تراثنا الشعري غير قصيدته (اليتيمة) .. وهكذا استحق الشاعران فضل البقاء والذكر - في ذاكرة الشعر العربي كله - بقصيدة واحدة لكل منهما .. وبالمقابل ، ما أكثر الشعراء الذين لا تعيهم ذاكرتنا ، بالرغم من أنهم سوّدوا مئات الصفحات وتركوا عشرات القصائد وزحموا الدواوين والمكتبات ؛ يستهل ابن زريق قصيدته بمخاطبة زوجته ، يناشدها ألا تعذله أو تلومه ، فقد أثر فيه اللوم وآذاه ، وأضر به بدلا من أن ينفعه ، إنه هنا يبسط بين يديها أسباب رحيله عنها وتركه لها طمعاً في الرزق الفسيح والعيش الهانئ الوثير ؛ وسرعان ما يعلن عن ندمه لأن ما أمله لم يتحقق ، وما رجاه من رزق وفير لم يتح له .. ؛ ثم يلتفت ابن زريق التفاتة محب عاشق إلى بغداد ، حيث زوجته التي تركها دون أن يستمع إلى نصحها ، إنها مملكته التي أضاعها ولم يحسن تدبيرها وعرشه الذي خلع عنه .. ؛ وفي ختام القصيدة يصف ابن زريق - في تعبيرٍ صافٍ مؤثرٍ ونسيج شعري محكم - واقع حاله في الغربة ، بين الأسى واللوعة ، والألم والندم ، وهنا ينفسح مجال التأمل ، وينطلق اللسان بالحكمة التي أنضجتها التجربة ، ويشرق القلبُ بالدموع . يقول ابن زريق البغدادي في قصيدته : لا تعذليهِ ، فإن العذلَ يولِعُهُ=قد قلتِ حقاًّ ولكن ليس يسمعهُ جاوزتِ في لومهِ حدّاً أضرَّ بهِ=من حيث قدرتِ أن اللومَ ينفعهُ فاستعملي الرفقَ في تأنيبهِ بدلاً=من عذلهِ فهو مضنى القلبِ موجعهُ قد كان مضطلعاً بالخطبِ يحملهُ=فضُيِّقتْ بخطوبِ الدهرِ أضلعُهُ يكفيهِ من لوعةِ التشتيتِ أن لهُ=من النَّوى كلَّ يومٍ ما يروِّعهُ ما آبَ من سفرٍ إلاّ وأزعَجهُ=رأيٌ إلى سَفَرٍ بالعزمِ يزمعهُ كأنّما هو في حلٍّ ومرتحلٍ=موكَّلٌ بقضاءِ اللّه يذرعهُ إنَّ الزمانَ أراهُ في الرحيلِ غنىً=ولو إلى السدِّ أضحى وهو يزمعهُ وما مجاهدةُ الإنسانِ توصلهُ=رزقاً ، ولا دعةُ الإنسانِ تقطعهُ قد وزَّعَ اللّهُ بين الخلقِ رزقهمو=لم يخلق اللهُ منْ خلقٍ يُضيعهُ لكنهم كلفوا حرصاً ، فلست ترى=مسترزقاً وسوى الغاياتِ تقنعُهُ والحرصُ في الرزقِ ، والأرزاق قد قسمتْ=بغيٌ ؛ ألا إنَّ بغيَ المرءِ يصرعهُ والدهرُ يعطي الفتى - من حيث يمنعه-ُ =إرثاً ، ويمنعُهُ من حيث يطمعهُ أستودعُ الله في بغدادَ لي قمراً= بالكرخِ \" من فلكِ الأزرارِ مطلعهُ ودعتُهُ وبودي لو يودعني =صفوُ الحياةِ ، وأني لا أودعهُ وكم تشبَّث بي يومَ الرحيلِ ضحىً=وأدمعي مستهلاتٌ ، وأدمعُهُ لا أكذبَ اللهُ ، ثوبَ الصبرِ منخرقٌ=عنّي بفرقتهِ ، لكن أُرقِّعُهُ إنّي أُوسِّعُ عذري في جنايتهِ=بالبينِ عنهُ ، وجرمي لا يوسِّعُهُ رُزِقْتُ مُلكاً فلم أحسن سياستهُ=وكلُّ من لا يسوسُ الملكَ يخلعُهُ ومن غدا لابساً ثوبَ النعيمِ بلا=شكرٍ عليهِ ، فإنَّ الله ينزعهُ اعتضتُ من وجهِ خلّي بعدَ فرقتهِ=كأساً أُجرَّعُ منها ما أُجرّعهُ كم قائلِ لي : ذقت البين ، قلت لهُ=الذنبُ واللّه ذنبي ، لستُ أدفعهُ ألا أقمت فكان الرشدُ أجمعهُ ؟=لو أنني يوم بانَ الرشدُ أتبعهُ إني لأقطعُ أيامي ، وأنفدُها=بحسرةٍ منه في قلبي تقطِّعهُ بمن إذا هجعَ النُّوامُ بتُّ له=- بلوعةٍ منهُ - ليلي لستُ أهجعهُ لا يطمئنُّ لجنبي مضجعٌ ، وكذا=لا يطمئنُّ لهُ مذْ بِنتُ مضجعهُ ما كنتُ أحسبُ أن الدهرَ يفجعني=بهِ ، ولا أنَّ بيَ الأيامَ تفجعهُ حتى جرى البينُ فيما بيننا بيدٍ=عسراءَ ، تمنعني حظّي وتمنعهُ قد كنتُ من ريبِ دهري جازعاً فزعاً=فلمْ أوقَّ الذي قدْ كنتُ أجزعهُ باللّهِ يا منزلَ العيشِ الذي درستْ=آثارُهُ ، وعَفَتْ مذْ بنتُ أربعهُ هل الزمانُ معيدٌ فيكَ لذتنا= أم الليالي التي أمضتهُ ترجعهُ في ذمةِ اللهِ من أصبحتَ منزلهُ=وجاد غيثٌ على مغناكَ يمرعُهُ من عندهُ ليّ عهدٌ لا يضيِّعُهُ=كما لهُ عهدُ صدقٍ لا أضيِّعُهُ ومن يصدِّعُ قلبي ذكرهُ ، وإذا=جرى على قلبهِ ذكري يصدِّعهُ لأصبرنَّ لدهرٍ لا يمتعني =بهِ ، ولا بيَ في حالٍ يمتعهُ علماً بأن اصطباري معقبٌ فرَجاً=فأضيقُ الأمرِ إن فكَّرتَ أوسعهُ عسى الليالي التي أضنت بفرقتنا=جسمي ، ستجمعني يوماً وتجمعهُ وإن تغلُ أحداً منّا منيَّتهُ=فما الذي بقضاءِ اللهِ يصنعهُ !