مقالات الصحف تقبع على مكتبي. والآن، لأن وقت الكتابة عنها قد حان؛ أجدني مندهشا من نفسي إذ أنشغل بأي أمر أستطيعه لأؤجل الكتابة. ماطلت الصباح كله. أخذت القمامة إلى حاوية النفايات. لعبت مع دانيال في ساحة المنزل لساعة تقريبا. قرأت جريدة هذا اليوم بأكملها إلى الأسفل تماما حتى تلك الأسطر من نتائج تدريبات الربيع لمباريات البيسبول. وإلى هذه الساعة، وأنا أكتب الآن عن نفوري من الكتابة، ألفيت نفسي مضطربا بشكل تعجيزي: بعد القليل من المفردات، أقفز من مقعدي، أذرع المكان، أنصت للريح في الخارج وهي تخبط أعمدة المزاريب الفالتة بالمنزل. يمكن لأضأل الأشياء أن يشتتني. ما كان ذاك بسبب جزعي من الحقيقة. لست خائفا حتى من قولها. جدتي قتلت جدي. في 23 يناير 1919، ستون عاما بالضبط قبل وفاة أبي، أمه أطلقت النار على أبيه وقتلته في مطبخ منزلهم في فيرمونت آفينيو كينوشا، ويسكونسون. لم تضايقني الوقائع نفسها أكثر مما كان متوقعا. الأمر الصعب هو رؤيتها في الصحافة - قامت من قبرها، إذا جاز التعبير، في حقل الأسرار وتحولت إلى قضية عامة. ثمة هناك أكثر من عشرين مادة مدونة، أغلبها طويلة، وكلها تعود لأخبار كينوشا المسائية. حتى في هذه الولاية التي بالكاد تقرأ، المحجوبة تماما بسبب الهرم والإيمان بأخطار التصوير، لا تزال لديها القدرة على الصعق. أفترض أنهم مثاليون قياسا للصحافة في ذاك الوقت، لكن هذا لا يجعلهم أقل إثارة. إنهم خليط من الفتانين والمندفعين عاطفيا، وزد على ذلك حقيقة أن المتورطين هم من اليهود - و بالتالي فهو مستغرب، بحكم المعرفة، مما وهب القصة برمتها نغمة اشمئزاز واحتقار. ومع ذلك، لم تخل القصة من العيوب، ويبدو أن الوقائع كلها هنا. لا أظن أنهم أوضحوا كل شيء، ولكن لا شك في أنهم أوضحوا الكثير. لا يمكن لصبي أن يمر في حياته بمثل تلك الظروف دون أن يتأثر بها وهو رجل. في الحواشي حول المقالات، استطعت فقط أن أفك مغاليق بعض القصص الأقل التي تناولتها الصحف في ذلك الحين، أحداث كانت أقرب لأن تكون منفية مقارنة بجريمة القتل. مثلا: استعادة جثة روزا لوكسيمبورغ من قناة لاندوير. ومثلا: مؤتمر السلام في فرساي. وهكذا دواليك، يوما بعد يوم، بين: قضية يوجين ديبس؛ خبر عن فيلم كاروسو الأول (الأحوال.. قيل بأن الحس الدرامي فيه عال وأنه مليء بما يهيج رقة القلوب)؛ تقارير معارك الحرب الأهلية الروسية؛ جنازات كارل ليبنخت وواحد وثلاثون عضوا آخرين من تحالف سبارتاكوس (أكثر من خمسين ألف شخص مشوا في موكب كان طوله خمسة أميال. عشرون بالماءة تماما من هذا الحشد يحملون أكاليل الزهور. لم يكن هناك صياح ولا هتافات). تم التصديق على قرار وطني لحظر الكحول (ويليام جينينغز براين -الرجل الذي جعل من عصير العنب مشهورا- كان هناك بابتسامة عريضة)؛ إضراب عمال النسيج في لورانس، ماساشوستس، بقيادة اتحاد عمال المصانع في العالم؛ اغتيال إيمليانو زاباتا، «ثائر خارج على القانون في جنوبالمكسيك"؛ وينستون تشرشل؛ بيلا كون؛ بريمير لينين (خطأ غير مقصود)؛ وودرو ويلسون؛ ديمبسي يلاكم ويلارد. قرأت من خلال المقالات عن الجريمة عشرات المرات. مع ذلك، أجد صعوبة في تصديق أنها لم تطرق مناماتي. تترصدني بكل قوة خادعة في اللاوعي، محرفة الواقع كما تفعل الأحلام. وبسبب أن العناوين العريضة للجريمة قد غشت على كل ما عداها من أمور حدثت للعالم في ذاك اليوم، فقد أولتها الصحف اهتماما ذاتيا يشبه ما نوليه من اهتمام للأمور التي تجري في حيواتنا الخاصة. إنها تبدو إلى حد ما كاللوحات التي يرسمها الطفل حين يعكره خوف يتعذر تفسيره: الشيء الأهم هو الشيء الأكبر. تسقط الاحتمالات في سبيل اتساق القصة - تلك التي لا تمليها العين، بل حاجات المخيلة. لم أطالع هذه المقالات كتاريخ فقط، ولكن كرسومات كهفية تم اكتشافها في الجدران