في الوقت الذي لا يزال فيه بعضهم يناقش محدودية عقل المرأة، قد تبدو مناقشة قدرتها على الإبداع أمرا أقل ألما، ربما لأن المرأة ستشعر وكأنها قد كسبت بالفعل معركة إثبات «كمال» عقلها لتلتقط أنفاسها استعدادا لخوض معركة أخرى ضد الفكرة السائدة عن ذكورية الإبداع إلى الحد الذي يجعل بعضهم يتعامل مع نتاجها الإبداعي كيفما كان على أساس أنه «أقل» بصفته نتاجا أنثويا. ومع تباين حدة هذه النظرة، إلا أن المرأة المبدعة تعامل غالبا ك«حالة» شاذة مخالفة للطبيعة الأنثوية كما تصورها الثقافة التقليدية السائدة. فالمبدع يمتاز بالاستقلالية والجرأة وحب المغامرة والأصالة، لكن هذه الصفات غير مقبولة اجتماعيا للأنثى، إذ يطالب المجتمع الأنثى بتمثيل الدور السلبي الذي ينزع إلى المجاراة والارتباط والانقياد ورعاية الآخرين وعدم كسر النمط، وهي أمور تضيق المساحة اللازمة للتحليق في عالم الإبداع. فالاهتمام بما يعده المجتمع ذكوريا سيتم اعتباره نقصا في أنوثة المرأة أو تعديا على «الصلاحيات» التي يمنحها لها المجتمع، وقد يصل الاستنكار إلى مستوى التجريم والاتهام بارتكاب المحظور. ولكن ما صحة الفكرة القائلة بأن هناك علاقة بين الجنس ومستويات الإبداع؟ هل هويتنا الجنسية تحدد قدراتنا الإبداعية؟ ما الذي يفسر قلة ظهور إنتاج المرأة الإبداعي مقارنة بإنتاج الرجل الإبداعي؟ هل قدرات المرأة الذهنية لا تؤهلها لبلوغ مستويات عليا من النبوغ والإبداع؟ أم أن هناك أسبابا أخرى لعدم بروز النساء إبداعيا؟. الإبداع: قوة الطفولة يختلف الإبداع في مدلوله عن الذكاء (مع أن بعضهم إلى عهد قريب كان يستخدم اللفظين للتعبير عن نفس المعنى)، كما أن الدراسات التجريبية الحديثة والقياس العقلي أكدا أن الذكاء هو بالفعل شرط ضروري للإبداع، لكنه ليس الشرط الوحيد، فهناك قدرات إبداعية مستقلة عن القدرات العقلية المتعلقة بالذكاء، ومن هذه القدرات: الأصالة، أي حب التجديد والإعراض عن المألوف. ومنها أيضا المرونة، والتي تعني قدرة الفرد على النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة. وكذلك القدرة على اكتشاف العلاقات، أي الربط بين الحقائق ودمجها لتؤلف وحدات جديدة، وقدرة الطلاقة، أي خصوبة الأفكار الإبداعية. كما أن الإبداع لا يرتبط بمجال واحد فقط، ولكنه يشير إلى التميز والتفرد في أي مجال من المجالات: كالفن، والأدب، واللغويات، والعلوم، والقانون، والسياسة، والرياضة، وغيرها. فكل إنسان متميز متفرد في مجاله هو فرد مبدع. ولقد أجرى كثير من العلماء والباحثين المهتمين بدراسة السلوك الإنساني عددا من التجارب، وقاموا بإجراء أبحاث مختلفة على مدى عدة سنوات ليصلوا بعد ذلك إلى فهم أعمق للإبداع، وكانت آراؤهم التي هي نتاج ذلك البحث التراكمي المنظم تشير إلى أن الذكاء هو القدرة على التفكير والتكيف العقلي مع البيئة، أما الإبداع فهو القدرة على التفكير بتميز وتفرد. فالإنسان الذكي بناء على النتيجة السابقة هو الإنسان «العادي» الذي لا تقل قدراته العقلية (ذكاؤه) عن المستوى الطبيعي، وإذن فكل الذين لا يعانون ضعفا عقليا هم أذكياء، لكن ليسوا كلهم مبدعين. ومع ذلك، فإن تلك الدراسات أكدت أن أغلبية الأفراد الأذكياء كانوا مبدعين في طفولتهم، لكن العوائق المتواصلة خلال مراحل الحياة المتتالية تقتل الإبداع تدريجيا لدى كثيرين منا، بينما يستطيع عدد من الناس أن يحافظوا على قدراتهم الإبداعية