(1) لثلاثة عشر يوماً، لم تهدأ سواعدُ الحطّابين حتى أطاحوا بهذه الشجرة؛ تزنُ تسعة أطنان وعمرها بعُمر النبي، أكثر من 1400 سنة من النمو المتواصل في غابات الشمال الأمريكي. أمامي مقطع عرضيٌّ منها، يستطيعُ أحدهم أن يبني عليه غُرفة نومٍ لمساحته الهائلة. لم أفكر حقاّ بالجذع أو الحطّاب.. فكرت بالفأس، مالذي يفكر به عائداً لبيته في الليل؟ يستلقي في سريره،و سريره صندوق خشب؟ ما أحن الطبيعة على مرضاها. (2) بجانب تلك الشجرة العملاقة، شجرة أخرى بقَطعٍ عرضي طوله بطول مسطرة المدارس الصغيرة.. هذه الشجرة الضئيلة عمرها يفوق ال 1600 عام. يقول كتاب الحضارات أن البشر تعلموا إشعال النار والشوي من الصواعق التي كانت تضرب الغابات فتشعل فيها النيران لفصولٍ بأكملها. صحيح أن العمرَ شأن القلب. الصحيح أيضا أن النجاة شأن العزلة. (3) الصناديق حكماء البيوت. (4) ترمز الفراشة في الفلسفة إلى شهوة الانتقال من القبح إلى الجمال، من دودة اليرقة إلى أجنحة اللون و زُخرف النسيج الرقيق، خيال السيلوفان. تبدو هذه الفراشات المحنطة خلف لوح زجاجي ابتساماتٌ عائمة، لو أنصت جيداً ستقنص أذنيك همساً قديماً، كلما مر على اللوحة عشاق تفوح منهم رائحة الوسائد المجنونة، اتسعت اللوحة و فرد الفراش أجنحته. (5) لوحة الفراشات؛ خشبة الألوان التي يمسكها الرسام بيد واحدة، لكل لون فيها نبع يتقاطر السائل من حوافه، والحنين مياهه الجوفية. (6) حجرٌ أقدَمُ من الشّمس.. حجرٌ لكوكبٍ مات؛ عندما شاخَت حنجرته ولم يستطع أن يحيك نغمته في السيمفونيّة التي تطلقها حركةُ الكواكب من حوله، انتحرَ من الوِحدة والسكون، تناثَر، لكن حجراً غريباً واحداً قرّر البحث عن بيتٍ جديد له، فارتمى على أرضنا، وأخبرنا الحكاية. من أجمل القاعات التي دخلتها في نيويورك على الإطلاق، قاعة الأحجار والمعادن التي لا تنتمي للأرض ولا تتكوّن فيها. أوّلُ عنصرٍ مكوّنٍ للأرض وهو ليس ابنها هو الحديد. الحديد المشكّل لِلُبها وخالق سكّة الجاذبية التي تسير الأرض عليها، الحديد رافع أعمدة البيوت والدّال على مياه الأرض والضّارب للطاقة في العربات، حَديدُ السيوف والأسلحة ومقابض الأبواب والمفاتيح.. كيف يستطيعُ غريبٌ أن يتساكَنَ هكذا مع مكانٍ ما؟ هو يعرفُ أنه لا يزالُ غريباً، يعرفُ إننا لا نتوسّده للنوم، لا نناديه في المسرّات، صحون البقلاوة وكؤوس العصير، صار ثقيلاً على الكاهل ويُبطئُ الحركة.. وإذ سَمِعَ تأفّفنا منه منذ زمنٍ قريبٍ فقط، ابتكر مرض الصدأ، قرار انتحاره المتأخّر، تذكّر أمّه التي رأت، و عرفت، وتجرّأت قبله على الفتك بالأرض، لولا أنه خانها و عمّرها. (7) أمامي كُتلة حديدٍ طبيعية وغير مطروقة، أكبرُ كتلة حديدٍ معروضةٍ للعامة في العالم، وبالتالي أثقلها.. أنا في الطابق الرابع، وهي مرفوعة بستة أعمدة من الحديد أيضاً تخترق الأربعة طوابق نزولاً لتقف على الصخرة الحاملة لتُراب مانهاتن و مبانيها. هَيبَةُ الغريب المثقل بالهموم والوحدة. (8) في القاعة المجاورة أحجارُ الأرض.. هذه فراشاتُ الجيولوجيا.. الشّعشعة والرقرقة والنور والضوء والدّكنةُ والصباح.. الأشكالُ المتطاولة والمكوّرة والمقوّسة والمقعّرة والمثلثّة والمعيّنة والمكعّبة والمتراكبة والمتجاورة والسائلة والمتمازجة والداخلة والخارجة والماثلة والذاهبة والزاحفة والساكنة.. وفي غرفة مظلمة في أقصى القاعة، وُضعت أحجارُ الفسفور واليورانيوم، مُذهلٌ توهّجُ الضوء المنبعث منها، كأنّ لها قلباً، كأنها