مدخل: أمّا اليقين فلا يقين، وإنما أقصى اجتهادي أن أظنَّ وأحدسا أبو العلاء المعري جاء في معجم لسان العرب(اليقين: العلم وإزاحة الشك، وتحقيق الأمر. وقد أيقن يوقن إيقانًا فهو موقن، ويقن ييقن فهو يقن، واليقين نقيض الشك) أمّا معناه الاصطلاحي فثمة تعريفات متعددة أهمهما (العلم الحاصل بعد الشك)، وحين نتعاطى نتاج شاعر كأبي العلاء المعري نجد أننا أمام ظاهرة حدسية واضحة في شعره، فهو ينتمي إلى أولئك (الحدسيين) الذين ينهلون من مصادر متعددة مثل: الحدس والإلهام والرؤية الصادقة، يقول الدكتور موسى العبيدان (أمّا في الفلسفة الإسلامية فليس للمعرفة اليقينية مصدر واحد، بل مصادر متعددة تفيد جميعها العلم اليقيني)، وذكر من ضمنها العقل والحس والحدس والإلهام والرؤية الصادقة. وأبو العلاء المعرّي يأتي مجسّدًا لشعر الرؤية بحدسه، وظنه، وأسئلته، وإعمال عقله، منطلقاً من الحكمة والفلسفة في تفسير الأشياء ومدلولاتها. وُلد المعري مثل أي طفل يستقبل الدنيا، يحاول أن يتهجّى كل شيء. فداهمته تقلبات الحياة، فأُصيب بالجدري الذي أفقده الإبصار في عينه اليسرى، أمّا اليمنى فقد غشاها البياض.. وتشكّل في فترة انفتاح على علوم كثيرة، ونشأ يحمل قلبًا رقيقًا يمتلئ بالرحمة والعطف.. ليجد نفسه مختلفًا عن الشعراء الذين يهرولون خلف مكاسب الحياة، والتكسب بقصائدهم الشعرية؛ فالشعر كان -ولايزال- طريقًا للوصول إلى مكاسب دنيوية عند بعض الشعراء المدّاحين، سواء في العصر العباسي، أو في عصور أخرى، رغم أن ذلك ليس من مقاصد الشعر وغاياته التي تسمو فوق تلك الصغائر. كان أبو العلاء المعري عزيز النفس -يسمو بها، ويحمل العفة والارتقاء- لكنه اتّهم بالزندقة في حلب، وثار حوله الجدل، وشاع اسمه بعد اتّهامه في دينه ومعتقده. وليس هناك من شك أن ثمة رؤية ضيقة كانت ماثلة تجاه مَن يتعاطى الفلسفة -آنذاك- انطلاقًا من مقولة «مَن تمنطق فقد تزندق». وكان هذا كافيًا لإثارة الآراء حول متعاطي الفلسفة، سواء من الشعراء أو غيرهم . إنّ كلَّ دارسٍ لشعر أبي العلاء المعري سيجد -بلا شك- الرؤية الفلسفية حاضرة في شعره، سواء في «سقط الزند»، أو في «الدرعيات»، وحتى في «رسالة الغفران». واللافت أن أبا العلاء المعري، كان معجبًا ومحبًّا ومتأثرًا بالمتنبي، ف(ذاك تنبأ، وهذا تزندق)! هكذا كانت هي الصورة الماثلة لهما -آنذاك- ومع ذلك ظل الرابط الثقافي حيال شعر كل منهما وشيج التواصل والإعجاب. «وأبو العلاء مترع بالحكمة، وهو فيلسوف برع في حقول اللغة والشعر، ورؤيته للحياة تختلف عن رؤية الشعراء المداحين والطالبين للدنيا الغارقين في ملذاتها وشهواتها.. إن المعري يحلق في اتجاه آخر.. على خلاف مع الأشياء والمسلّمات، ليس مفتونًا بزخرف الحياة.. فهو زاهد وكادح ومتأمل ينتج الفلسفة والإبداع والرؤية. يتّخذ من الحكمة والعقل منهجًا ينساق خلفه؛ فخرج نتاجه الأدبي باتجاه الدنيا، يقول الدكتور طه حسين: (ليس في شعراء العرب كافة، مَن يشارك أبي العلاء في خصال امتاز بها: منها أنه أحدث فنًّا في الشعر، لم يعرفه الناس من قبل، وهو الشعر الفلسفي) ويقول أيضًا: (استنزل الفلسفة من منزلتها العلمية المقصورة على الكتب