تخلياً عما اعتادت أكف أسلافهم على حمله من تجاويف زجاجية ارتبطت إلى حد قريب بمتممات الرجولة لدى الأعراب، اعتادت أيدي الكثير من السعوديين على احتضان «أكواب» القهوة المختلفة، لتصبح رفيقتهم الصباحية، وخليلة السهر لعشاقه. سوداء وشقراء وحتى بيضاء، ارتبطت مرارتها ب«صناعة المزاج» وافتتاح أيام العمل صباحا، وإطالة السهر لعشاق الليل، كما يصبح «نغم الرشفة» أشبه بجرس الانطلاق لكل ما يحدثه «الكافيين» من ضجيج في مجرى الدم لمدمني القهوة. طقوس احتساء المشروب الشعبي السعودي، باتت تضاهي «قداسة» تناول «الشاي الإنجليزي» لدى البريطانيين، إذ يتشارك السعوديون مع أقرانهم «الإنجليز» في وضع قوانين صارمة لتناول المشروب الساخن المفضل، فبينما يحتفي أبناء المملكة العظمى بحفلات تناول مشروبهم «الأسود» العتيد، يمارس سكان المملكة العربية السعودية التقليد ذاته بحفاوة لها طابعها الخاص ومكانتها التي تظهر احترامهم لمشروبهم «البني». أكواب القهوة المتناوبة على أفواه مدمنيها، دعت الكثير منهم إلى إطلاق مسميات خاصة بهم، وشيفرات تنسب إلى أماكن إعدادها التي تختلف من مقهى إلى آخر، فبينما يصف أحدهم كوب «الكابتشينو» الإيطالي في أحد مقاهي جدة ب«وقود الطائرات النفاثة»، يصف آخر كوب «الإسبريسو» الداكن ب«أبو السهر»، لتصطف إلى جوار الكثير من المسميات التي تنسب إلى شهرة المحل المنتج لها، وتاريخ أول كوب صنع به، في دلالة على عراقة صنع المشروب. «أخت الوقت» و«صوت المذاق والرائحة» كما وصفها الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، ومحرضة على غزل لدى «نزار قباني» حينما يهم بكتابة الشعر لمحبوبته وهي ترشف كوبها، أثبت أن للقهوة معنى رفيعا في نفوس أمراء الحداثة في الشعر، وأقرانهم من متعاطي الشعر النبطي، إذ لا تخلو قصائد خلف بن هذال الحماسية من وصف القهوة وحمس بنها. القهوة عالم متشعب ومعقد في الآن ذاته، فالتاريخ والجغرافيا يزيدان من تعقيد تفاصيله، فاختلاف ال«حمسة»، وطرق التحضير وبلاد النشأة تشكل مزيجا متنوعا في ملامحه لدى عشاق «المزاج الحلال»، ومدمني القهوة.