(1) موما: متحف الفن الحديث. تبدو نيويورك ملفا مضغوطا للعالم. وقفت قليلا لأتنفس هناك، ليتسع صدري لطيور الدهشة ورياح الغرابة.. ما الذي فعلته لهذه المدينة لتدهمني هكذا دهم شاحنة مسرعة؟ لماذا علي كل مرة أن أتراجع عما أراه، أضحك، أدير رأسي، أنظر للناس، ولا أجد من هو مشلول سواي.. ما هذا الفقر الذي كنت فيه ولم أشعر بسفيف رماله إلا هنا؟. لو جاز الوصف بأنني في هذا المتحف كنت وسط راحة كف، فقد كانت حولي خمسة أصابع كالدهاليز أردت أن أدخلها كلها دفعة واحدة وفي نفس اللحظة: قاعة لوحات بيكاسو، قاعة لوحات سلفادور دالي، قاعة لوحات فريدا كاهلو، قاعة لوحات رينيه ماغريت و قاعة لوحات فان غوخ. كان لبيكاسو معرض في أبو ظبي (قصر الإمارات).. كانت لوحاته الباب الذي دخلت منه لأقرأ عن التشكيل وأتذوقه بطريقة ما، لذا لم تكن لوحاته التي رأيتها هنا بغريبة علي، ربما لو أن لوحة الجرنيكا معلقة هنا لحدث أمر آخر، لكنها ليست كذلك. ما تقاتلت نبضات قلبي على رؤيتها هي لوحة الساعات الذائبة لسلفادور دالي؛ الزمن المائع الأبدي، البحر المرسوم كحافة طاولة، صارم ولا يتموج.. النمل الذي يأكل الساعات الذائبة على أغصان خريفية، مشهد قاحل، قاحل لدرجة مخيفة.. ليس سوى كابوس رآه دالي، فأطلق يد الحلم التي يرسم بها، يده الثالثة الخفية التي لا تعرف كيف تضع قبعته على رأسه أو تقطع له الخبز، عاطلة عن كل شيء إلا الرسم. يد الحلم جعلت دالي يحب أن يلغم لوحاته بأشياء صغيرة، صغيرة جدا، إذا لم تحدق في اللوحة جيدا، وتقترب، وتميل برأسك، وتكتم نفسك، فلن تراها، ستهرب منك بسرعة، بشر دقيقو الهيئة يتراكضون على اللوحة ويختبئون خلف أشيائها. عبرت بجانب لوحات فان غوخ الواسعة.. المروج تخرج عشبها على جانبي إطار اللوحة، ومداخن البيوت تتنفس وتنفث سوادها فوقها.. ستلاحظ أن زوار القاعة يكحون دون أن ينتبهوا.. على أكتافهم حبات مطر، وربما قرصتهم بعض الحشرات.. نحن اللوحة حقا عند فان غوخ، أما لوحاته فهي التي تتنفس عنده وتحيا. هذا ما أحسست به عابرا على لوحات المروج و متجها للوحة الأحذية.. من يخطر على باله أن يرسم أحذية الفقراء؟. فريدا كاهلو، المكسيكية كثة الحواجب، نظرتها الغامضة في البورتريه الذي أمامي أخافتني قليلا. أجمل ما في فريدا هو ريفيتها؛ أثوابها الفضفاضة التي تجبرك على النظر إلى لا شيء غير وجهها الأسمر.. أحاطت لوحة البورتريه بإطار من مرايا رسمت عليها بعض الزهور والأشكال الرائقة. قرعت باب فريدا، أدخلتني منزلها وقدمت لي كوب شاي لا تزال رطوبة دفئه على راحتي. هل تميز اللوحة لو قلت لك إنها لرجل وامرأة يقبلان بعضهما ورأس كل واحد منهما مغطى بقماشة بيضاء؟ هل تعرف اللوحة التي يبدو فيها رجال يلبسون بدلات رسمية وقبعات سوداء وينزلون من السماء وقوفا كأنها تمطرهم فوق البيوت؟ و ماذا عن لوحة العين التي لا يوجد فيها بياض للعين، بل سماء زرقاء بغيوم ناعمة حول الحدقة؟ حسنا.. إنه البلجيكي رينيه ماغريت، الملعون الذي لم أنتبه للساعة في قاعته حتى خلعني الحارس بقوله: بقي دقيقة واحدة لأقفل الباب.. لم يكن أحد حولي، وبدأت الأنوار بالخفوت وبدأ الصمت يتسلل للمكان، و أنا أمام لوحته الأخيرة، رجل ينظر لمرآة، والمرآة لا تريه وجهه، بل قفاه!!. @MuseumOfModernArt (2) زرت متحف المتروبوليتان -أرقى متحف لفنون وآثار الحضارات في العالم - أكثر من ست مرات.. وفي كل مرة تأخذني الدهشة وتفغر فمي جيدا حتى أطقطق عظام فكي حين يغلق أبوابه. عبرت من بوابة بابل، تلك المسماة بمدخل عشتار الأزرق.. وقفت في معبد فرعوني كان هدية من الحكومة المصرية للمتحف بعد عملية إنقاذ الآثار الفرعونية من فيضان النهر في وقت ما من القرن العشرين.. وكنت حي ابن يقظان في قاعة الحضارات الإفريقية بقواربها الطويلة وأقنعتها الضخمة وأعمدتها المزخرفة التي يقف عليها الرجل لأيام طويلة دون نوم ليثبت رجولته.. أما مريم العذراء، فكانت تماثيلها حاملة طفلها في كل زاوية من قاعة الحضارة الأوروبية، تشعر بالدفء والحنين لشيء غامض، كأن سر الأمومة ينبع من مكان وقوفك، ولم تأخذني معروضات الحضارة المسيحية كثيرا، إذ زرت لبنان وسوريا مرات عديدة و ذهبت لكنائس لا تحصى، ليس أولها تلك الكنيسة التي بجانب جبل متصدع، يقال إن قسيسة هربت يوما ما ولم يكن أمامها سوى ذاك الجبل، فشقه الرب لها وعبرت من جوفه.. وليس آخرها محابس المنعزلين؛ يستطيع العابد في المسيحية أن يكمل نهجه إذا أحب في خدمة الكنيسة والناس، أو أن ينعزل في محبس بعيد على رأس جبل، يأكل من خشاش الأرض التي يزرعها، ينام على خشبة، ويتوحد مع الكتاب المقدس حتى يموت.. وبعد أن يموت، تبدأ حياته الحقيقية بتحقيق أماني الناس الذين يستنجدون به، يطببهم ويحنو عليهم. (3) من ألعاب البلاي - ستيشن المعدودة التي لعبتها في حياتي، لعبةGod of War. المعركة الأخيرة في نهاية اللعبة هي بين روحك المحلولة في شخصية البطل كريتوس وزوس، كبير الآلهة والبشر في الميثولوجيا الإغريقية. بالصعوبة التي لم أستطع منها هزم زوس في اللعبة، وبهيبة التاريخ في هذا الرمز، بكل ما قرأته لفراس السواح، كان تمثال رأس زوس بقرنين ونظرة عائمة أول ما استقبلني به متحف المتروبوليتان.. جمدت لدقائق وأنا أغرق عيني في عينيه، هذا الذي عمره آلاف السنين، مسني خاطر ما لم أستبنه جيدا.. كنت وأنا أتحرك في قاعة الفنون الإغريقية والرومانية، ألتفت ناحية زوس.. أتمشى وأحدق في تماثيل رموز التراب والنار والهواء والماء، في عشتار، في رؤوس الفلاسفة (سقراط مثلا) لكنني ألتفت فجأة وأنظر إلى زوس.. آلمني أنه لم ينظر إلي، لم يتميزني رغم الأسابيع التي قضيتها في مصارعته.. كان أهلا لأن أتذكره، خصم عنيد وشريف، ولم أكن أهلا في نظره حتى لالتفاتة. (4) من ضمن قاعات المتحف، قاعة الحضارة الإسلامية؛ كيف تفاعلت الثقافات الفارسية والهندية والعربية مع الإسلام منتجة ما لا يحصى من