لأنه صانع قرار ذو رؤية واضحة تمثل نتاج خبرة تراكمية ومرونة في التعاطي مع واقع الظروف والتحديات الاقتصادية المحلية والدولية، مستندا على عمل مؤسسي منهجي داخله طموح ومبادرات وتحد، كان حضور خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز إلى اجتماعات مجموعة العشرين الاقتصادية لثلاث سنوات متتالية، ملفتا للنظر. ذهب الملك عبدالله بنفسه إلى معاقل صنع القرارات للتأثير فيها بما يخدم مصالح العرب والمسلمين، فهو زعيم يجيد بناء حلف دولي متماسك، وهذه الأخيرة هي الغاية التي طالما اعتبرت معياراً شديد الحساسية عند تقويم مسيرة الزعماء، وهو صاحب خطى ترتكز على قيم إنسانية رفيعة لا يملك قادة العالم أمام مضمونها الصريح سوى التأييد والمباركة. في رهانات الاقتصاد السعودي التي يمسك الملك عبدالله بزمامها، يمكن القول إن كل المؤشرات الأساسية توحي بالثقة والأمل بما فيها الكثير من ملامح المستقبل، فعلى سبيل المثال لا الحصر يتوقع العلماء دورا أكبر للطاقة الشمسية في تحلية مياه البحر، وإذا عرفنا أن أرض المملكة واحدة من أكثر بقاع العالم الأرضية المعرضة للإشعاع الشمسي، لربما وصلنا إلى استنتاج بأن السعودية بلد ستكون وفيرة بالمياه المنتجة بطاقة أبدية لا تنضب وبتكاليف معقولة. إن الأمم القوية ليست سوى نتاج توافق حاضر مع مستقبل، فكيف لو أضفنا إلى ذلك ماضيا مجيدا، وهذا الحديث لا يتناقض بطبيعة الحال مع القول إننا أمام الكثير من التحديات المفترض أن يتم التعامل معها بتحدي النفس أولا. منذ العام 1995 حينما أوكل الملك فهد بن عبدالعزيز رحمه الله إدارة شؤون البلاد للملك عبدالله، وجد أن بلاده تعيش وسط مشهد دولي محلي، لا يخرج عن التحديات التالية: أولا: التذبذب في أسعار النفط وخطورة الاعتماد عليه كمصدر وحيد للدخل. ثانياً: استمرار عبء الإنفاق الحكومي وما يتركه من آثار على ارتفاع الدين العام والعجز في الموازنة. ثالثاً: استمرار ضعف مساهمة قطاعات البنية التحتية والخدمات في الناتج المحلي. رابعاً: تباطؤ وتيرة النمو لبعض القطاعات. خامساً: تصاعد وتيرة النمو السكاني وزيادة معدلات الخريجين. سادساً: تقادم العمر الزمني لأنظمة وتشريعات الاستثمار. سابعاً: سيطرة تعقيد الروتين والبيروقراطية في بعض الإجراءات. ثامناً: اختلال تركيبة الأنشطة والقطاعات الاقتصادية وبما ينعكس على ارتفاع تكلفة الحصول على التقنية. تاسعاً: زيادة المنافسة في سوق جذب الموارد المحلية. عاشراً: زيادة الارتباط بالاقتصاد العالمي. وبدت هذه التحديات متشابكة إلى حد كبير، بل يمكن القول إن بعضا منها قاد إلى الآخر كنتيجة حتمية، فارتباط أسعار النفط هبوطاً أصاب الإنفاق الحكومي بالتذبذب، وهذا الإنفاق هو المحرك الرئيس للطلب، ويشكل ما نسبته 40 في المائة من إجمالي الطلب المحلي، باستثناء تكوين رأس المال الثابت والتغير في المخزون. ويطبق ذلك أيضاً لتقادم العمر الزمني للأنظمة والتشريعات الاستثمارية وعدم مواكبتها التطورات المحلية والعالمية وتعددية الأجهزة التنفيذية والرقابية وما تركته على سوق جذب الموارد، فدولة مثل لبنان استقطبت 3.75 بليون دولار من أموال السعوديين، وقطاعان مثل التعدين والسياحة ينموان ببطء السلحفاة في الوقت الذي تملك فيه السعودية ثروات من شتى الأنواع، كما يصرف المواطنون نحو 30.3 بليون ريال لأغراض السفر. وفوق ذلك كله تصل استثمارات المصارف السعودية في الخارج إلى نحو 100 بليون ريال متحججة بارتفاع مخاطر الإقراض المحلي. أولويات الأجندة الشأن الاقتصادي يحتل واحدة من المراتب المهمة في أولويات