على مر السنوات بسبب توافر العوامل التي ساعدتهم على ذلك. فلو أردنا أن نأخذ الإبداع البصري التشكيلي كمثال، سنجد أن معظم الأطفال تقريبا «إناثا وذكورا» يمارسون الرسم بطرائق متشابهة، أي أن رسوم الأطفال ذات سمات إنسانية عامة، إذ تتميز بخصائص كثيرا ما تلاحظ في رسوم جميع الأطفال الإناث والذكور بشكل عام وعلى حد سواء مهما اختلفت بيئاتهم ولغاتهم وأعراقهم، فالدراسات العالمية التي أجريت على آلاف من رسوم الأطفال حول العالم وضحت أن الأطفال لهم طرائقهم الخاصة في الرسم، وهي طرائق يلجأون إليها عامة بفطرتهم من دون تلقين مسبق من أحد. الإبداع إذن هو قوة تسود لدى جميع الأطفال تقريبا «إناثا وذكورا»، أما بين الراشدين فهي نادرة، ولهذا فإن علينا أن نتساءل: ما الذي يعوق هذه القوة الإنسانية العظيمة؟. الهوية.. الشخصية.. والإبداع تظهر اختبارات سمات الشخصية فروقا بين الجنسين عند تطبيق هذه الاختبارات على عينات من الراشدين من النساء والرجال، ولكن المثير حقا هو أن هذه الاختبارات عند تطبيقها على عينات من الجنسين تحت سن الرابعة عشرة أثبتت نتائجها عدم وجود أية فروق بين الجنسين في سمات الشخصية والاستعدادات والميول والاتجاهات العصابية. أي أن الفروق التي ظهرت في اختبارات الراشدين ليست عائدة للجنس نفسه، ولكنها ترجع إلى الضغوط الواقعة على الجنسين من التربية والمحيط الاجتماعي والثقافة السائدة، أي من الأيديولوجيات التي تتحكم في حياة الأفراد ضمن المجتمع. وتؤكد الدراسات المتعلقة باختبارات الذكاء والنبوغ أنه لا يوجد فارق يذكر بين متوسط ذكاء النساء والرجال في الذكاء العام، وأن الاعتقاد بتفوق الذكور إبداعيا خاصة في مجال العلوم البحتة والتطبيقية والتقنية سببه التنشئة والنظرة الاجتماعية لدور كل من الجنسين. إذ لا يعترف المجتمع بقدرات المرأة ولا يتقبل تميزها ويشكك فيما تنجزه من أعمال إبداعية. فالأسرة تقوم بتربية وتنشئة وتعليم الولد على أساس أنه «يستطيع» أن يفعل كل شيء لأنه له كمال الحرية وكمال العقل، أي أنها ترسخ هذا المفهوم في عقل الولد، وتقوم بتنشئته ليكون عالما أو مخترعا أو مهندسا أو طبيبا أو قياديا بارزا، بينما لا تربي البنت على هذا الأساس أبدا، بل على العكس، تتم تنشئتها على أنها «لا» تستطيع أن تنخرط في المجالات السابقة، وأنها إن استطاعت فستكون مجرد عدد إضافي لا فردا متميزا. ومما يزيد الأمر سوءا هو أن الأسرة والمدرسة في أحيان كثيرة تربي البنت على أساس أن تميزها إنما ينحصر في شكلها وإجادتها لأعمال المنزل، وأنها عندما تكبر فإن أقصى ما يجب أن تطمح إليه هو أن تكون جميلة الوجه والقوام وأن تحظى بالاقتران بزوج غني أو مميز في عمله وإقامة حفل زفاف كبير وإنجاب أطفال، أي أن التثبيط في البيت أو المدرسة أو الاثنين معا. لهذا، فإن تفسير وجود عدد أكبر من الرجال المتميزين خاصة في المجالات التي يرى المجتمع أنها مخصصة للذكور لا يرجع أبدا إلى عامل الذكورة، وإنما بسبب عوامل اجتماعية وثقافية، حيث الوضع الاجتماعي المتاح للمرأة منذ القدم حال بينها وبين الاضطلاع بأي عمل من شأنه أن يكشف ما لديها من نبوغ وإبداع في كل المجالات. ولذا، فإن قلة إنتاج المرأة الإبداعي لاسيما الإبداع العلمي ليست بسبب نقص ما في قدراتها العقلية نتيجة عامل الأنوثة، بل سببها أن تميز الإناث لا يحظى باهتمام في طفولتهن من الأساس، فلا يتم اكتشافه وتطويره