في العاشر من فبراير القادم تحل الذكرى الأولى لرحيل الأديب والمثقف عابد خزندار، ففي هذا اليوم من عام 2015 فجعت الأوساط الأدبية والفكرية في السعودية برحيل صاحب الرؤى الفلسفية العميقة والثقافة الفرانكفونية التنويرية في باريس عن 80 عاما. ولعل هذه مناسبة مواتية لنرفع الصوت مجددا مع معارفه وزملائه في الفكر والقلم مطالبين الجهات المعنية في وطنه بوضع جائزة باسمه تمنح للمبدعين، خصوصا أنه لم يكرم من قبل أي جهة سوى اثنينية عبدالمقصود في 2001، بل لم يتم تداول ودراسة فكره ونتاجه الأدبي والثقافي من خلال الأندية والجامعات على النحو الذي حدث مع أسماء محلية أخرى، باستثناء دراستين يتيمتين: الأولى بعنوان «أنماط القراءة النقدية في المملكة العربية السعودية: عابد خزندار نموذجا» من إعداد الناقد أحمد العطوي في 2010، والثانية بعنوان «عابد خزندار، مفكرا ومبدعا وكاتبا» من إعداد المؤرخ محمد عبدالرزاق القشعمي في 2013. والحقيقة أن العطوي فعل خيرا حينما أتى على ذكر أسباب تغييب خزندار عن لوحة النقاد الأدبيين السعوديين والعرب وتجاهله، والتي لخصها في غياب قارئ رفيع الثقافة يستطيع فهم ثقافة خزندار الصعبة ولغته النقدية المركبة. أما عن حيثيات هذه المطالبة ومبرراتها فهي كثيرة. إذ يكفي الاطلاع على سيرته الذاتية الزاخرة بألوان من الإبداعات في مجالات شتى، ناهيك عن عصاميته وتفرده في جملة من الأمور، وتبحره في الثقافات العابرة للقارات، وأسبقيته في الخليج والجزيرة لجهة دراسة الثقافتين الفرنكفونية والألمانية. ولعل مرد هذا التنوع والثراء في شخصيته خلاف ولادته في مدينة مكة التي هي معبر للثقافات ومركز للعلوم ومحطة لاختلاط الثقافات والاعراق أن كل مرحلة من مراحل حياته تزامنت مع منعطفات تاريخية حادة كانت لها الأثر الكبير في تشكيل وعيه وتوجهاته. فمثلا كانت ولادته ونموه ودراسته في زمن التحولات الكبرى بعد توحيد السعودية، وحينما ذهب لإكمال دراسته الجامعية في مصر كانت الأخيرة تعيش مخاض التحول من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري، وبعد عودته إلى بلده للعمل كانت شعارات الثورة والقومية العربية ورومانسيات الوحدة العربية هي الطاغية فدفع ثمن الانجراف وراءها. أما اختياره لباريس كمحطة للراحة والتأمل ومراجعة الذات فقد تزامن مع محاولات فرنسا الخروج من تداعيات ثورة الشباب والعمال اليسارية العنيفة التي أسقطت الجنرال شارل ديغول. ولد عابد محمد علي عنبر آغا خزندار في حي القشاشية/الشامية في مكة عام 1935، وعمل جده كمسؤول عن المالية في العهد التركي (لهذا السبب اكتسبت العائلة لقب الخزندار التي تعني أمين الخزانة)، غير أن عائلته صارت لاحقا من أوائل من وزع المطبوعات الأجنبية في المملكة عبر مكتبة الخزندار التي تحولت تدريجيا إلى دار للنشر، علما أن عمه الأديب والصحفي حسين خزندار كان أول رئيس تحرير للزميلة «اليوم» منذ تأسيسها بالدمام في 1964. انحاز إلى القراءة.. والعزلة صقلته دراسة عابد خزندار كانت في مكة، حيث درس أولا في كتاتيبها، ثم درس الابتدائية في مدرستي الفلاح الأهلية والرحمانية الحكومية، ثم أنهى الثانوية في مدرسة تحضير البعثات في 1953، لينتقل بعدها إلى مصر بهدف الالتحاق بكلية الطب، ولكنه اختار دراسة الهندسة الزراعية في جامعة القاهرة، بعد أن قرأ كتابا عن النحل للأديب أحمد زكي أبو شادي، فسحره النحل والأدب معا. في تحقيق عنه بقلم الكاتب السوري المعارض إبراهيم الجبين في صحيفة العرب اللندنية (16/11/2013) يقول خزندار متذكرا فترة دراسته الأولى «تيسر