ما أشبه هذه المجالس - التي تحترق فيها نفوس المغتابين، وتتوهج فيها قلوب النمامين الحاقدين بمواقد النار.. لاتحرق إلا من يقع فيها ما أعظم قيم ديننا، وما أرقى توجهاته في العلاقات الإنسانية، وما أسمى روابط الإسلام التي توثق العرى فيه بين الناس.. لكن بعض الناس جهلوا أو تجاهلوا هذه القيم فتحللوا منها تحللاً يدعو للتعجب والدهشة. ترى البعض في كثير من المجالس يتعرضون بالنهش في غيرهم، خُلقاً، وعرضاً، وعملاً، واتهاماً وتشويهاً، وقليلاً ما ينبري أحد للدفاع عن هذا الذي ينهش ويغتاب، ويؤكل لحمه ميتاً في هذا المجلس. والأغرب من ذلك أنك تجد من بين الذين يتعرضون للناس بغير علم من هم على علم بل واشتغال بأوامر الدين ونواهيه - في هذا الشأن، لكنهم ينسون ما يعرفونه من هذه الآداب والقيم الإسلامية. ومما يستحق أن نقف أمامه، وأن نعرف حقيقة ما فيه.. هو ذلك الإنسان الذي يقيم من نفسه مدافعاً عن حق، أو ناصراً لقضية، أو داعماً لدعوة يراها هو بمنظاره، وهي في الحقيقة قضية ليست من أصالة الحق ولا صواب الخير.. كل يفصل الثوب بمقياسه؛ فبعض الخطباء، والوعاظ، والدعاة، والمعلمين يقعون في خطيئة فادحة بعيدة عما يرون أنه دفاع عن حق ودعوة إلى صواب؛ ذاك حين يتناولون أشخاصاً معينين في أحاديثهم وخطبهم.. ويتمادون موغلين في النهش بهم، وإظهار ما يزعمون أنه عيب في أعمالهم. والحقيقة أن هذا خطأ أخلاقي قبل أن يكون خطأً وظيفياً؛ والمفترض أنه ليس من أخلاق ووظيفة هؤلاء أن يفعلوا ذلك الذي يقدمون عليه، وهو في معظمه زور وبهتان، لايقل خطورة عمن زور ورقة أو مستنداً.. أو شهد شهادة زور، وحتى لوكان ذلك على أسوأ الفروض حقيقة فليس من المروءة أن يشهر أحد بالآخرين، وعلى الراغب في إصلاح ما يرى أنه اعوجاج أن يبادر إلى الآخر ناصحاً وموجهاً. كم سمعنا البعض في خطبه الدينية يقدح في أمانة بعض المسؤولين، وأخلاقهم، وتدينهم، ووصفهم بأبشع ما يوصف به الناس من خصال سيئة، وأعمال مرفوضة. ولئن سألت هذا الخطيب القادح عمن نهشه - لوجدته لايعرفه أصلاً، ولم يقابله يوماً.. لكنه (سمع.. قالوا.. زعموا.. من مصدر موثوق) وكلها كاذبة خاطئة. وكما قال أحد الحكماء (الموثوق لاينقل) وحتى لو كان مايقال صحيحاً فإن من يتمثل بقيم الإسلام لايصرح بالأسماء والأشخاص وإنما يجب أن يقتدي برسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين قال مثلاً (ما بال أقوام...). فليتنا نستعمل حق الدفاع عن الآخرين كما هو حقيقة، وكما ينبغي أن يكون أصلاً. لقد علمنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - نبي الرحمة أن ندافع عن إخواننا عندما ينتقص منهم في غيبتهم فقال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة)، وقال: (من رمى مسلماً بشيء يريد شينه به.. حبسه الله على جسر جهنم حتى يخرج مما قال) والمعنى المراد بذلك: حتى ينقى من ذنبه بإرضاء خصمه، أو بشفاعة، أو بتعذيبه بقدر ذنبه. كم يوجع النفس ما نسمع في بعض المجالس عما يدعيه بعض الناس على الآخرين - وخاصة من هم على رأس العمل العام، فيقال - زعماً - إن ما سمعوه هو الخبر اليقين في أنه فعل كذا وكذا، وأتى بكذا، وخالف كذا..