وتقويمه وتعزيزه. الأمر يشبه تأخر بعض الشعوب بسبب عدم توافر الظروف الملائمة لتطورها، ففي العصر الحديث، معظم الإنجازات الإبداعية في عدة مجالات قد يبدو وكأن شعوبا معينة أكثر من غيرها هي التي أنتجتها، وهذا لا يعني أن تلك الشعوب «أذكى» أو «أكثر إبداعا» من غيرها، ولكنها حظيت بفرص أكثر لنمو الإبداع وتطويره واستثماره، ومثل هذا ينطبق على كثرة إنجاز الرجال الإبداعي مقارنة بالنساء. فالدور الاجتماعي الذي يصوره المجتمع للمرأة يضعها أمام خيارين صعبين: تمثيل النمط الأنثوي التقليدي، أو نبذها اجتماعيا وعاطفيا. هذا معناه أن المجتمع ينتظر من الأنثى أن تكون «امرأة نموذجية» حسب تقاليده بحيث يفرض عليها القبول باتجاهات وميول محددة سلفا يتم تصنيفها اجتماعيا على أنها الصفات «الطبيعية» الممثلة ل«الأنوثة»، وبذلك تنحصر اهتمامات معظم الفتيات في تجسيد تلك الصفات منذ الصغر. ينعكس هذا بالطبع على نماذج الإبداع التي تنتجها المرأة بحيث يجعلها أقل من تلك التي ينتجها الرجل. فالصورة النمطية السائدة ل«الرجل النموذجي» أكثر ملائمة لنمو الإبداع، حيث يمنح الرجل استقلالية أكثر، ويحظى بمزايا اجتماعية إضافية تمنحه الثقة اللازمة لتطوير الإبداع وتحقيق غاياته. اختلافات الاتجاهات والميول إذن والتي قد تتعلق بالإبداع غالبا هي صفات تكتسب من خبرات الحياة، بل إن صفات الأنماط الأنثوية والذكورية النموذجية في مجتمع ما هي نفسها قد تكتسب أحيانا كثيرة بالخبرات والبيئة والظروف المحيطة، فزيادة الأخوة من أحد الجنسين، أو وفاة أحد الأبوين، أو التعلق الزائد بأحدهما، كلها عوامل تؤثر في اتجاه ودرجة مقياس الأنوثة أو الذكورة التي يظهرها الفرد. كما لوحظ أن النساء اللاتي تعلمن تعليما عاليا يحصلن على درجات في مقياس الذكورة أعلى من متوسط ما تحصل عليه النساء الأخريات عادة، أي أنهن يقتربن من الذكورة، وكذلك فإن الرجال المثقفين ثقافة عالية ينطبق عليهم الأمر نفسه إذ يقتربون من الأنوثة. تجدر الإشارة هنا إلى أن المقصود بمقياس الأنوثة والذكورة هو: درجة تجسيد الفرد للصورة النمطية في المجتمع لما يوصف ب«المرأة النموذجية» و«الرجل النموذجي» طبقا للأيديولوجية السائدة. أي أن مقياس الأنوثة والذكورة تم تصميمه لغرض دراسة درجة تجسيد الفرد للصفات التقليدية النموذجية حسب ما هو سائد اجتماعيا وليس حسب طبيعة اتجاهات وميول الجنسين التي هي بالأصل متقاربة جدا. وقد وجد أن ما ينطبق على النساء المثقفات والرجال المثقفين ثقافة عالية ينطبق كذلك على المبدعات والمبدعين، إذ تبين أن النساء المبدعات أكثر ميلا للاستقلال والحزم والإصرار، وهي صفات يربطها المجتمع بالذكورة، كما وجد أيضا أن الرجال المبدعين يتسمون بحساسيتهم المرهفة والتعبير عن المشاعر والاهتمامات التي تنطوي على معان جمالية أو عاطفية، وهي صفات يربطها المجتمع بالأنوثة. ومن هذا تم استنتاج أن نجاح الإبداع يتطلب خصائص شخصية (كالحساسية والاستقلال) قد تتعارض مع الرؤية الاجتماعية المتصلبة للأدوار التقليدية لكل من الأنثى والذكر، لهذا فإن القيام بالأدوار الاجتماعية بالطريقة المتزمتة التي تفرضها الثقافة الاجتماعية السائدة سيؤدي إلى التضحية بعدد من الخصائص الضرورية لنمو التفكير الإبداعي وتطوره بشكل عفوي لدى الجنسين. وهكذا نرى أن عامل الأنوثة ليس هو في الواقع سببا لقلة ظهور نتاج المرأة الإبداعي. فما السبب إذن؟