لي أن التحق بالكتّاب، وقد درست في البداية في كتّاب للبنات كانت تديره سيدة من عائلة الهزازي، وكنا نكتب دروسنا في اللوح لندرة الورق في تلك الأيام، وهذا ما كان يتطلب منا حفظ الدروس أولا بأول لنمحوها عن صدر اللوح كي نكتب عليه مجددا الدروس اللاحقة». ويضيف أنه التحق بالمدرسة النظامية لكنه كان يغادر المدرسة عصرا إلى باحة الحرم المكي لمتابعة حلقات الدروس، ليحفظ ألفية ابن مالك في النحو وغيرها. وقال عن والده الذي كان هو الآخر مثقفا «تعلمت من أبي أكثر مما تعلمت من ابن هشام الذي كان كتابه هذا مقررا علينا بمدرسة الفلاح بمكةالمكرمة». وفي التحقيق نفسه يتطرق خزندار إلى جانب آخر من حياته المبكرة هو المصادر الأولى التي من خلالها تشكل وعيه فيذكر الورق، «الذي عاد إلى الظهور في مكة من بعد انقطاع بسبب الحرب العالمية الثانية فعادت معه الصحافة»، ويذكر الراديو، الذي قال إنه «صنع ثقافته ونقل إليه كل ما يشتهي من أبعد مكان في العالم»، ثم يذكر المكتبات فيقول إن مكةالمكرمة كانت بها مكتبة راقية اسمها «مكتبة عباس حلواني»، وبعد الحرب تأسست بها «مكتبة الثقافة» على يد عبدالحميد الصحاف وعبدالرزاق بليلة وصالح جمال وأحمد ملائكة. وفي السياق ذاته، يتحدث عن رقابة المجتمع كحائل دون التزود بما يرغب المرء باكتشافه فيقول: «عاقبني أحد المدرسين حين أمسك بي متلبسا، وأنا أقرأ رواية مجدولين، التي عربها مصطفى لطفي المنفلوطي، وقد قرأت عن تولستوي لأول مرة عندما كنت في مكةالمكرمة، وأنا في مرحلة التحصيل الثانوي، وذلك في مجلة الرسالة، ولا أذكر الآن كاتب هذه المقالات، وكان المحور لهذه المقالات هو رواية الحرب والسلام، فتشت عنها في مكتبات مكة فلم أجدها بالطبع، فيتلك الأيام لم تكن قد ترجمت إلى العربية». في عاما 1957 عاد إلى بلاده حاملا درجة البكالوريوس في الزراعة من جامعة القاهرة، ومعها أيضا درجات من الإعجاب والشغف بالأفكار الحداثية واليسارية التي يعتقد أنها تسربت إليه من علاقة عميقة نشأت بينه وبين المفكر المصري سلامة موسى المنادي بالتحرر من العادات والتقاليد القديمة والانفتاح على الغرب، إضافة إلى الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي، ويعتقد أن سلامة موسى هو الذي أرشده إلى كتب الفلسفة، وخصوصا كتب ابن رشد، وهو الذي غرس في نفسه حب فرنسا ونتاجها الفكري والفلسفي، وهو الذي شجعه على قراءة مؤلفات طه حسين والاطلاع على رحلته العلمية إلى باريس. لكن خزندار كان قد تأثر قبل ذلك، وهو طالب في مدرسة تحضير البعثات بمكة، بمعلم اللغة العربية الأديب والناقد عبدالله عبدالجبار، فالأخير طبقا لما نشرته صحيفة «الشرق» السعودية (11/2/2015) وجد فيه تلميذا نابغا مولعا بالقراءة فتعهده بالرعاية وأرشده إلى قراءة مؤلفات شخصيات إصلاحية ونهضوية مثل كتب المفكر المصري أحمد أمين، كما طلب منه اختيار أحد المصلحين الذين تناول أحمد أمين سيرهم، وكتابة ملخص عنه كي يذاع في حفل «ندوة المسامرات الأدبية» الذي كان يُعقد في المدرسة كل خميس بحضور الطلبة والمدرسين والأدباء. تزوج خزندار من السيدة شمس الحسيني التي عملت كمحررة في الصفحة النسائية بجريدة «اليمامة» بدعوة من صاحبها آنذاك الشيخ حمد الجاسر، لكنه ما لبث أن غادر السعودية مجددا برفقة زوجته في رحلة علم جديدة، كان هدفها الحصول على درجة الماجستير في الكيمياء الحيوية من جامعة ميريلاند الأمريكية والتي نالها في 1961، ليلتحق بعد ذلك بوزارة الزراعة (تأسست في 1953 وكان أول من حمل حقيبتها الأمير سلطان بن عبدالعزيز) وتدرج في وظائفها