أو كما تسمى غالبا: ما بعد الحداثة هي حقبة فكرية تأتي كما يدل اسمها على ذلك في فترة زمنية تالية للحداثة. الحداثة مصطلح فلسفي قبل أن يكون أدبيا. وقد تم فهمه عربيا على أنه التجديد في الأدب. بينما هو أشمل من ذلك. الحداثة بعامة نتيجة للتطور العلمي وسيادة الفكر العقلاني والثورة الصناعية والكشوف الجغرافية. هي قطيعة حادة مع التراث القديم الذي يوصف بأنه مرتع للفكر غير العقلاني ولانتشار الخرافة والجهل. التحديث الأدبي هو جزء من هذه الحركة الكبيرة.. يمكن لنا رصد البدايات مع ظهور الأدب الرومانسي الذي قطع مع الأدب الكلاسيكي، فالأدب الكلاسيكي (والذي ظهر كمصطلح للتحقيب الأدبي في أوروبا ثم في العالم العربي) كان نتيجة لعصر النهضة وليس لعصر الحداثة. والنهضة هو العتبة الأولى للحداثة هو المدخل إليها ولكنها ليست حداثة. بعبارة أخرى، عصر النهضة هو الجسر الذي مرت من خلاله أوروبا من عصور الظلام إلى عصور التنوير أو الحداثة. في عصر النهضة تمت استعادة التراث اليوناني والروماني «وهو تراث وثني». وهذا الإحياء كان وسيلة لمقاومة الفكر الديني الكنسي الذي ساد لقرون طويلة. من هنا صار الإغريق تحديدا هم رموز الأدب والفن والفكر وصار «النهضويون» يحاكونهم: من هنا ظهر الأدب الكلاسيكي الجديد الذي ثار عليه الرومانسيون. الحداثة ليست تيارا واحدا، بل اتجاه عام يغلب عليه الطابع العقلاني والعلمي ويسوده مفهوم التطور، وعصر التنوير الفرنسي والألماني يعدان ذروة الحداثة. ويعد «هيجل» النتيجة الفلسفية لها؛ كما أنه بداية النهاية. وفلسفيا أيضا، ظهر كيركغارد وماركس ونيتشه وفرويد وديلتاي وبرجسون وياسبرز كردة فعل عنيفة ضد الهيجلية العقلانية الصارمة. الحداثة استبعدت الرمز الديني ووضعت مكانه رمزا آخر هو العقل و«العلم» من جراء النقد الحاد الذي قام به الفلاسفة السابقون ضد البناء الهيجلي ظهرت بوادر ما بعد الحداثة.. وكان هيدجر والجيل الأول من فرانكفورت (هوركهايمر وأدورنو وماركوزة) وفوكو وبارت ودريدا وكريستفيا ودولوز وبودريارد ورورتي وغيرهم من رواد ما بعد الحداثة في جانبها الفكري والفلسفي والنقدي. كانوا صارمين في تفكيك العقل الحداثي وساهموا في نشر الفكر النسبوي. هناك من وقف ضد تهور ما بعد الحداثة، ولكن لم يكن يطالب بالعودة للحداثة مثل هابرماس ممثل الجيل الثاني لفرانكفورت وريكور وإدوارد سعيد وجون سيرل. نقد هابرماس ما بعد الحداثيين، وخصوصا هوركهايمر وأدورنو لأنهم فهموا العقل الحداثي على أنه فقط عقل أداتي بينما هو أيضا عقل تواصلي. يعني ببساطة: العقل ليس فقط هو تلك الملكة المتهورة التي أنتجت القنبلة الذرية، بل لها جوانب أخرى مهمة كالنقد والتواصل. وقد وصف إدوارد سعيد كلا من ميشيل فوكو وجاك دريدا بأنهما من زمرة من يسميهم بالفلاسفة اللاهوتيين أو الدينيين! وطرح النقد العلماني أو الدنيوي كبديل للنقد النصي اللاهوتي. وعبارة لاهوتي أو ديني عند إدوارد سعيد هنا لها معنى واحد فقط: غير دنيوي؛ لذا طالب إدوارد سعيد بضرورة ربط النص بالواقع، وخصوصا الواقع السياسي.. وأشار إلى أن الخوف من الوقوع في الأدلجة السياسية لا يبرر الانعزال عن الواقع. أخيرا.. ما بعد الحداثة كما يقول علي حرب ردت ما نفته الحداثة.. أي أنها أكثر تسامحا وتواضعا، إذ سمحت للأفكار حتى الخرافية أو الأسطورية بحق الوجود.. وسمحت بالتنوع الثقافي.. لكنها مع ذلك لم تتنازل عن مفهوم الحقوق الإنسانية والعقل بمعناه الواقعي والنقدي.