الفنون الخشبية والحجرية والورقية في النحت والرسم والخط.. أمامي الآن بدلة محارب مسلم، بدلة حرب حديدية، لا أعرف كيف يمكن قتل من يلبس هذا كله؛ السلاسل وقطع الحديد بأحجام مختلفة تغطي الظهر والصدر والكتفين والساعدين والأرجل والأقدام.. القلنسوة والرمح والسيف والفأس، كلها، نحتت عليها آيات من القرآن.. يسير المحارب مخفورا بالسور. مما أحببته أيضا مروحة اليد، وفي كل قطعة منها رسم لأشجار وآيات طافية على الماء.. الماء الذي قد يطفو هو نفسه في طاسة الكهانة بجانب المروحة، طاسة كانت تحفر فيها التعاويذ ويشرب المريض بها الماء، هي نفسها التي شربت بها ماء من نهر في جنوبلبنان والآيات محفورة بداخلها،كان ذلك بعد أن زرت سجن الخيام المرعب المطل على أراضي فلسطين الخضراء و أعلام إسرائيل المغروسة على رؤوس الجبال، يقود السياح فيه سجين سابق فيه، يريهم آليات التعذيب بعينين مغرورقتين وأياد راجفة، وليس سوى الطاسة، تحول آياتها الماء إلى مرهم يلف قلبه الواجف، كالقميص. (5) ما فعله الفرس والأتراك وأهل الأندلس هو أنهم أخذوا الإسلام وحقنوا به ثقافتهم، فأنتجوا فنونا في الزخرف والبناء والنحت والتطريز والأدب والمسرح والغناء ميزت الحضارة الإسلامية بشكل إنساني وأبدي. الطريقة الفارسية في رسم اللوحات وتطعيمها بالعاج والأحجار والألوان اللامعة وشرائح الذهب والفضة، مبتكرة وأخاذة، تسلب العين من بعيد بلمعتها. اللوحة التي أمامي عمرها أكثر من 500 عام، رسمت فيها السماء ذهبية بغيمة وحيدة بيضاء. بحيرة تشبه الحلم سائلة ورائقة بلون يتدرج من الرمادي إلى الأزرق الفاتح. شجرة مرسومة على طرفها وحجمها نصف البحيرة تقريبا في اللوحة.. بيوت الضفادع تطفو على الماء، والورد والعشب يحيطان البحيرة التي يبدو لي أنها في وسط تلة. في اللوحة ثلاثة رجال وناقة تحمل نعشا، وجوه الرجال الثلاثة بلا ملامح، على رؤوسهم عمامات بيضاء تحيطها نار. يلبس الرجل الأول قميصا أحمر تحت ثوب بني فاتح. بجانبه رجل بقميص أخضر عليه ثوب برتقالي وبردة زرقاء. الرجل الثالث في الطرف الآخر من البحيرة، يسير على الماء ويقود الناقة ويرنو نحو الرجلين، ويلبس مثل لباس الرجل الثاني. سرج الناقة يطابق تماما لباس الرجلين الثاني والثالث. (6) بجانبها لوحة أخرى لا تقل عنها غرابة و افتراسا للخيال. تعود الحكاية التي رسمت على أساسها اللوحة للفردوسي في الشهنامة، إذ كتب في مقدمته إطلاق سبعين سفينة في بحر لجي؛ تلك السفن تمثل أديان البشر كلها. تتوسط السفن تلك سفينة النبي محمد. سفينة تحمل بحارة بوجوه سمراء و بيضاء، يفردون شراعا برتقالي اللون، و رسم رأس السفينة على شكل عنق طويل لبجعة. الزخارف على عنق البجعة كأنها نجوم تنبض بالأزرق والأبيض والأصفر، وهذا الأسلوب - كما يقول المتحف- يعود للفنان ميرزا علي، الطالب النجيب للفنان المعروف سلطان محمد. السفينة محاطة بقوارب مزخرفة بحب ودقة، قوارب الموالين للرجال الجالسين