بسرعة، بسبب ندرة الكفاءات الجامعية في ذلك الوقت، إلى أن وصل إلى مرتبة مدير عام الثروة الحيوانية في الوزارة في عام 1962. وبسبب هذه المرتبة كان عليه الانتقال من الحجاز للإقامة والعمل في الرياض. مما يذكر عنه أنه أثناء توليه تلك الوظيفة، حرص على أنْ يجسد نموذجا مختلفا للموظف الحكومي الذي ينزل إلى مواقع العمل ليرى ويشرف ويتعلم، بدلا من أن يجلس في المكاتب المكيفة، ويصدر الأوامر، ويوقع الأوراق، بدليل أنه راح يتنقل بنفسه بين القرى والوديان في المقاطعات السعودية الشمالية المحاذية للأردن، ويقيم في الخيام وسط الصحاري. وفي السياق نفسه، يضيف المؤرخ محمد القشعمي، في مقال له في صحيفة «عكاظ» أن خزندار آثر العيش في الصحراء وبين المزارعين في وادي السرحان بالجوف لأكثر من سنة. يعتقد البعض أن الفترة التي قضاها في الإيقاف من 1963 إلى 1965 من أقسى فترات حياته وأشدها على نفسه المرهفة، لكن الأمر بالنسبة له كان مختلفا، حيث قال عن فترة إيقافه في الدمام مع رفيقيه الأديب والصحفي عبدالكريم الجهيمان والشاعر عبدالرحمن المنصور، طبقا لما ذكره لإبراهيم الجبين «أمضيت عامين هادئين تفرغت فيهما للقراءة بلا أدنى صخب أو ضجيج، استثمرت فترة التوقيف مع الجهيمان في القراءة والمحاورات، في الحقيقة لم أعانِ أبداً، فترة السجن، لم تكن مؤلمة بالنسبة إلي، صحيح أنني ظللت فيها بعيدا عن أهلي وعالمي الخاص، لكنني لم أعانِ. كنت أقرأ وأكيف نفسي مع المكان». الأديب السعودي عبدالكريم الجهيمان يقول إنه عرف جميع حركات خزندار وسكناته وطريقته في الحياة، «فرأيت ما أعجبني من رجولة ومكارم وأخلاقه يضاف إلى علم غزير ومعرفة بلغتين أو ثلاث أو أكثر من اللغات الأجنبية الحية، علاوة على اللغة العربية». ويقول الدكتور معجب الزهراني، وهو فرنكفوني سعودي آخر من خريجي السوربون في مقال له في الزميلة «اليوم» (14/2/2015) إنه التقى خزندار للمرة الأولى في مهرجان الجنادرية لعام 1986 فاندهش «من هذا الرجل الهادئ الأنيق يحدثني عن تودوروف ورولان بارت وجاك دريدا، وقد كنت أحضر دروسهم في السوربون، سألته حينها: ومن أين لك هذا؟ وأعني: كيف له أن يتابع مثل هذه الأمور وهو في السعودية؟». كان ذلك اللقاء والاندهاش بداية علاقة ربطت الرجلين فتلته لقاءات أخرى كثيرة. اختار باريس حياً ..ودفن في «معلاة مكة» قرر عابد خزندار أن يشد رحاله إلى باريس، التي احتضنته عشرة أعوام متواصلة كدارس للثقافة الفرنكفونية والأدبين الفرنسي والإنجليزي اللذين عززهما لاحقا بدراسة الألمانية والأدب الألماني، فكانت تلك السنوات من أغزر الفترات في حياته لجهة امتلاك ناصية النقد الحديث والمنهج الغربي والفرنسي في الكتابة. تملك سحر باريس منه فقرر قضاء أوقات طويلة فيها مع التردد على الوطن من وقت إلى آخر، ولاسيما أثناء المناسبات الثقافية مثل مهرجان الجنادرية السنوي. باريس التي اتخذ منها خزندار مكانا دائما لإقامته، بعد وفاة زوجته في 2012، كي يكون بجوار ابنتيه: الأولى واسمها منى وقد ولدت في الولاياتالمتحدة أثناء دراسة والدها هناك، وقالت ذات مرة أن والدها رسخ فيها الشغف بالأدب منذ أن كانت صغيرة، ثم صارا يتبادلان الكتب والقراءة، وكان بينهما حوار أدبي متواصل. والمعروف أن منى خزندار تولت في 1987 منصب المديرة العامة لمعهد العالم العربي في باريس، كما حصلت على لقب المرأة العربية لعام 2011. أما الثانية فتدعى سارة وهي أستاذة التراث المعماري في جامعة السوربون. لم يكتف خزندار بالإبحار في محيطات الشعر الجاهلي، والآداب الفرنكفونية والإنجليزية