يأتي الغياب موجعاً حينما نعيش حالة الفقد المرافقة لذلك الشعور، ويسلبنا كل الألوان في الوجود، ويأخذ منا الفرح الحقيقي الذي نراه في عيون كل من حولنا، لكنه يختفي بداخل أعين من يعيش حالة الفقد، يتجرع الغياب وكأنه كأس تخلق بداخله سيول الحزن والبعد والحنين المطوق بفكرة الفراغ الذي يصحب حالة الغياب.. إن قلباً يعيش الشعور بالفقد؛ فإنه قلب يتجرع ذلك الكأس، فمن الصعب جداً أن تفقد، والأصعب أن تختار أن تغيب.. فالخيار الوحيد الذي يمكن أن يختاره المتحسس لأوجاعه الدائمة أو الطامح لحياة مستقرة أكثر أن يغيب؛ إنه الخيار الموجع والمشتعل والمخيف الذي يقدم عليه البعض ليدخل الآخرين تجربة المعاناة منه وعدم استشعار الفرح بسببه.. فيجهل كل منهم من يتألم أكثر؟. فراق أم لأبنها المبتعث وأخ يعمل بعيداً وقريب «قاطع» وصديق «ناكر المعروف» وحبيب ينتظر قلبه يمنحنا غياب من نحبهم في الحياة لحظة الفرح الطعم المر لحالة الفرح.. فترى الفرح عجوزاً مسناً لا يستطيع الرقص بعكازه، والضحك بصوت عالٍ، وإطلاق ذراعيه في الفضاء في الوقت الذي ينتشي من برفقة أحبابه ليعيش معهم طفولة القلب وانطلاقة الروح ورغد الحياة المليئة بالمفاجآت الجميلة والمدهشة.. ما أصعب أن تتأنق لعيد يأتي بعد أن سُرقت منك الأيام وجه من تحب!، وما أصعب خيار الغياب.. موجع ومحرق ينقض على قلبك لينهشه ويرميه وحيداً وبارداً عند سور الأحزان الذي يرقب الفرح "بتوق".. وما أصعب أحوال البشر التي تدفعك إلى خيار الغياب فتوصيك بالخيار الأصعب ثم تبكي عليه!. لماذا البعض غائبون عن الفرح؟.. لماذا البعض يجهلون كيف هو الفرح؟، ولماذا يذهب من نحبهم في العيد فيأخذوننا معهم؟.. لماذا الغياب والعيد هو الحضور؟، ولماذا اللون الرمادي والعيد هو البياض؟.. ولماذا الحنين المر والعيد هو الأشواق المتفجرة؟، لماذا الدموع والعيد هو الضحكات؟.. لماذا تغيب والعيد هو أن تسجل موقف الحضور؟. د.المشوح: صعب عليك أن تقرّر نسيان من تُحب لأن «الفرح يتذكّر» يختار البعض أن يتغيب في مناسبة العيد بخياره أو بدون خيارة؛ فهناك من الأمهات من تغيب عنها أبنها المبتعث فتدمع عينيها شوقاً في العيد لغياب ابنها الذي تحبه، وهناك من غاب عنه صديقه في العيد؛ لأنه يسكن منطقه بعيدة عنه فيتحسس الفضاء الخالي بدونه، وهناك من تغيب عنه زوجه في العيد فتسرق فرحته ويعيش اليتم بشكله المر.. فلماذا البعض يختار في العيد أن يغيب والخيار الأجمل أن تحضر بمكالمة هاتفية أو برسالة أو بمفاجأة الحضور الجميل أو هدية أو باختراع مهم اسمه الكلمة. الفرح يذكرك بالغائبين وترفض "أطياف عبدالله" أن يغيب عنها في العيد من تحبهم في الحياة؛ حيث ترى أن العيد مناسبة مهمة وفرصة ذهبية لأن يكون الخيار الوحيد للإنسان بعد ذهاب شهر الصوم وتتويجه بالعيد أن يحضر الجميع ولا يتغيب أحد؛ حتى من غضب ومن حزن ومن اتخذ المواقف ومن وعد بالقطيعة ومن شعر بالغربة؛ فالجميع لابد أن يصرّ على الحضور في مناسبة العيد؛ لأن العيد هو التسامح والحب والتقارب بين الناس، مشيرة إلى حادثة موت أبيها قبل عام حينما شعرت بأنها تفتقده كثيراً في يوم العيد حتى بكت كثيراً في هذا اليوم؛ لأنها شعرت أن العيد زاد من شوقها له، لكنها لا تستطيع أن تصل إليه لتراه. وقالت إن حالات الفرح التي تمرّ على الإنسان تستحضر كثيراً غياب الأحباب، وكأن هناك ارتباطا بين الفرح وبين أحبابنا في الحياة؛ فنرغب دائماً أن يكونوا حاضرين وأن نحصل على فرصة أن نشاركهم هذا الفرح الذي هو من عند الله وأن نقبّل أيديهم، فما أصعب الأعياد في ظل غياب من نحب!. حضور يلغي الغياب ويرى "أسامة عبدالرحمن" أن العيد مؤلم حينما يغيب عنك من يعينون لك في الحياة سواء لظروف دفعتهم لذلك الغياب رغماً عنهم، أو باختيارهم، فالفرح هي حالة كاملة تشعرك بأن كل شيء فيه لابد أن يكون قطعة واحدة متكاملة من السعادة، ففي العيد ترفض أن يغيب عنك أحبابك وترفض أن يحدث موقف يزعجك، وترفض أن يعكّر صفو الفرح طارئ، وليس هناك أقسى من الشعور بفقد الأناس الذين نحبهم في الوجود في لحظات العيد. د.سعد المشوح وأشار إلى تجربة الغياب التي عاشها رغماً عنه لظروف العمل، حيث اضطر أن يسافر إلى منطقة أخرى ليعمل فيها منتدبا لأشهر بعيداً عن أسرته ووالدته، وقد شعر بالألم كثيراً يوم العيد؛ لأنه لم يستطع أن يرى وجه والدته ويقبل كفوفها وأن يطلب منها أن ترضى عنه، وفي صباح العيد حينما هاتف والدته بكت من شدة فقدها إياه في ظل هذا الفرح، وحينما أقفل الهاتف شعر بمرارة كبيرة بداخله تعصر قلبه ألماً على شعور الفقد الذي تعيشه والدته في العيد؛ فقرر فجأة أن يعود في ذات اليوم إلى منطقته ليرى وجه أمه وأسرته في يوم العيد فكان حضوره أكبر فرح لوالدته. الغائبون الحاضرون أما "هدير العوض" فترى أن الغياب قد يحدث في لحظات العيد حتى من قبل أناس موجودين معك في ذات المكان؛ فهناك من يقاسمك المكان في العيد ويتحدث معك ويتناول ذات الطعام ولكنه غائب بروحه، بعيداً عنك من الداخل، لا تشعر أن هناك ما يجمعك به سوى الوقت والمكان الذي تتقاسمانه، في الوقت الذي يغيب عنك غائب في العيد وربما لا تراه ولا تشاركه شعور الفرح بالعيد، ولكنه موجود بروحه وقلبه قريباً منك، ويحدث ذلك التقارب حينما يكون الأشخاص أجزاء من بعض ومكمله لبعض فيحدث التوافق والاتفاق ثم التقارب الذي يستدعي وجودهم حتى في لحظات غياب أجسادهم. تأثير الغياب وقال "د.سعد المشوح" -أستاذ الصحة النفسية المشارك بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- إن مناسبة الفرح تستدعي شعور الإنسان بالفرح، وهذا الفرح يرتبط بالمكان والأشخاص المحيطين أو المتعلقين بهذا الفرح، ولذلك حينما يأتي العيد ويغيب عن الإنسان أشخاص يحبهم أو يعنون له في الحياة؛ فإن الشعور الذي يخلق بداخله يكون تأثيره سلبياً داخلياً وإيجابياً خارجياً؛ فالشعور السلبي الداخلي يشعر كثيراً بعقدة الذنب