وسط السفينة تحت مظلة حمراء ترتفع منها مئذنة قصيرة من قماش.. ووجوههم بلا ملامح أيضا هنا، وأيضا تحيطها النار.. تسمى هذه السفينة بسفينة النجاة. (7) بحذر شديد اقترب من هذه المعروضات.. كان غيفارا يحمل إحداها في جيبه، كان غيفارا يستلقي تحت شجرة ويكتب تحت ضوء الحطب رؤاه وخططه، وكان يضع في جيبه واحدة من هذه.. هكذا كان يطمئن عندما تنتاب المخلوق فيه نوبات تذكر تمقع لونه، نوبات تعيد دمه للبئر الذي خرج منها، تسحبه بمغناطيس العدم فيشحب الوجه ويخضر الجسد.. لا تتقن العروق حينها سوى الحزن، ولا يسبح اللسان إلا بفضل الكآبة. ولا أعرف حقا كيف واتتهم الفكرة، هؤلاء المجانين في متحف المتروبوليتان، أن يجمعوا المحافظ الرقيقة المطرزة لصور الحبيبات التي كان يحملها الجنود القدامى معهم إلى المعارك. لا تزال المناديل التي تلف بها تلك المحافظ تؤرشف الدمع الذي لم ينس ولم يجف، ويبعث برائحة الرقبة وآخر قبلة كصفارات نداء بعيد. الغريب حقا أن أعين الحبيبات في صور المحافظ تستطلع ما حولها، تنظر يمنة ويسره، لم يكبرن، لم يعبرن في شارع الزمن، بقين هناك، في انتظار البطل المخضب بالتعب، فهن يعرفن الحقيقة.. يعرفن: ليس البطل أحدا سوى الذي يعود -بعد نهار طويل- إلى البيت. @Met (8) من الرعشات التي لا تختفي من جسدي أبدا، رعشة الاستماع إلى القرآن؛ شعرت بها لأول مرة من صوت عبدالباسط عبدالصمد، كأنني أقف تحت شلال لا رأس له، وتجددت تلك الرعشة بصوت سعد الغامدي. أحب سور الزمن؛ أحب الفجر والضحى والشمس، أحب هذا القسم الناعم.. وعندما سمعت سعد يقرأ سورة الفجر، تناثر الفرح حولي، انتشل رعشة كادت تختفي لكثرة ميتي الأرواح والأصوات الذين يقرأون القرآن للأجر والبركة فقط، لا للفرح وخدر الرأس اللذيذ وخلايا الجسد النافرة. قراءة سعد للفجر جعلتني أسافر إلى سلطنة عمان لأزور ما تظنه اليونيسكو قرية إرم ذات العماد. رحت منطقة ظفار، منطقة النضال والشرف، ونزلت في صلالة، سكنت في منتجع لا يشبهه شيء سوى شواطئ ونخيل هاواي.. هبة المحيط والخليج على حد سواء. سائقو التاكسي في صلالة يشبهون سائقي التكاسي في بيروت، يعرفون الجبال والوديان والشوارع كلها، يحفظون الجهات شبرا شبرا، كأنهم ولدوا في كل مكان. أخذوني إلى إرم؛ منطقة صخرية لا يزال الناس يعيشون في قريتها، بعيدة جدا، لابد من طوي الصحراء للوصول إليها.. آثار إرم القديمة في طرف القرية؛ بيت مكعب، غرفه الداخلية محاطة بسيج حجري يشبه عصابة الرأس. يقع تحت البيت تماما مغارة واسعة ومفتوحة على الهواء، تدخل إليها بالسير قليلا أمام البيت والنزول بخفة على جرف حجري يأخذك هناك. حول البيت آثار حجارة وبقايا أعمدة أيضا. قرأت الآيات هناك، لم ترتفع الأعمدة، لم يجر نهر ولم تقم عظام الأموات من المقابر، لم يحدث شيء.. قلت ربما أخطأت المكان.. عدت للمنتجع، وقلت أتوجه غدا لصحراء الرمال الحمراء حمرة الشفاه، هناك، على كثبان حدود اليمن.