الداخلية لجمجمتي نفسها. عناوين الصحف في اليوم الأول، يناير 24، تغطي أكثر من ثلث الصفحة الأولى. مقتل هاري أوستر زوجته تحتجزها الشرطة أحد أبرز مديري العقارات سابقا أردي قتيلا في مطبخ منزل زوجته في ليل الخميس بعد مشاحنة عائلية حول المصاريف وامرأة. زوجة تقول بأن زوجها قد انتحر. رجل ميت و رصاصة تدمي عنقه وأخرى في وركه الأيسر وزوجته تعترف بأن الطبنجة التي أصيب بها تعود ملكيتها له - طفل في التاسعة من عمره، شاهد على المأساة، وقد يحمل مفتاح اللغز. طبقا للجريدة، السيد أوستر وزوجته قد انفصلا لبعض الوقت سابقا، وأن هناك دعوى طلاق معلقة في دائرة القضاء في كينوشا. لقد مروا بمشاكل حول المال في مناسبات مختلفة. اختصموا أيضا على حقيقة أن السيد أوستر تجمعه صداقة (بشكل غير واضح) بفتاة شابة معروفة لزوجته تحت اسم «فاني». ويعتقد بأن أمر «فاني» قد كشف في المشاجرة بين السيد أوستر وزوجته التي سبقت تماما حادثة إطلاق النار...". ولأن جدتي لم تعترف إلا في اليوم الثامن والعشرين، فقد كان الأمر مبهما بالنسبة لما حدث حقا. جدي (وقد كان في السادسة والثلاثين من عمره) أتى إلى المنزل في الساعة السادسة مساء، ومعه «أطقم من الملابس» لابنيه الأكبرين، «وبالرغم من أن السيدة أوستر صرحت بأنها كانت في غرفة النوم لتضع سام، الابن الأصغر، في مخدعه. سام [أبي] أكد بأنه لم ير أمه تأخذ الطبنجة من تحت الفراش وهو مطوي في لحافه لبقية الليل». يظهر أن جدي قد ذهب بعدها إلى المطبخ ليصلح مفتاحا كهربائيا، وأن أحد أعمامي (ما قبل الأخير) كان يرفع له شمعة ليحسن الرؤية. «صرح الصبي بأن الذعر قد صفقه عند سماعه لإطلاق النار ورؤيته لومضة الطبنجة، ففر من المكان». طبقا لأقوال جدتي، فإن جدي قد أطلق النار على نفسه. اعترفت بأنهما كانا يتخاصمان حول المال، «ثم قال، أكملت حديثها، (ستكون هناك نهاية إما لك أو لي) ثم هددني. لم أعرف بأن الطبنجة كانت بحوزته. لقد أبقيتها تحت فراش سريري وهو يعرف ذلك». بسبب أن جدتي لا تتحدث الإنجليزية إطلاقا على وجه التقريب، أفترض بأن هذا التصريح، وكل التصاريح المنسوبة لها، كانت من اختراع المراسل الصحفي. ومهما يكن ما قالته، لم تصدق الشرطة أيا منه. «أعادت السيدة أوستر قصتها للعديد من مسؤولي الشرطة دون القيام بأي تحريف مقصود لها، وقد زعمت أنها على قدر كبير من التعجب عندما أخبرت بأن الشرطة ستقوم بحجزها. وبقدر كبير من الرقة، قبلت سام الصغير وتمنت له ليلة سعيدة ثم انصرفت لسجن البلدة». «طفلا عائلة أوستر كانا ضيفين لقسم الأمن ليلة البارحة، ناما في غرفة تجمع أفراد الشرطة، وبدا أن الصبيين هذا الصباح قد تعافيا تماما من أي هلع قد عاناه نتيجة للمأساة التي حدثت في منزلهما». وإزاء نهاية المقال، تعطى هذه المعلومة عن جدي. «تعود أصول هاري أوستر إلى النمسا. قدم إلى هذه البلاد قبل عدة سنوات مضت وسكن في شيكاغو، كندا، وكينوشا. هو وزوجته، طبقا للقصة التي روتها الشرطة، عادا لاحقا إلى النمسا، لكنها انضمت إلى زوجها في هذه البلاد تقريبا في الوقت الذي انتقلا فيه إلى كينوشا. اشترى السيد أوستر عددا من المنازل في الحي الآخر، ولبعض الوقت كانت أعماله تمتد إلى نطاق واسع. لقد شيد المبنى الكبير ذا الثلاثة طوابق في ساوث بارك آفينيو، وآخرعرف بشقق أوستر في شارع ساوث إكسشينج. قبل ستة أو ثمانية أشهر، مر بتقلبات مالية....». قبل حين من الوقت، ناشدت السيدة أوستر الشرطة لمساعدتها في مراقبة السيد أوستر لزعمها أن لديه علاقة بفتاة شابة، وقد اعتقدت أنه يجب التحقيق فيها. هكذا عرفت الشرطة لأول مرة عن أمر المرأة فاني. «كثير من الناس شاهدوا السيد أوستر وتجاذبوا معه أطراف الحديث في نهار الخميس، وصرحوا بأنه كان سويا ولم تظهر عليه أية علامة تدل على رغبته في إنهاء حياته...».