ليس هناك أجمل من الكتابة الإبداعية عن البلدان وإن قست؛ لأن الكتابة الإبداعية تجعلها قريبة من الناس وإن لم يروها. يتفق في هذا كثيرون، ويحيلون الأمر إلى الكتابة ذاتها بوصفها قيمة تغلب في قيمتها بعض الرموز الأخرى المختلفة سياسية كانت أو اجتماعية؛ لأن الكتاب والمبدعين أكثر القادرين على إحياء بلدانهم بالكتابة شعرا أو نثرا. في الشعر الحديث لم ينس الناس دمشق في رائعة نزار، ولا العراق في شعر الجواهري، ولا اليمن في قصائد البردوني.. في الرواية نستحضر مدينة الإسكندرية لدى إدوار الخراط وإبراهيم عبدالمجيد، وعمان لدى عبدالرحمن منيف في كتابه «سيرة مدينة»، وبيروت عند صنع الله إبراهيم، ومدينة طنجة عند محمد شكري وغيرها الكثير... الكثير. وكما يقول الروائي السوداني أمين تاج السر إن الكتابة عن المدن وعوالمها تعتبر من الأشياء الشائعة في الكتابة الروائية في أي مكان به من يكتب رواية، وهناك مدن حقيقية دخلت بشوارعها وضجيجها ومركباتها وأرقام بناياتها وحتى العمال الذين يشيدون عمرانها، ومدن أخرى خرجت من خيال الكتاب، وأصبحت فيما بعد معروفة بشدة لدى القراء كأنها صيغت بالفعل في الواقع، ويمكن زيارتها في أي وقت. وهذا ما يتفق معه فيه الكاتب والروائي السعودي عواض شاهر حين استشهد بنور الدين فارح الذي اتخذ شعار «أنا أحيي بلادي بالكتابة عنها»، إذ يقول عواض «كان هذا شعار نور الدين فارح في مشروعه الروائي منذ بداياته حينما كان يكتب باللغة الصومالية في بلده، ثم حينما اختار المنفى بسبب معارضته لنظام سياد بري فتحول إلى اللغة الإنجليزية عام 1970، وكان وقتها يدرس في جامعة البنجاب بالهند، ولعل هذا الشعار الذي دأب على تمثله في رواياته وفي كتاباته الأخرى من أهم ما جعله «أهم روائي أفريقي في ال 25 عاماً الأخيرة» في القرن العشرين بحسب بعض النقاد، وبحسب آخرين يعد أهم روائي أفريقي إلى اليوم. ويضيف شاهر «روائي واحد يتمتع بموهبة سردية استثنائية رفع اسم بلاده في المجال الأدبي إلى مشارف عالمية أكثر من أي مكينة إعلامية وأكثر من أي مسؤول حكومي مهما علا شأنه. ولعل هذا يعطينا خلاصة مفادها أن هناك دولاً ومجتمعات محظوظة بكتاب كبار واستثنائيين أحيوا بلدانهم في الفضاء العالمي، وهناك دول ومجتمعات حظها أقل إلى حين، وهناك دول ومجتمعات تعثرت في إنتاج أدب محترم عابر للحدود المحلية نظراً لارتباط مفهوم الأدب لديها بمفاهيم أخرى أعطيت أولوية في بناء الشخصية المحلية التي لا بد أن تكون «مضمونة» بحسب معايير السلطات السياسية في تلك البلدان». الأستاذ الدكتور جمعان عبدالكريم يرى أن البلدان الطاردة.. لا يمكن أن ينشأ فيها أدب أو أدباء عظام.. إلا نادرا وبطريقة انتحارية يحمل مشعل الحرية، أي أن قيمته في المواجهة والإبداع معا، وحيثما التفت في العالم العربي مثلا تجد أغلب عظمائه لفظتهم بلادهم أو لفظوا بلادهم.