لا يمكن للمرء الولوج إلى عالم الفلاسفة والاطمئنان إلى معرفته بهم ما لم يستطع أولا أن يقرأ غباءهم قبل ذكائهم. عندما يريد أحد أن يدخل إلى عالم الفلسفة فإنه بالتأكيد سيدخل مع الباب العام؛ مع الكتب المبسطة والمجملة والمقدمة للقارئ العادي لا المتخصص، بعد ذلك يسير في طريق القراءة رويدا رويدا حتى يصل إلى غاية الإدراك؛ وعندما يصل إلى هذه الغاية سيعلم أنه أصبح منشغلا بقراءة الغباء أكثر من الذكاء. سأوضح المراد الآن. في الكتب المبسطة والعامة سيجد القارئ نفسه أمام زبدة ما أنتجه الفلاسفة وخلاصة تاريخ طويل من البحث والنقاش. هنا سيفوته تعلم «الطريقة» التي يصل بها الفيلسوف إلى تلك الآراء والخلاصات. والطريقة ليست فقط المنهج، بل هي فوق ذلك الأسلوب اللغوي والسياق التاريخي والأسئلة التي انشغل بها هذا السياق ذاته. إن الفيلسوف لا يمكن أن يبدع آراءه منعزلا، فلا بد من مجتمع معرفي ينخرط فيه. هذا «الانخراط» يعني من ضمن ما يعني أن الفيلسوف يدخل في حوار جاد ونقاش عميق مع غيره من الفلاسفة المجايلين له. وكل فيلسوف يصل إلى «زبدته» من خلال ضرب من الجدل أو الصراع الفكري. والصراع يستلزم من المتصارعين البحث عن نقاط الضعف في كل طرف؛ أي أن كل فيلسوف يبحث عن «غباء» الآخر لكي ينقضه ويبني على آثاره بناء ميتافيزيقيا جديدا. والغريب في الأمر أن الفيلسوف لا يبني على الجزء المتماسك والصحيح في فلسفة خصمه بل يبني على الجزء الضعيف. وهذا هو تاريخ الفلسفة. فإذا كان تاريخ العلم هو تاريخ أخطائه كما يقول باشلار، فإن هذا يصح أيضا على تاريخ الفلسفة. والأخطاء هنا أو نقاط الضعف أو حتى «الغباء» ليس صفة سلبية بل هي ميزة رائعة تجعل باب التطور مفتوحا. فلنأخذ أمثلة.. إن من أضعف الجوانب في فلسفة ديكارت هي ثنائية العقل والمادة وكيفية التواصل بينهما. لقد طرح ديكارت حلا هزيلا جعل فريقا كبيرا من الفلاسفة بعده يقيمون أبنية ميتافيزيقية هائلة لحل المشكل. لولا إخفاق ديكارت لاختلف بناء اسبينوزا وليبنتز ومالبرانش وغيرهم عما هو عليه الآن. وكذلك نقطة ضعف كانط وهي مفهوم «الشيء في ذاته» أو «النومين». من خلال محاولة علاج هذه المشكلة ظهرت لنا فلسفات فيشته وشلنج وهيجل وشوبنهاور في شكلها المعروف اليوم..قلنا إن الفيلسوف لا يمكن أن يبدع منفردا. لذا كان وجود تراث فلسفي يمتد إلى عصره ضروريا للتفلسف ذاته. فليست الدهشة وحدها هي سبب التفلسف، فهذا رأي رومانسي إذا أخذ على عواهنه. فالتفلسف يشترط أيضا قراءة الآخرين وبالتحديد قراءة غبائهم؛ الثغرات والفجوات في البناء المعرفي لكل واحد منهم. لقد كانت الدهشة تقريبا هي منطلق تاريخ الفلسفة ولكنها تتوارى إذا نضج هذا التاريخ، عندها تكون الفلسفة ليست دهشة بقدر ما هي قراءة للدهشة ذاتها، أي قراءة للقراءات والقديمة منها تحديدا. وينبغي توضيح أن الدهشة المقصودة هنا هي الدهشة بالمعنى الرومانسي؛ صورة ذلك الحكيم المنقطع عن الناس والذي يتأمل السماء والنجوم ويراقب الأفلاك.. هذه صورة لم تعد قائمة. من هنا أستثني الدهشة التي تعني التساؤل الجذري الذي لا يهدأ.