الملك عبدالله، فهو من جهة يحرص على تأصيل الثقة لدى مواطنيه في قيادتهم السياسية، وأنها دوما صمام أمان للاستقرار في الأزمات، ومن جهة أخرى، تحقيق طموحات مواطنيه الذين يراقبون ارتفاع أرقام الفوائض المالية إليها نتيجة لاستمرار ارتفاع أسعار النفط، فالطفرة الحالية ستكون عاملا مسهلا يساعد على إتمامها بظروف أسهل، ما يضع السعودية أمام التحديات للمضي قدماً في عملية التطوير، والسعي إلى اعتماد الاستخدام الأمثل للموارد المالية المتوافرة. المرحلة الجديدة، كما قرأها الملك عبدالله في خطابه لدى افتتاح جلسة مجلس الشورى في العام الماضي، تشتمل على سبيل المثال لا الحصر: على الاستمرار في دعم القطاع الخاص، دعم الاستثمار الأجنبي، تطوير التعليم، إنشاء المدن الاقتصادية، دعم الاقتصاد المعرفي، هيكلة القضاء وتطويره، وإنشاء الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، ومكافحة البطالة، والتوسع في التعليم والتدريب. إن تحديات اقتصاد أكبر منتج نفطي تبدو في ظاهرها تحمل كثيراً من التعقيد، خصوصاً أن اقتصاد بلد مثل السعودية ينبغي أن ينتقل من الميزة النسبية إلى الميزة التنافسية. إن علم الاقتصاد يعرف وظيفة الدولة بأنها «تحقيق الرفاه للمجتمع»، ومن هنا حسم الملك عبدالله ذلك الجدل حينما أوضح أن السياسة الاقتصادية ترتكز على ثوابت الرعاية الاجتماعية الشاملة، مفهوم الاقتصاد الحر، والأسواق المفتوحة للمال، السلع، الخدمات، والمنتجات. إن كل تلك السياسات تنصب في تحقيق «الرفاه للمجتمع» وتكرس مفهوم وظيفة الدولة الاجتماعية، وإذا كانت هذه الغايات قد أكدت إشراف الدولة على العملية الاقتصادية بهدف عدم الاختلال فيها، فإنها في المقابل أكدت أيضاً أن الدولة شريك في السوق، ومن أهم المؤشرات على ذلك أن السياسة الاقتصادية نظرت إلى قضية ضبط الدين العام في حدود وظيفته الآمنة كمحفز للعملية الاقتصادية حتى لا يتجاوز الغرض من حركته في حدود أهداف الدولة الاجتماعية. كما أن السياسات الاقتصادية السابقة أشارت إلى ضرورة توافر البدائل اللازمة للدولة للقيام بأعباء وظيفتها وربط ذلك بحركة السوق حتى يمكن توفير مصادر حقيقية من حركة السوق؛ فلا يكفي أن تعتمد الدولة على ملكيتها لمصادر الثروة الطبيعية أو المصادر الجبائية. ثقة وطمأنينة الثابت أن عهد الملك عبدالله بن عبدالعزيز تزامن مع ارتفاع أسعار النفط وانعكاسه على إجمالي الإيرادات العامة للدولة، ما خلق نوعاً من الطمأنينة حول قدرة الحكومة على مواجهة تحديات هذه المحاور ودعمها بدرجة عالية من المرونة في وضع برامج واستراتيجيات ورؤى عملية لتفعيل موارد الاقتصاد وتمكينه من تجاوز الاختناقات التي يمر بها في هذه المحاور. وهذا يعني بالضرورة استثمار الزيادة في إجمالي الإيرادات العامة للدولة الاستثمار الأمثل الذي يترجم الاستفادة الحقيقية من هذه الزيادة لشرائح المجتمع كافة ولقطاعات الاقتصاد المتعددة، بحيث تكون المحصلة تفاعلا جماعياً يسهم في رفع وتيرة الإنتاج وزيادة فرص التوظيف. صحيح أن الاقتصاد السعودي لا يزال عرضة لتقلبات أسعار النفط، وهذا واقع لا ينتظر أحد تغيره، ومن هنا فإن تنويع القاعدة الإنتاجية المتبقية من العقد الحالي يشكل التحدي الأكبر الذي يواجهه السعوديون، والنجاح في هذا المضمار سيمثل قفزة نوعية تمهد الطريق أمام تحولات أساسية في طبيعة الاقتصاد وآفاقه المستقبلية. بيد أن التنويع، على رغم أهميته، لا يعني بطبيعة الحال أن أهمية النفط كركيزة أساسية للاقتصاد، سوف تتلاشى وتتضاءل، فالموارد النفطية ستبقى القوة الدافعة الرئيسة