أن هذا الشخص الذي أحبه فقدته ولم يعد موجوداً ليشاركني الشعور بالفرح؛ فيبدأ يفكّر بأشياء كثيرة منها "لو كان بيننا سيحدث كذا، أو لو كان معي لكنت فعلت كذا"؛ فيكون هناك نوع من اجترار الأفكار والتصورات المعرفية؛ فيشعر دائماً أنه يعيش حالة التخيل لهذا الإنسان فيؤثر عليه بشكل كبير في تعامله وقدرته على فهم هذه العلاقات الإنسانية. وأضاف أن الداخلي ينطلق من فكرة الأشخاص الذين يكونون حديثي عهد بفقدان أشخاص يحبهم إما لابتعادهم أو وفاتهم، ويختلف هنا الشعور بالفقد بحسب الموقف من الموت بشكل نهائي عن الفقد بسفر أو أي أمرا آخر، ولذلك كلما كانت صدمة الفقد قريبة كان تأثيرها كبيرا، وكلما كانت بعيدة كان تأثيرها أخف في حالة الفرح، مشيراً إلى أن للمجتمع دورا في تعميق حالة الحزن على فقد حبيب؛ فالناس يظلون يتحسرون على الشخص الذي فقد قريباً له فيغرق صاحب الفقد بمشاعر الحزن والأسى، وذلك يسمى اضطراب مابعد الصدمة، وهو قد يستمر لأسابيع وقد يستمر لسنوات مع الإنسان، وهو الشعور بالحزن لفقدان ذلك القريب، ولذلك يؤثر هذا الإحساس على شعور الإنسان بالفرح. وأشار إلى أن هناك نوعا من المشاعر المصاحبة لفقدان من نحبهم في الحياة في لحظات الفرح، وهو الشعور بالفرح الهستيري كردة الفعل، إلا أن تلك قليلة الحدوث لدى الأشخاص؛ فمعظم الأشخاص تكون ردة الفعل تجاه الاحتفال بالمناسبات الخاصة، وحينما يفقدون عزيزاً إما أن يتذكروا كل ماكانوا يفعلونه ويقولونه معهم، ولذلك فهناك من يعبّر عن فقدهم بالقيام بأمور تذكرهم بهم كالشخص الذي فقد والديه فيقوم بعمل حفل عشاء في العيد ويقول "هذه كرامة لذكرى والدتي أو زوجتي". كيف تتغلب على غيابهم؟ أما عن السبل الكفيلة للتغلب على الأوجاع المصاحبة لفقد من نحبه في الحياة أو غيابه؛ فيرى "المشوح" أنه يصعب ذلك في لحظات الفرح، فلا يمكن التغلب على هذا الشعور إذا لم يكن هناك وسائل إرشادية ونفسية واجتماعية مساعدة، فمن الصعب الضغط على زر النسيان فتنسى؛ لأن هذا الشخص الذي فقد قريباً له كان يتألم من شعور الفقد لأشهر عديدة، فمن الصعب أن تنقلب الحالة في لحظات الفرح، ولذلك فالأشخاص الذين يتعرضون إلى صدمات لابد أن يلتحقوا ببرامج إرشادية للتعامل مع الصدمات وأساليب الاسترخاء والتعامل المعرفي والبرامج السلوكية المعرفية، وكيف يتعاملون مع هذه المواقف؛ فحينما تفقد المرأة ابنها أو زوجها غالباً ما تشعر بالانهيار العصبي، خاصة للأمهات فحينما ترى الأطفال في العيد فرحين تتذكر ابنها؛ فتأتي من حالة الفرح فلابد من دخولها في برامج تدريبية، موضحاً أن العيادات النفسية تركز على الأدوية التي تساعد على التهدئة وتعطي برامج معرفية تساعد المجتمع التغلب على مشكلاته، ومن الصعب أن يتناول الشخص حبة العلاج يوم العيد، فلابد من وجود أشياء عملية كالتدرب على عمليات الاسترخاء، ويكون قبل العيد في دورة تدريبية في أحد المراكز المتخصصة للتعامل مع الصدمات.