ثارت في الآونة الأخيرة أحاديث وتناثرت دراسات حول تراجع نسبة المسيحيين العرب في الدول العربية حتى انخفضت في بعض دول الشام مثل لبنان، بل إنها هبطت من 20 في المئة، منذ عقود عدة، إلى ما يقرب من 5 في المئة حالياً في فلسطين، إلى جانب هجرة أعداد كبيرة من المسيحيين العراقيين بعد الغزو الأميركي، وهو أمر يحتاج إلى مراجعة وتمحيص ثم علاج وتصحيح لأن المسيحيين العرب يتحدرون في المشرق العربي من أصول عربية مؤكدة، بينما يتحدر المسيحيون في مصر من أصول مجاورة للعرب وملتقية معهم في الأنساب العليا، وحيث إنني قضيت عقوداً طويلة من عمري باحثاً في الشأن العربي المسيحي مع تركيز على الأقباط في مصر فإنني أضع علامات استفهام قوية حول التداعيات والأسباب التي أدت إلى ما وصلنا إليه، مؤكداً أن الحضارة العربية الإسلامية هي شراكة بين المسلمين والمسيحيين واليهود أيضاً، كما أن دور المسيحيين العرب في الحركات القومية دور قيادي ورائد سواء في الوطن الأم أو المهجر، ومن الظلم التعامل مع المسيحيين العرب كأقلية بالمعنى المعروف في مدرسة علم الاجتماع الأميركية، لأن المسيحيين العرب سكان أصليون وأصحاب للأرض منذ قرون، فالعربي هو كل من كانت لغته الأولى هي العربية من دون نظرٍ إلى جنسٍ أو عرقٍ أو لونٍ أو عقيدة، وسأبسط أمام القارئ الظروف التي أدت إلى هجرة المسيحيين العرب بأعداد متزايدة على النحو الذي أسلفناه ونتناول ذلك عبر مراجعة النقاط التالية: أولاً: واهم من يتصوَّر أن بين المسيحيين العرب ومفهوم العروبة حاجزاً نفسياً أو مسافة تاريخية متصوراً أنهم أقرب إلى التغريب منهم إلى التعريب، فهذا تصور خاطئ وتفكير مغلوط، إذ إن الحقيقة تشير إلى غير ذلك تماماً، فالمسيحيون العرب في منطقة «الشام الكبير» على سبيل المثال يتحدرون من أصولٍ عربية سابقة لظهور الإسلام، فهم ينتمون إلى قبائل التخوم على الحدود مع إمبراطوريتي الروم والفرس فهم في الأصل عرب الغساسنة وعرب المناذرة، كما أن دور المسيحيين العرب في الحركة القومية هو دورٌ قائد ورائد، إذ خرجت من صفوفهم شخصيات أكاديمية وسياسية أثرت الفكر القومي وتقدمت مبكراً بأطروحاتٍ واعية تجاه العوامل التي تربط العرب، بل إن عدداً من الكتاب المسيحيين اقتحموا مجال الكتابة عن التاريخ الإسلامي بلا تحرجٍ أو حساسية، ولعل نموذج جرجي زيدان اللبناني الذي أنشأ «دار الهلال» في مصر مثال لما نتحدث عنه، وإذا كان العرب عرفوا اليهودية والمسيحية قبل الإسلام، فإن الدين مهما اختلف لم يكن حائلاً دون انتمائهم القومي الذي يسبق دائماً معتقدهم الروحي. ولو استعرضنا أسماء بعض قادة الحركات القومية في منتصف القرن العشرين لوجدنا أسماء مثل ميشيل عفلق وجورج حبش ونايف حواتمة وغيرهم كثيرون من قيادات العمل القومي ومناصري النضال العربي المشترك. ثانياً: إن مسيحيي مصر الذين يصل عددهم إلى ثمانية ملايين تقريباً ويطلق عليهم تجاوزاً اسم «الأقباط» هم نمط مختلف في الشخصية العربية لأنهم يتحدرون من أصول مصرية خالصة، شأن أشقائهم المسلمين في مصر، وبالتالي فقد ظلت العروبة في مصر سؤالاً مطروحاً عبر القرون واقتصر بعدها التاريخي على العامل الثقافي والديني إلى أن جاء عبد الناصر إلى الحكم في مصر فأعطى للكنانة بُعدها العربي سياسياً وجعلها جزءاً لا يتجزأ من أمتها العربية. وإذ كان الأقباط ينظرون إلى العروبة دائماً بشيء من الحساسية فإن شخصياتِ قبطية بارزة علمانية ودينية كان لها إسهامٌ كبيرٌ في تحديد هوية الأقباط وربطهم بأمتهم العربية منذ أن قبلت الكنيسة المصرية إقامة الشعائر في الكنائس باللغة العربية إيذاناً بالعروبة الخالصة لمصر برغم وجود تياراتٍ تحتية تبشر بالفرعونية وتناوئ الانتماء العربي وتستهجن التضحيات المصرية من أجل القضية الفلسطينية. ولحسن الحظ فإن ذلك التيار ضعيف وغير مؤثر في القرار العربي لمصر، ومع ذلك فإن «الأقباط» يعتبرون أخوال العرب من خلال التبادل التجاري والتعايش المشترك، ولعلنا نتذكر الآن زيارة القطب السياسي الكبير مكرم عبيد باشا مدن «الشام الكبير» في