معرفة الذات أولى من معرفة الآخر، وبقدر نجاح الإنسان في معرفته لذاته بقدر ما يسهل عليه معرفة الآخرين محليا وإقليميا وعالميا، والمفكر السعودي الدكتور يوسف مكي يؤكد أن الفتوحات العربية الإسلامية أسهمت في تطور وعي العرب لذاتهم كونه انتصر مفهوم العروبة المستند على اللغة والثقافة واندحر مفهوم النسب على أساس العصبية القبلية، فبرز رواد عظام وضعوا لبنات راسخة في تراثنا الخالد من أمثال أبي بكر الرازي وابن سينا وبشار بن برد وبن المقفع وسيبويه والحسن بن هاني والبخاري وكثير غيرهم ممن انحدروا من أصول غير عربية، ويرى مكي أن التفاعل الإنساني بين الشعوب يقوم على تمازج الحضارات مع بعضها البعض بما يحمل من انتشار لغة الحضارة المهيمنة في بقاع جديدة ما يؤثر على البنية المجتمعية السائدة، وقيام أخرى على أنقاضها، مشيرا إلى أن البنيان الاجتماعي العربي تغير حين انتقل العرب من عصبية القبيلة إلى الهوية العربية الإسلامية كون هذا الانتقال أنتج هزيمة متدرجة للقبيلة وتصاعدا لدور اللغة كعامل حاسم في الانتماء إلى الأمة، إضافة إلى نجاح نهج المساواة ورفض التمييز تزامنا مع بداية النهضة العلمية والحضارية بدولة الخلافة، وتوسع رقعتها الجغرافية حيث تحولت المراكز القبلية إلى مجتمعات حضرية ومراكز للثقافة، لافتا إلى أن الاتصال بالآخر أحدث تغيرات جذرية في أساليب وعلاقات الإنتاج ما أبرز فكرة الانتماء للأرض بديلا عن الانتماء للعرق وغدا التعبير عن الذات مرتبطا باللغة العربية واستمرت حركة التعريب متزامنة مع انتشار الدين الإسلامي طيلة تلك الحقبة، مبينا أنه بسبب تلك المقدمات تطورت فكرة الأمة، من أقوام ينتمون إلى لغة وحضارة وأرض، واستعاد مكي مقولات الجاحظ وابن قتيبة وابن خلدون التي يرون فيها أن اللغة العربية وليس العرق أساس الانتساب للعرب وأشاروا إلى العلاقات المشتركة للجماعة كعامل من مكونات الأمة، وإلى القيم والسجايا العربية كعوامل أخرى فاعلة ولا يمكن إنكارها، وألمح إلى أنه مع ما كان للإسلام من أثر مباشر في شيوع العربية وتجذرها، فإن مسيرة التعريب لم تكن متوازية مع امتدادات الدعوة الإسلامية إذ أن هناك من اعتنق الإسلام دينا ولم يقبل بالعروبة انتماء، والعكس صحيح فعلى سبيل المثال، رحب مسيحيو الشام ومصر والعراق بالفتح العربي، وشكلوا قوافل مسلحة من أجل نصرته، ولكن نسبة منهم بقيت متمسكة بديانتها المسيحية، ويصف مسيرة التعريب بالنسبية إذ اقتصرت على بعض المناطق بسبب غياب العنصر العربي والطبيعة الجغرافية والمورثات الثقافية كما حدث في شمال العراق والجزء الجنوبي من وادي النيل، وبعض مناطق أفريقيا العربية، وأرجع مكي عدم انتشار اللغة العربية في إيران إلى كون الوجود العربي فيها اقتصر على المدن في جماعات من المقاتلة والتجار وأهل الحرف ولوجود موروث حضاري عريق في تلك البلاد، ما جعل اللغة والتراث الفارسي غريبين على العربية لأن إيران عادت إلى هويتها الفارسية إثر سقوط دولة الخلافة.