والمدارس، إلى حيث تسلك طريق الشعر إلى قلوب الناس). والمعري شاعر مع حكم العقل، وأسئلة العقل أيضًا، فحين أراد أن ينحاز لمذهب المعتزلة أهل العدل والعقل أنشد يقول: يرتجي الناس أن يقوم إمام ناطق في الكتيبة الخرساء كذب الظن لا إمام سوى العقل مشيرًا في صبحه والمساء فإذا ما أطعته جلب الرحمة عند المسير والإرساء وهو الذي يقول أيضًا: سأتبع من يدعو إلى الخير جاهدًا وأرحل عنها ما إمامي سوى عقلي والفلسفة التي لازمت المعري في قصائد الشعرية لم تجعل الاتهامات ضده تعلو كثيرًا، مثلما فعله نتاجه النثري الهائل والمثقل بالفلسفة والرؤية جعل اتهامه بالزندقة صريحًا. يقول الذهبي عنه: «إنه صاحب الزندقة المأثورة «، ويقصد بذلك «رسالة الغفران». ورسالة الغفران جاءت كعمل أدبي فلسفي مغامر، تشكّل في فترة انفتاح عربية عباسية على ثقافات فارسية ويونانية وكلدانية وآشورية، فيرسم زيارته للدار الآخرة يرافقه أحد أصدقائه الذين سبقوه إلى تلك الدار.. فجنّد حوله عددًا من الشعراء الجاهليين للذود والدفاع عنه. والرسالة تحمل صراعًا وجدلاً صاخبًا اقتحمه بنثرية فلسفية تحاول أن تجيب عن بعض الأسئلة التي تقف القدرة العقلية الإنسانية أمامها عاجزة، لقد حاول أن يفسر ويفلسف الأشياء الماورائية؛ ممّا جعل العديد من الفقهاء يصدرون أحكامهم باتهام (رهين المحبسين) بالزندقة.. لكنه يقول: لا تظلموا الموتى وإن طال المدى إني أخاف عليكم أن تلتقوا هكذا يتراءى المشهد للشاعر المعري بأن الجدل سيدور حوله بعد وفاته، حين يكون مع الموتى في الدار الآخرة دار القرار، وكذلك الشعراء الذين ماتوا ليتركوا الجدل بعد موتهم، فأبو العلاء شاعر مثقل بالفلسفة، إنه هنا يستشرف ذلك الجدل والاتهامات التي ستعلو حتى بعد رحيله، وكأنه يطالب بالتوقف عن اتهام الأموات، بل الدعاء لهم، والترحم عليهم بأن يغفر الله لهم، إنه هو الغفور الرحيم، وهو يستشرف موقف المجتمع تجاه فكره وشعره وفلسفته، وهو هنا لا يريد لأحد أن يظلم الموتى؛ لأنهم عند ربهم هو أرحم بهم. فجاء خطابه مختلفًا في هذا البيت مكتظًا بالحكمة والورع، يرتجي العفو واللطف؛ فقدرة هذا البيت على التأثير مكتظة تحذر كلّ مَن يتعاطى شعر المعري، وكلَّ مَن يقترب من عوالمه الخفية.. ويظل صاحب مَلَكَة، وتفرّد، وبحث، واطلاع وإصرار على أن لغته ستأتي بالجديد..يقول: وإني وإن كنت الأخير زمانه لآتِ بما لم تستطعه الأوائل فكانت إحاطته باللغة وتدوينها، وحفظ المادة اللغوية وتصريفها، وقدرته الهائلة على الحفظ والإلمام تجعله يعلن بكل فخر أنه آتٍ بما لم تستطعه الأوائل. وإضافة إلى تلك المقومات فهو يمتلك الوعي الحاد بالتاريخ، وقراءة التراكم الحضاري لكثير من الأمم السالفة، فيقول في اللزوميات: ما مر في هذه الدنيا بنو زمن إلاّ وعندي من أخبارهم طرف وأخيرًا حينما ننظر إلى حضور الفلسفة في شعر ونثر أبي العلاء، نجد أنها كانت تمثل حضورًا لعلوم شتّى، وأننا نقف أمام عالم موغل بالرؤية، والاستشراف، والحكمة، والعقل، والأدب جميعًا نبتت وارتسمت في عوالم شاعر أثقلته أسئلة العقل باتجاه الرؤية؛ ليكون بالفعل أقصى اجتهاده أن يظن ويحدسا.. [email protected] * كاتب وروائي