وأنكر كذا وكذا.. وتصرف دون حق هكذا، وخالف النظام، وأتى بكذا وكذا، وقد يكون بريئاً من كل ذلك.. فما أسوأ مجالس النميمة هذه، وما أشنى من يتحدثون مغتابين الناس فيها.. بل إن المرء يلحظ في كثير من الأحيان فرحة بعضهم بما يسمع ويرى من شماتة في الآخرين، وحسد على بعض الموسرين، وتحقير لنجاحات العاملين المخلصين. ما أشبه هذه المجالس - التي تحترق فيها نفوس المغتابين، وتتوهج فيها قلوب النمامين الحاقدين بمواقد النار.. لاتحرق إلا من يقع فيها، ومن يتلظى بنار الحقد والغيبة والحسد.. أما المحسود، الذي يغتابونه.. فهو في نجاة من ذلك كله.. وهم وحدهم الذين بها يكتوون، وتسجل عليهم ذنوب ما يفعلون، قال البحترى: فاصبر على كيد الحسود فناره ترمي حشاه بالعذاب الخالد أو ما رأيت النار تأكل نفسها حتى تعود إلى الرماد الخامد تضفو على المحسود نعمة ربه ويذوب عن كمد فؤاد الحاسد والكل في هذه المجالس غني بالأخبار، طلق اللسان، سريع الجواب، معتمداً على هذا الزعم وهذا القول ليعزز مقاصده، ويؤكد ادعاءاته، فهو يخبر عن أمر نقلاً من غير تثبت، سماعاً من غير صادق دليل.. وهذا هو الذي يوقعه في جريمة الاغتياب والكذب. إن إخبار المرء بخبر غير حقيقي مبني على الشك والتخمين، دون الجزم واليقين عمل قبيح، وسلوك مشين لايليق بالكرام؛ إذ الواجب ألا يقول المرء إلا ما هو حق ثابت، وله عليه شاهد ودليل، ألم يعوا ما ورد في الأثر (بئس مطية الرجل زعموا). وفي الجانب الآخر ما أحرى بالمرء ألا يسكت عن اغتياب يعرف عدم صحته، بل يجب أن ينطلق في حمية الإنسان المكذوب عليه للرد على المدعي، والدفاع عن المغتاب، ولو لم يعرفه شخصياً، وليضع نفسه - عملاً، وشرفاً، وعرضاً، وكرامة، وخُلقاً- مكان هذا الذي تمزق ثيابه في هذا المجلس. من هذا فإن الخلق الكريم يقضي بأن يكون هناك توجه للدفاع عمن ينتقص قدرهم، ويزدرى شأنهم، وتنهش مقاديرهم في هذه المجالس - مجالس الاغتياب ومحاضر الانتقاص- لأن دفاع الإنسان عن أخيه الإنسان، أو دفاعه عن هيئة عمله.. أو إدارة وظيفته بما هو حق هو واجب أخلاقي حتمي.. بل هو دفاع عن الدين.. لأن الدين ليس إلا سلوكيات نتعلمها ونعمل بها، ندافع عنها.. وكما نزدري - على سبيل المثال- من يفطر في رمضان جهاراً نهاراً ونوبخه على ذلك.. فعلينا أن نقف هذا الموقف نفسه مع من ينهش جهاراً نهاراً أعراض الناس في المجالس.. بل يجب أن يكون الدفاع قوياً منا عن كل من يُغتاب ول وكان من غير المسلمين، فأخلاق الإسلام شاملة عادلة، والله يأمرنا بالعدل مع الجميع (ولايجرمنكم شنآن قوم على ألاتعدلوا..