للنمو، طالما حافظ النفط على دوره كأحد المصادر الرئيسة للطاقة في العالم. وستبقى إيرادات النفط المورد الرئيس لتمويل المشاريع والاستثمارات المطلوبة، لدعم القطاعات الاقتصادية غير النفطية ورفع إسهاماتها في إجمالي الناتج المحلي. إن المطالب الحالية تتمثل في زيادة توسيع دور القطاع الخاص في التنمية وأخذ مبادرته في الإسهام في عجلة الاقتصاد، وفتح مجالات جديدة للاستثمار لا تعتمد على الإنفاق الحكومي. وتستند تلك المطالب على فرضيات عدة من أهمها، أن القطاع الخاص يمتلك موارد مالية ضخمة مستثمرة في الخارج نظراً إلى محدودية فرص الاستثمار المحلي تزامنا مع مناخ اقتصادي أقل ما يوصف أنه «قلق» خصوصاً في حقبة الثمانينيات ومطلع التسعينيات كرد فعل لحربي الخليج الأولى والثانية. وهكذا يبدو أن تحقيق أهداف التنمية يعتمد أيضاً على توفير البنية الاقتصادية والاجتماعية والمالية، ومن هذا الجانب فإن خفض الدين المحلي وإعادة التوازن إلى الموازنة يحتلان مركزاً متقدماً في سلم الأولويات الحكومية، حتى لا تتحول هذه الظاهرة التي أفرزتها فترة «التكيف الاقتصادي» في النصف الثاني من الثمانينيات إلى عقبة مستقبلية أمام التوسع والنمو. وهنا أيضاً لا يمكن إغفال أهمية الاستقرار السياسي والاجتماعي في خلق المناخ المحفز للنمو والتقدم، فعلى رغم التغيرات السريعة والأحداث المتلاحقة التي شهدتها السعودية خلال الفترة القصيرة الماضية من حوادث الإرهاب وإرهاصات أحداث الحادي عشر من أيلول (سبتمبر)، تمكنت السعودية من تجاوز الانعكاسات السلبية الناتجة من تلك الظروف، وهذا ما يتوقع استمراره في المستقبل. القطاع الخاص يدرك الملك عبدالله أنه في اقتصاد حر مثل اقتصاد بلاده سيتطلب الأمر إشراك القطاع الخاص في المزيد من النشاطات الاقتصادية، وتحفيز الموارد وتحريكها نحو الاستخدامات التي تحقق أهداف التنمية وتؤدي بالتالي إلى توليد مناخ قابل للاستمرار على المدى البعيد، وسيكون ذلك مرتبطاً بالمناخ الاقتصادي العام وتوافر فرص الاستثمار المجدية، وتطوير سوق المال التي تساعد على انسياب رؤوس الأموال الوطنية ضمن أقنية فعالة تربط بين أصحاب الأموال وفرص الاستثمار المحلي، فحتى الآن تفتقر السوق السعودية إلى الأدوات المالية البسيطة والمتوسطة وطويلة الأجل والقابلة للتداول وإلى مؤسسات الوساطة المالية. ونظراً لأهمية التقنية الحديثة في الارتقاء بالاقتصاد إلى التنوع، فإن تعزيز دور القطاع الخاص في التنمية يتطلب مزيداً من تشجيع الاستثمار الأجنبي، الذي يعتبر القناة الرئيسة لنقل هذه التقنيات والخبرات الإدارية والفنية والتسويقية المطلوبة، لتعزيز الإنتاجية والمزايا التنافسية للاقتصاد ولفتح الباب أمام مجالات كثيرة. والواقع أنه في بداية فترة الركود لم يكن القطاع الخاص مهيأ لمثل هذا الدور، كما أن الظروف لم تكن مناسبة والرؤية لم تكن واضحة حول كيفية الانتقال من «اقتصاد الطفرة» الذي كان يعتمد على الإنفاق الحكومي بشكل شبه كلي إلى «اقتصاد أكثر توازناً» من حيث الدور الذي يقوم به القطاعان الحكومي والخاص. ولا جدال على أن تجربة «التأقلم» و «التكيف» التي عاشها القطاع الخاص طوال الحقبة الماضية أسهمت في بروز مؤسسات أكثر فعالية وتنافسية ومرونة وذات خبرات إدارية وتسويقية وإنتاجية أوسع وأعمق. وكانت هذه التجربة بمثابة «امتحان» للمؤسسات، فذهب الضعيف بينها وبقي القوي، لكن يمكن القول أخيرا إن الإقبال الملحوظ على المشاريع الإنتاجية والاستثمار المحلي عكس رغبة متزايدة من القطاع الخاص على الاضطلاع بمهمات أكبر في الاقتصاد.