العلاقة بين السلطة والمعرفة من أهم الموضوعات التي يشتغل عليها الفلاسفة اليوم. وهذا الموضوع ينطلق من المسلمة السوسيولوجية التالية: كل نشاط اجتماعي (سياسيا كان أو اقتصاديا أو أكاديميا أو .. إلخ) ينطوي على علاقات قوة؛ أي صراع خفي أو جلي بين قوى اجتماعية متباينة. ففي السياسة هناك أحزاب أو تيارات مسيطرة وهناك أخرى خارج دائرة السيطرة ولكنها موجودة في الساحة السياسية، ووجودها ليس هامشيا بل إنها تلعب دور المعارضة. ومن المعروف سوسيولوجيا وسياسيا أن القوى المعارضة تسهم بشكل قوي في التأثير على القوى المهيمنة والعكس صحيح. وفي الجانب الاقتصادي هناك نمط من علاقات الإنتاج المسيطرة على الواقع الاقتصادي فمن يمتلك وسائل الإنتاج من مصانع ومزارع ونحوها هو المهيمن. وفي المستوى العقائدي والفقهي (يمكن تسميته بالمستوى السوسيو-ثقافي) نجد أن هناك مذاهب دينية معينة لها الحظوة في الظهور والانتشار على حساب مذاهب أخرى. وفي كل ما سبق من مستويات فإن المنتصر في الصراع ليس هو الطرف الذي على حق .. بل الطرف الذكي والطرف المحظوظ. ما يهمنا الآن هو الصراع على المستوى الأكاديمي والفكري. هل يوجد صراع اجتماعي في الحقل الأكاديمي والفكري؟ أليس هذا الحقل بخلاف بقية الحقول الاجتماعية هو الوحيد الذي يسعى إلى الحقيقة وإلى الحياد والموضوعية؟ فكيف يكون محلا لصراع القوى؟! في تاريخ الفكر العلمي والفلسفي والأدبي، ساد الظن أن المثقفين أكثر الناس حيادا وعدلا وموضوعية. وأن المعرفة التي ينتجونها أو يهتدون بها خالية من التحيز والنزوع نحو الهيمنة والانتشار. وهذا الظن رومانسي؛ أي مغرق في تفاؤله وسذاجته. وقد بدأ ثلة من النقاد يلتفتون صوب نقد المثقف بدلا من نقد السياسي ونقد الايديولوجي ونقد الخرافي وهلمجرا. فالمثقف الذي كان يمارس النقد صار اليوم عرضة للنقد. وأشهر من بدأ نقدا كهذا هو نيتشه وكيركغارد. هذان رأيا أن تقديس الناس لفلاسفة وعلماء كبار مثل هيجل وماركس وكانط وديكارت أضر بالفلسفة والعلم أيما إضرار. ورأيا أيضا أن "الحق" ليس إلى جانب المثقف.. لأن المثقف ليس محايدا بل هو لاعب أساسي في لعبة الصراع الايديولوجي. لقد أصيب كيركغارد بالضيق الشديد من اعتبار العلم أو الفلسفة (إنتاج العلماء والفلاسفة) هو الطريق الوحيد للحقيقة. وأما نيشته فقد أشار إلى أن وجود الحقيقة من الأساس وهم. فكل شيء هو إنتاج للتأويلات. ولو استخدمنا عبارة أكثر فجاجة لقلنا: كل شيء إنتاج للهوى! وأن الفكرة التي تسيطر على الناس هي الفكرة التي يكون أصحابها أقوى اجتماعيا وسياسيا. ونيتشه بهذا الكلام ينسف مفهوم الحق والباطل.. ويستحضر مفهوم القوي والضعيف في تحليل الصراع الاجتماعي. في العصر الحديث، أو الأكثر حداثة، قام فلاسفة ومفكرون مثل ميشيل فوكو وجاك دريدا وجيل دولوز وبورديو وليوتار وبودريار وإدوارد سعيد ورورتي وأدونيس والغذامي وعلي حرب وكثيرون بالكشف بصورة أكثر عمقا للعلاقة بين المعرفة والسلطة. فظهرت لنا المقولات التالية: نقد العقل، نقد المثقف، نقد الفحولة، نقد النخبة، نقد الأكاديميا، موت المؤلف، نهاية الفلسفة، نقد الواقع، نقد الاستشراق، جدلية الثابت والمتحول،.. وغيرها. السؤال الآن: هل يعني كلامي هنا أن المثقفين كانوا على باطل؟ الجواب لا. المثقف له ميزة تميزه عن رجال السياسة والدين والاقتصاد في أنه نقد نفسه. فإعلان موت المثقف أو سقوط النخبة أتى من المثقف نفسه وليس من «العامي».. إذن، فالمثقف في نقده لخطابه المعرفي يمارس نوعا من التطور والرقي والدمقرطة. وأختم المقال بالقول إني رغم إيماني بضرورة النقد وبضرورة الكشف عن لعبة القوة داخل الخطاب المعرفي، لاأزال مصرا على أن الحق إن وجد فهو إلى جانب ما هو عقلي وعلمي وإنساني.. وليس إلى جانب الخرافي أو المذاهب العرقية والعنصرية.