والألمانية، وكتابة الرواية، والترجمة وإعداد المؤلفات في الحداثة وما بعد الحداثة والبنيوية فحسب، وإنما نذر نفسه أيضا لتناول هموم الناس وقضاياهم ومعاناتهم من خلال أعمدة صحفية يومية متميزة بالجرأة والشجاعة والنقد اللاذع، كان يختار لها عناوين جذابة. وهكذا كتب الرجل في صحف «عكاظ» و«المدينة»و«الرياض» و«اليوم»، إضافة إلى صحيفة «الشرق الأوسط» مقالات مختصرة تناولت مواضيع شائكة وحساسة. في السنوات القليلة التي سبقت وفاته، أجريت لخزندار عمليات جراحية عدة فوهن جسده وبدا غير قادر على تحمل رطوبة جدة الخانقة، فصار يهرب من جدة إلى باريس، حيث تفرغ هناك للقراءة المكثفة بالعربية والإنجليزية والفرنسية، هاجر الألمانية التي كان يجيدها ونسيها شيئا فشيئا بسبب البعد عنها، وهكذا يمكن القول إن حقبته الباريسية هي التي شهدت ولادة معظم إبداعاته. وبعيد دفنه في مقبرة المعلاة بالعاصمة المقدسة، نعاه الكثيرون من زملائه. فكتب الدكتور معجب الزهراني قائلا: «إن عابد خزندار الذي عاش في المنفى الاختياري طويلا هو من أجمل وأنبل ضمائر هذا الوطن». وكتبت الأديبة حليمة مظفر في مواقع التواصل الاجتماعي: «أستاذنا الكبير المفكر والناقد عابد خزندار، من أهم رموز الثقافة والحداثة لدينا، ولكن يختلف عنهم بأنه لم يدر حول ذاته، بل حول الإنسان والوطن، ولذلك لم يكن يحب الضجيج الذي يفتعله كثيرون حول أنفسهم، سبق زمنه، فهل سينصفه التاريخ؟». ووصفه الأديب محمد العلي ب«الهرم اللا مرئي» الذي تمر عليه الأندية الأدبية المنتشرة في ساحاتنا الثقافية دون أن تراه. من أعماله: رواية «ما بعد الحداثة» التي صدرت في 1992 وفيها يتحدث عن الروائي التشيكوسلفاكي المنشق «ميلان كونديرا»، ثم يستطرد فيتحدث عن كتاب فروا إلى الغرب من الكتلة الشرقية مثل باسترناك وسولجنستين، رواية «الحياة ليست هنا» لكونديرا ويقارنها بنص «إرادة القوة» للفيلسوف الألماني نيتشه. كتاب «أثنوية شهرزاد» بالفرنسية والذي ترجم إلى العربية في 1996. «المصطلح السردي» في 2003، و«معجم مصطلحات السميوطيقا» في 2008 مترجمين عن الإنجليزية، علما بأن الكتاب الأول يشتمل على 607 من المصطلحات السردية من تلك المتعلقة بعناصر العمل الروائي، بينما يستهدف الكتاب الثاني التعريف بعلم السميوطيقيا وهو علم إنتاج الدلالة كنظرية أدبية تزايدت أهميتها خلال العقود الثلاثة من القرن العشرين. «الإبداع» في 1988، و«حديث الحداثة» في 1990. «معنى المعنى وحقيقة الحقيقة» في 1996، و«مستقبل الشعر موت الشعر» في 1997. «التبيان في القرآن الكريم: دراسة أسلوبية» في 2012. أما آخر نتاجه فقد كان رواية «الربع الخالي» التي ظهرت قبل عام من وفاته، وفيها يسرد الكثير من طفولته وحياته، مازجا ما بين الواقع والخيال. من أقواله: من أقواله التي تكشف جمال روحه ورقي مشاعره قوله إن «وعي الإنسان يتشكل عندما يبدأ يحس بالجمال، فالإحساس بالجمال هو الذي يولد الوعي، وعدم الإحساس بالجمال ينتج منه وعي متبلد. لحظة أي أمة تبدأ من لحظة إحساسها بالجمال، فعصر النهضة في أوروبا بدأ بالفنانين أمثال مايكل أنجلو وروفائيل وغيرهما». وهو القائل أيضا: «الرياضة حاجة أساسية وإحساسا بالجمال، ووعيا جماعيا، فتقدم الرياضة في بلاد من البلدان دليل على تقدمها في بقية المجالات، فالتقدم حلقات متصلة تكمل بعضها بعضا، والنظرة الدونية للرياضة فيها شيء من التبلد». وكان خزندار لاعب كرة قدم في صفوف نادي الوحدة بمكةالمكرمة في الأربعينات، ثم انتمى إلى عضوية شرف النادي. * أستاذ في العلاقات الدولية من مملكة البحرين