ثلاثينات القرن الماضي وخطبه الشهيرة في يافا وعكا وبيروت ودمشق، كما أننا نتذكر بالتقدير دور بطريرك الإسكندرية والكرازة المرقسية البابا شنودة الثالث الذي يتربع على كرسي مرقس الرسول في مصر على امتداد الأربعين عاماً الماضية، فالرجل عروبي في أفكاره قومي في توجهاته، دفع بالأقباط لكي يكونوا جزءاً لا يتجزأ من نسيج وطنهم وكيان أمتهم، فالأقباط عربٌ لجهة الحضارة والثقافة والتاريخ، فضلاً عن العيش المشترك والامتزاج البشري الطويل. ثالثاً: لقد لعب الصراع العربي - الإسرائيلي والمشكلة الفلسطينية دوراً مهماً في هجرة المسيحيين الفلسطينيين خارج وطنهم المغتصب، وعلى رغم وجود الأماكن المقدسة للمسيحية الأولى على أرض فلسطين فإن العدوان الصهيوني والممارسات الإسرائيلية لم يتركا هامشاً للتفاهم الذي يدعو إلى البقاء. ألم يقتحم الجنود الإسرائيليون كنيسة القيامة؟! ألم يعتقلوا مطراناً في القدس من قبل؟ بل لقد كان من بين شهداء الغارة الإسرائيلية الغاشمة على القيادات الفلسطينية في بيروت أسماء مسيحية لامعة مضت في خط النضال تعادي السياسة الإسرائيلية التوسعية الاستيطانية، لذلك فإن هجرة المسيحيين الفلسطينيين مفهومة إلى حدٍ ما لأنها جزءٌ من هجرة فلسطينية عامة للخلاص من نير الاحتلال وجرائم الدولة العبرية التي لا تتوقف! رابعاً: لقد لعبت الحرب الأهلية اللبنانية دوراً مؤثراً في هجرة المسيحيين اللبنانيين إلى الخارج، فقد خرج عشرات الآلاف من شبابهم يضربون في الأرض خلاصاً من الأوضاع الداخلية المتردية والأمن الغائب وآثار الطائفية البغيضة، وكانت معدلات الهجرة بين الموارنة تحديداً أكثر منها بين الطوائف المسيحية الأخرى، وإذا كان اللبناني مهاجراً بطبيعته فإن الظروف التي عاشها لبنان في العقود الأخيرة أذكت تلك الروح لدى أبنائه فتركوا وطناً يعشقونه وأرضاً يرتبطون بها لكي يتغنوا في كل مكان باسم لبنان، ذلك البلد الرائع الذي يدفع إسرائيل إلى الغيرة الشديدة من نموذجه ويؤدي إلى استهدافها له في كل المناسبات. ولا شك في أن هجرة المسيحيين من لبنان ستؤدي إلى تغيير التركيبة الطائفية التي قام على أساسها ميثاق 1943 واتفاق الطائف بكل ما له وما عليه! خامساً: إن الغزو الأميركي البريطاني للعراق فتح باباً واسعاً لإشعال نيران الطائفية وإحداث شقاق قوي بين طوائف ذلك البلد العربي الكبير، كما أن الجرائم المدبرة ضد دور العبادة المسيحية وأماكن تجمعاتهم خصوصاً في شمال العراق أدت إلى هروب الآلاف من أبناء الطوائف المسيحية القديمة منها، ولقد وقفت سلطة الاحتلال موقفاً سلبياً برغم نداءات الفاتيكان وتعاطف ملايين العرب، مسلمين ومسيحيين، مع أولئك العرب الذين يجبرون على ترك ديارهم في ظل أوضاع أمنية متردية في بلاد الرافدين. وفي ظني أن القوى التي تقف وراء الفوضى في العراق لا تفرق بين مسلمين ومسيحيين، فها هم يدفعون بالكهل المسيحي طارق عزيز إلى حبل المشنقة والفاتيكان يصيح رافضاً على الجانب الآخر ولكن شهوة الانتقام في عاصمة الرشيد لم تتوقف بعد! هذه بعض مظاهر النزوح المسيحي العربي من الوطن الأم إلى أصقاع الدنيا وأرجاء الأرض بعد أن ضاقت بهم أوطانهم واستبد القلق بأجيالهم الجديدة وهم يرون الصراع الديني يكاد يعصف بالأسس القومية ويطيح بجوهر العروبة تحت مسمياتٍ باطلة وأفكارٍ عقيمة يمارس الإرهاب الدولي دوراً فيها مستتراً وراء الأصولية الإسلامية. ويهمني هنا أن أسجل ملاحظة يجب ألا تغيب عن العقل العربي والوجدان القومي مؤداها أن التعددية والتنوع في المجتمعات البشرية المختلفة تدفعهما إلى الأمام، أما المجتمعات الأحادية التكوين فإن نموها وازدهارها يكونان أقل سرعة من تلك المجتمعات القائمة على الديانات المختلفة أو حتى الأعراق المتعددة، فالتنوع قاطرة التقدم والتعددية سمة العصر ووجود المسيحيين العرب وسط أشقائهم المسلمين هو ميزة ونعمة وليس مشكلة أو نقمة. وأنا أقول مرة أخرى إن المسيحيين العرب جزءٌ من بناء الحضارة العربية الإسلامية وعمود تاريخي في الكيان القومي لا نفرط فيه ولا نستغني عنه. * كاتب مصري