بعد يوم عمل شاق رجعت لمنزلي وأنا أحلم في الطريق بحمّام بارد ينعش جسدي ولكن تلك الأحلام تبددت وتبخرت كما يتبخر السراب من عيني العطشى حينما وجدت أمامي سلسلة لا تنتهي من السيارات بل مئات السيارات التي تمتد على مد البصر وكدت اختنق من صوت تلك الأبواق التي لا تهدأ - يا إلهي سوف أتأخر عن موعد الغداء. تنهدت باستسلام وبقيت أعد الدقائق والثواني بانتظار الفرج ,أسرق النظرات باتجاه السيارات المتوقفة وتلك الوجوه البائسة التي تتنقل بين السيارات تحت لهيب الشمس الحارقة تبيع قناني الماء والمناديل نظرت باتجاه السائق الذي كان يتصبب عرقاً رغم التكييف ووجه المحمر يظهر مدى غضبه كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الواحدة والربع وتلك السلسلة تتحرك ببطء شديد ما الذي يحدث هل توقف الزمن؟ أرجعت رأسي إلى الوراء وأنا أفكر بسريري الوثير وأحلم بالنوم حتى المساء وصوت العصافير على شرفتي تتمايل طربا وتشدو أعذب الألحان و.. وفجأة سمعت صوت ارتطام وشاهدت أولئك الطفيليين يتراكضون باتجاه السيارات المتصادمة رفعت رأسي ووجدت السائق يتحدث مع احد الأشخاص العابرين ثم التفت وهو يقول بحزن : - سيدتي يبدو أن هناك حادث في الطريق ربما نتأخر - والحل؟ - لا نملك سوى الصبر - حسناً شعرت بالغضب الشديد يثور في داخلي وبدأت أفكر بأمي ومدى رغبتي بالوصول إليها لا اعلم لما اجتاحي شعور عارم بالحنين والرغبة في الارتماء بحضنها كنت جالسه بالقرب من النافذة أفكر حينما تعالت أصوات طرقات على النافذة أخرجتني من أحلامي نظرت بغضب باتجاه الطارق وأنزلت الزجاج متذمرة من هذا البائع اللحوح: - ماذا تريد؟ - سيدتي هل تريدين شراء عقد من الفل؟ - لا شكرا - مقابل كل عقد سوف أقول لك قصيدة نظرت بدهشة باتجاه ذلك الطفل الصغير وجسده النحيل الذي يحمل عشرات من العقود أكاد اجزم انه لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره,بقيت أتأمل شكله البائس وملابسه المتسخة و بنطاله البني الذي يمتلئ بالرقع وقميصه الأبيض الذي تعلوه كوفية خضراء - كم عمرك؟ - في الشهر القادم سوف أكون في الثالثة عشر من عمري - من أي بلد أنت؟ نظر لي بتذمر ثم قال : - هل ترغبين بالشراء؟ - ربما ..أين والدك ؟ - لقد رحل لمدينة أخرى وتزوج وأنا الآن مسئول عن والدتي وأخوتي الصغار - إذاً أنت رجل البيت ابتسم ثم قال - نعم ..أنا كذلك وفجأة قفز باتجاه السيارة المقابلة وبدأ يعرض عليهم الفل يا إلهي رغم بؤسة وفقره ما يزال يبتسم ويشدو بالشعر ! ما الذي يفعله هذا الطفل في هذه الأجواء ؟ شعرت بالحزن على هذا الصغير الذي يتنقل بين السيارات كالفراشة دون كلل أو ملل والشمس الحارقة تكاد تصهر الحديد فكيف ببني البشر والتكييف داخل المركبات لا يكاد يحمينا من لهيب الشمس الحارقة كانت الابتسامة لا تفارق وجهه, يحرك يديه بخفه و رشاقة ويشير للسيارات بعقود الفل وهو يتغنى عالياً بأبيات الشعر وبصوت عذب أخرجت النقود من الحقيبة وقد عقدت العزم أن اشتري منه أشرت له بالاقتراب : - هات كل عقود الفل نظر لي بدهشة ثم ابتسم وهو يقول: - سيدتي هل تعشقين الفل لهذه الدرجة؟ - بل اعشق الشعر ابتسم حتى كشف ثغره عن أسنان بيضاء كاللؤلؤ وقال ضاحكا : - حسنا سيدتي .. لقد حفظت مئات القصائد بدأ يشدو بأعذب القصائد حتى ظننت نفسي قد عدت بالزمن لمجالس الولَادة بنت المستكفى ثم عدت لديار نجد حيث وقف عنترة يبكي رحيل عبلة وغدر الأهل والأصحاب حتى استفقت على صوت السائق وهو ينهر الطفل ويطالبه بالرحيل فقد بدأت السيارات بالتحرك اقترب الصغير من زجاج النافذة وهو يخرج نقود من جيبه - سيدتي ..الباقي - لا احتفظ بالمال لك - شكرا ودعته وأنا اشعر بشفقة على حاله وهو يهرول بين السيارات حتى اختفاء بين الجموع وبقيت أنظر للفل بين يدي والعبرة تكاد تخنقني وبدأت اردد قصيدة الشاعر محمد عبد السلام منصور من يشتري الفل نادى الطفل وابتسما عن نظرة أرهقت في صمتها الألما يجري ويطفر كالعصفور.. منتعلاً توقُّد الشمس والإسفلت مضطرما يسابق الفارهات الهوج يسرقه ضوء الإشارة حتى جرح القدما يجري بأتعس ما فيه وأنبلِه ومضِ الطفولة والحزنِ الذي كتما يا بائع الفل نادت حلوة فمضى نحو المليحة كالصوت الذي قدما من يشتري الفل؟ واجتاحته قاطرة وزهره فتشظَّى فرحة ودما هل بسمة الفل فرت من ملامحه أم فاضت الروح بالحزن الذي انحطما يسائل الوهم ما تعني نهايته وأسأل الفل: ما المعنى إذا سلما؟ والعمر في الوطن المقهور أكرمه قصيرة وكريم الأقصر انعدما د.نوف علي المطيري