حياتنا قصة قصيرة، تقص ألسنتنا قدرا ضئيلا منها. لكن الجزء الأكبر سيروى عنا في يوم من الأيام. وستتعدد الروايات طبقا لدوافع أصحابها، لكنها ستلتقي في نقطة تتمثل في العنصر المحرض، والذي غالبا ما يكون: الغياب. فحديث من يحبوننا بحضرتنا لن يحمل ذات الزخم ولا الشجن الذي يغلفه حين نغيب، وحديث من يضمرون في قلوبهم حقدا أو غيرة أو سوءا لن تكتمل لذته بالنسبة إليهم إلا في غيابنا، وكم تغنى الشعراء بقصائد تصف لوعة الغياب الذي قد يتحقق باختيارنا أو رغما عنا. لكن وعلى الرغم من أن مجرد التفكير في مسألة غياب الشخص أو الشيء هو أمر يحبس الأنفاس، إلا أن هناك من اختار الغياب دون أن يقصد. وإليكم القصة: في إحدى صباحاته الغائمة، استيقظ الأب على صوت بكاء ابنته الهستيري وهي تمسك بسماعة الهاتف وتصرخ قائلة: يا إلهي! أخي؟ لا أصدق! أي مستشفى ومتى حدث ذلك؟ حسن أعطني العنوان.. بسرعة! خرج من غرفته مسرعا عله يلحق بها ليفهم ما حدث، لكنه لم ينجح. جلس على أريكته حزينا يسند رأسه بباطن كفيه وأفكاره تغدو وتروح. تساءل هل من حقه أن يغضب من ابنته لأنها لم تخبره إلى أين ذهبت، وما الذي حدث بالضبط؟ وكيف يجرؤ على سؤالها وهو لم يفعل ذلك منذ أعوام! خطر بباله أن يحادثها على هاتفها الجوال، لكنه لم يكن يعرف كيف يخرج رقمها من قائمة الأسماء، رغم أنها حاولت أن تشرح له طريقة استخدام هاتفه الجديد.. ورفض! عصرته لحظة حنين لزوجته التي رحلت منذ سبع سنوات، وبعد أيام معدودة فقط من تقاعده. كان رحيلها مؤلما جدا، فقد قضى ثلاثة أعوام ونصف العام من حياته يعمل ليل نهار كي يدخر المال الكافي لعلاجها، لكن المرض لم يمهله طويلا.. فرحلت هي، وغاب هو. غاب وهو حاضر. اختار أن ينقطع عن العالم من حوله حابسا روحه في غرفة، لا يأكل إلا بعد إلحاح الجوع، ولا يعرف شيئا عن ابنته المطلقة، وابنه «المفحط» الذي أصبح في ذلك اليوم.. مقعدا. [email protected]