لا تظلموا الموتى وإن طال المدى،، إني أخاف عليكم أن تلتقوا (المعري) البيت السابق، بيت جميل صادق، لشاعر صادق، ولا أظنه مخالفا للفطرة أن يكون الشاعر صادقا فيقول شعرا جميلا صادقا؟ ما يخالف الفطرة أن الناس لا يحبون الشاعر الصادق، ولا الشعر! فهذا البيت على الرغم من أنه صادق المعنى، بسيط اللفظ، عميق المغزى، يذكر المغتابين بما ينتظرهم يوم البعث من المحاسبة، إلا أنه لم يجد بين الناس من يتلقفه بما يستحق من الترديد والاستشهاد، فالناس في طبعهم يكرهون النصح ولا يحبون الناصحين، وما جزاء هذا البيت المتدثر بشعار النصيحة إلا أن يبقى موءودا بين الصفحات! المعري، شاعر تعيس الحظ، ظل تتقاذفه الآراء ما بين معجب وكاره، وبقي يتأرجح بين ناقد راض يمجد فلسفته وحكمته وبعد نظره، وآخر ساخط لا يرى في شعره سوى نظم لغوي ثقيل متكلف، ورغم أن المعري لم يكن ليأبه لشيء من ذلك، ولم تكن عينه على عماها، ترنو لشيء سوى ما يريده هو وما يرضى عنه، إلا أن حديثي هنا، ليس عن المعري وشعره وإنما عن هذا البيت الذي جاء مستهجنا اغتياب الأموات. في هذا البيت انعقد مجلس الاغتياب، وانطلقت الألسن تلوك الأعراض وتنسج التهم، متلذذة بأكل لحم الأموات في أمن من الانتقام أو الحساب! ولا أحسب أنه يوجد شيء أكثر قبحا من اغتياب إنسان ميت، في ظني أن ذلك الفعل في غاية النذالة، فأي ميزة في أن تطعن من لا يستطيع أن يرد عليك طعنتك! الميت لا يمكنه الدفاع عن نفسه ولا مواجهة خصومه المغتابين له، واستغلال موت إنسان في النيل منه وتصفية خلافات سابقة معه، هو لعمري من أخس ما يوجد على وجه هذه الأرض من تصرفات.