اعدلوا هو أقرب للتقوى)، وينسى كثير من الناس أنه لا يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم (الغيبة والنميمة). الالتزام بالعدل والإنصاف وعدم التجني على أحد حتى مع من بيننا وبينه خصومة أو عداء قيمة دينية وفضيلة إنسانية راقية.. لأن الدفاع عن الإنسان المظلوم قولاً أو عملاً هو إحقاق للحق، وإثبات للعدل، وصاحب الخلق الرفيع يأبى إلا أن يكون شامخ الأنف، مرفوع الرأس، غير منتقص من حق الآخرين؛ لأنه لايقبل أن ينتقص من حقه، أو ينهش عرضه، أو تضاع ظلماً حقوقه، أو تهدر بالكائدين كرامته.. بل إنه لايرضى أن تلوكه الألسنة، ويكون موضوع حديث المجالس.. ولايقبل أن يتواجد هو في مجلس تنهش فيه الأعراض، وتنتقص الأقدار، ويهان فيه الناس. وأكرر.. كم من أبرياء مخلصين فيما قصدوا وفيما عملوا أسيء إليهم، وأنكر عظيم ما فعلوا.. نتيجة أن سوء نوايا الناس قد أحاطهم بسياج من الشك وسوء الظن، وفساد القصد، وذاتية النفع.. لكني مثلك أيها القارئ على يقين من أن الله حتماً سيكشف كل هذه الدعاوى، وينصر الحق، والصدق، والإخلاص مهما كثر الحاقدون المغرضون، وإذا كان الذب عن أعراض الناس واجباً شرعياً على الناس كافة فإنه أوجب على أهل العلم والدعاة والمربين من المعلمين والمعلمات.. الذين هم القدوة والأسوة الحسنة. وإني لأرى أن حكر الدفاع عن العلماء الشرعيين وحدهم ليس صواباً؛ إذ طالما نسمع مقولة (لحم العلماء حرام).. نعم هو حرام.. لكنهم ليسوا وحدهم أصحاب هذه الحرمة.. وتخطر ببالي قصة صديق لي سمع عن اغتيابه في أحد المجالس فحزن لذلك، ولما اعترض على هذا الشين قال أحد الحضور (لست من العلماء الشرعيين ممن يحرم لحمهم).. قال: ما شاء الله، صار لحم البشر في شريعتنا أنواعاً فلحم العلماء حرام - أما لحم مثلي فهو كباب على النار يشوى، وعلى موائد النميمة يؤكل. إن صاحب الخلق النبيل، والحس الإنساني الرفيع هو الذي ينبري للدفاع عمن يخاض في حقه، وتمزق ثيابه في مجالس الظن من الناس. إننا، إذا ربينا أنفسنا، وأهلينا، وطلابنا، وطالباتنا، على هذه المعاني الإسلامية السامية التي ترفض الطعن في حق الناس انطفأت نيران الإشاعات الضارة في المجتمع، وسلمت الصدور، وانشغل الناس بما ينفعهم في دينهم ودنياهم، وعرف الناس عموماً والمعلمون والدعاة، وطلبة العلم الشرعي خصوصاً، أنهم ليسوا قضاة على البشر، يصنفونهم إلى فئة ناجية، وفئة هالكة، وفئة بين بين، بناءً على مقدار علمهم واجتهادهم ورأيهم فيهم، وفي حدود إنسانيتهم التي لا تصفو من شوائب الجهل والهوى.. وقد قال: رب العباد سبحانه وتعالى لأكرم خلقه - عليه الصلاة والسلام -: (فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب)، وقال له: (ما عليك من حسابهم من شيء) فاتقوا الله يا عباد الله وقولوا خيراً أو اسكتوا. وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم اجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمدنا يا ربنا بتأييد من عندك وتسديد.