بعد قليلٍ ستفتحُ عينيها وتُجيلُ بأحداقها عليك، ثم تغمض من جديد. (9) يُعتبر الحوت الميّت هدية الله لسكان الشواطئ.. إذ يعيشون على أكل لحمه لشهورٍ عديدة.. هذه الهدايا كانت متواترة لزمنٍ طويلٍ لسُكّان نيوزيلندا وماليزيا الذين حاكوا ما يُشبه الدّين القائم على الحيتان وأساطيرها في ثقافتهم. ينصبون على مخازن الطعام وخيمة الزعيم خشبةً على رقم سبعة، يحفرون عليها بعض الرموز والكلام، إذ يؤمنون أن ذَيلَ الحوت بشارةٌ بالحياة.. يصنعون من أسنانه القلائد والأساور والأمشاط، و يقضي الرّجُل حياته في جمع أسنانها ليُثبت شجاعته. شعوب الشواطئ تلك لديها رَقَصَات استعراضية خاصة يؤدّونها أمام البحر، يرقصون للبحر كأنه شيخٌ جالسٌ على كُرسيّه ويرمُقُ نحوهم بكُلّ زُرقته وعمقه و الغمامُ بياضُ لحيته.. رقصاتٌ ينادون بها الحيتان ويستلهمون منها قوّتهم. الحوتُ كأئنٌ خجول وغيرُ مؤذٍ، ولأنه جبانٌ حقّاً فإنه إذا ظهر على سطح الماء وأحسّ بشيءٍ غيرها يدورُ حوله، فإنه يعودُ للغطس ثانية بأن يُغرق رأسه أولاً ثُمّ يُقوّسُ جسده ليدخُل في الماء كأنّه يُودّعُ العالم، وفي هذه اللحظة تماماً، يبدأُ الصيّادون بطعنه بالرّماح والفؤوس، يجُرّونه إلى الأعلى ويفقؤون عينيه، يُعيقون محاولته للهرب -شهوة العُزلة التي في قلبه- حتى يصيرَ المُحيطُ كُلّه نبيذاً من دَمه القاني. رواية موبي-دِك تُفصّلُ التوحُّش الإنجليزي في صَيد الحيتان والتجارة بها حتى كادت أن تنقرض من المحيط، إذ يكمنون لها في مواسم هجرتها كقُطّاع طُرُق. في قاعة الحيتان، تتدلّى من السّقف هياكل عظمية كثيرة لحيتان مختلفة الأحجام، إذ للحوت أكثر من خمسينَ نوعاً ويُعتبرُ لوحده فَصيلة، هُناك حيتانٌ بحجم اليَد، وحيتانٌ بحجم المنزل. أضواءُ القاعة الزرقاء بتلك الهياكل المُعلّقة تُشعرُك بأنك تتمشىٍ في قاع المُحيط، الكائناتُ البحريّة تطفو حولك وزُرقةٌ بلمعة الجواهر تنسابُ في كُلّ مكان. رُكّب في القاعة هيكلٌ عظميٌّ لحوتٍ أزرق، ضخامةٌ مهيبة، هُنا انعزل يونس، هُنا سَكَنَ وارتحلَ وآب.. هُنا داوى جراحه بيده، كأن الحوت جبلُ النّور، كأن فمه غارُ حراء.. تذكّرتُ رحلتي كلها لمكّة، كيف صعدتُ الجبل صخرةً صخرة حتى دخلتُ الغار لأسمعَ صدى (اقرأ)؛ الحِجارةُ حول الغار محنيّةٌ عليه كأنها أصابعُ اليَد، غارٌ لطيفٌ يُرى منه الكونُ كُلّه، كأنه غمّازةٌ في وجنة الأبد. كُلُّ فَقرةٍ من فقرات عمود الحوت الفقري بحجم كُرسي.. ووُضعت لُعبةٌ على شكل قلبه يدخُلُ فيها الأطفالُ ويخرجون، يستطيعُ ثلاثة أطفالٍ أن يجلسون داخل قلبه في وقتٍ واحد. يصطادُ الحوتُ بالذّبذبات، يُحدد جهة الأسماك القادمة ويفغرُ فمه في وجهها.. بالذبذبات أيضاً يرسُمُ خارطةً لقاع المُحيط. وهو مُغنِّ بارع! كَريمةٌ عُزلتهُ إلى هذا الحَد.. في المعرض جهازٌ تستطيعُ من خلاله سماع بعض أغاني الحيتان، أغانٍ تختلف عن بعضها وتتطوّر في كل موسم هجرة بأناقة وتتابع تُمكنُ ملاحظته.. كأن أجيال الحيتان تستطيعُ أن تنقُد موسيقاها وتهذّبها، تترُكُ النغمات القديمة وتبتكُر غيرها. يُعتقدُ أن الجد الأقدم للحيتان هو حيوان برّي يُشبه الذّئب لكن برأس كبير مثل رأس الأسد بلا تاج الشّعر، ينتمي فصيلة الجمال والظباء والخنازير. تطّور جهازه التنفسي تدريجياً عبر محاولاته المتكررة للسباحة والصيد في الماء.. حوّلته الطبيعةُ من دُبٍّ يصطادُ السَمَك واقفاً، إلى تمساحٍ قادرٍ على البرّ والبحر، إلى الأعماق والاختباء فيها.