لم أكن أتوقع أن يكون مستوى ميناء جدة الإسلامي الذي يعد المنفذ التجاري الأكبر للمملكة، عند هذا الحد من التواضع وغياب التخطيط والعشوائية المفرطة والفوضى، فجميع من التقيتهم على مدى ثلاث ساعات متواصلة من مخلصين وتجار وعاملين داخل أسوار هذا الميناء المحصن ضد وسائل الإعلام، يجمعون على أن الوضع بحاجة إلى خطة إنقاذ عاجلة، تقف على نبض المنفذ التجاري وآليات عمله وطريقة تشغيله وكيفية منح التراخيص للمستثمرين، واحتكار البعض للمستودعات والأرضيات على مدى سنوات طويلة. ميدانيا، تصدم وتشعر بأسى وأن تشاهد بأم عينيك كميات الأرز والدقيق والزيوت التي تذهب مباشرة إلى بطون الناس معرضة للشمس والغبار لمدة تتجاوز عشرة أيام، أقسم محمد الهندي وهو أحد من التقيتهم «أن كميات الأرز تبقى على الأرضيات في انتظار أصحابها وانتهاء إجراءات التخليص أكثر من عشرة أيام متواصلة»، ينتابك ذعر وأن تشاهد أكواما من الحديد الخردة والهناجر التالفة وبقايا البضائع تفترش أرضيات الميناء، تتألم وأنت تشاهد أسقف المستودعات وقد علاها الصدأ وخيم عليها الغبار، وأصبحت قريبة من السقوط لا تحمي البضائع عند هطول المطر نتيجة قدمها وغياب الصيانة عنها. تتساءل، هل يعقل أن كل هذه الإطارات التي تزن مئات الأطنان والتي اكتست بالغبار ونخرت الرطوبة جلدها وتعرضت للشمس، هي تلك التي يتم استخدامها في مركباتنا، وبالتالي سرعان ما تنفجر على الطرق السريعة، ليذهب القائد والركاب ضحية انفجار إطار بسبب عيب تصنيعي أو تقصير في التخزين نتيجة تعرضه لعوامل التعرية. عندما تبحث عن الحقيقة تجد أن ثلاث مؤسسات تتقاسم مسؤولية الإشراف على الميناء الكبير، فإلى جانب حرس الحدود المعني بالحراسة وتنظيم حركة السير في داخل الميناء، هناك المؤسسة العامة للجمارك والمؤسسة العامة للموانئ. مكتب التراخيص انطلقت جولتنا في العاشرة صباحا، وكانت البداية من قسم استخراج التراخيص الذي تتولى إدارته جهاز حرس الحدود وحدة أمن ميناء جدة الإسلامي، هناك في مكتب صغير جدا لا تتجاوز مساحته 40 مترا، تبدأ رحلة الحصول على الترخيص، وأثناء إتمام عمليات استخراج تصريح مؤقت يطلب منك صورة الهوية، لتنتقل إلى مكتب مجاور لا تتجاوز مساحته أربعة أمتار فقط، يستقبلك عامل هندي الجنسية ليحصل على ثلاثة ريالات مقابل منحك صورة لهويتك الوطنية أو إقامتك النظامية على نصف ورقة A4. ورغم ضيق المكان وتردي الوضع العام والمظهر وسوء النظافة وقدم الأثاث، يحمد لفريق حرس الحدود استقبالهم الحسن وسرعة إنجازهم لطلبك، إذ لم يستغرق ذلك سوى 20 دقيقة، في هذا المكتب الذي لم تمتد إليه يد الصيانة من سنوات يعاني المراجعون من ارتفاع درجة التكييف حتى أن المراجعين يفضلون البقاء خارج المبنى حتى يتم استدعاؤهم بالاسم للحصول على إذن الدخول. أرصفة وشوارع قدر لي في عام 2000 أن أقف على ميناء جبل علي في الإمارات العربية المتحدة؛ وهو ميناء حر يستقطب مئات السفن الملاحية يوميا، ويسهم في حركة تجارية بين الشرق والغرب، اليوم ونحن نودع عام 2010 زرت ميناء الملك عبد العزيز في مدينة جدة التي تعد المنفذ التجاري الأول في المملكة، عندما تدلف من الشارع الرئيس الذي يتوسط الميناء ويعد البوابة الرئيسة تشاهد يمنة ويسرة أرصفة قديمة، لم تطلها يد التحسين، حتى إن تمت عملية الدهن أو الإصلاح فإن هذه الأرصفة تبقى تحتفظ بقدمها وتهالكها متحدية كل الجهود المبذولة. يقول ناصر الهذلي مخلص جمركي يعمل في شركة تملك مستودعات داخل الميناء : المؤسف حقا أن هذا الشارع الوحيد الذي تطاله أعمال الصيانة، ونتيجة لثقل الشاحنات التي تدخل الميناء فارغة وتخرج محملة بأطنان من البضائع أسهمت في تلف هذه الشوارع التي لم تنفذ وفق معايير ومواصفات عالمية، وأشار بيده إلى شارع فرعي وقال «أنظر هناك ستجد أن الشارع هبط وتلفت طبقة الإسفلت، وكأن الأمر لا يعني إدارة الميناء على الإطلاق»، وزاد «أعمل في هذا الميناء منذ خمسة أعوام، كل أعمال الإصلاحات والتحسينات تتم ببطء السلحفاة، بينما حركة النمو التجاري في الميناء تتزايد بشكل غير مسبوق»، يؤكد سالم مبارك ساخرا «أن هذا الشارع رغم كل ما فيه من مشاكل يعد الأبرز المفروش بالسجاد الأحمر»!!. إتلاف البيرة أثناء جولتي في شوارع الميناء لفت نظري وغيري من رواد الميناء عملية الإعدام العلنية لبيرة يبدو أنها ضبطت ولم يسمح بتصديرها، كان ذلك في الساعة ال11 والثلث، المشهد غير المألوف تكون من موظفين يمسكان بأوراق وأجهزة لا سلكية فيما تولى أربعة عمال تكسير الزجاجات على رصيف متاخم لمستودع المتروكات رقم 4، كان المنظر محزنا ولا ينم عن تنسيق أو إلمام بما يعكسه هذا التصرف من سلوك غير حضاري، الأسلفت الأسود اكتسى تماما بالزجاج المهشم الذي أصبح يطفو على سائل الكلونيا، استغرقت العملية قرابة الساعة أتلف من خلالها أكثر من ألفي زجاجة كولونيا. المحطات الجنوبية في موقعين (شمالا وجنوبا من الميناء) وعلى عكس ما تبدو عليه الشوارع والأرضيات المتهالكة، يقف مبنى التخليص الجمركي شامخا بمظهر حسن وواجهة رخامية تعلوه لوحة بمساحة تتجاوز ثمانية أمتار مربعة، داخل المبنى الفسيح صالاتان شيدتا بعناية فائقة، في منتصفها تصطف كراسي للانتظار، وفي سقفها شاشات للعد التنازلي عند ازدحام الموظفين، يمين بوابة المبنى تجد صالة فرشت بسجاد مخصص للصلاة، أبلغني أكثر من شخص أن منظر السجاد هو السائد، ويتساءل نور الإسلام حسين عامل في شركة تخليص جمركي عن أسباب بقاء هذا السجاد طوال الوقت، ويضيف «هل يعقل أن يشيد مبنى بهذه الفخامة دون أن يكون فيه مكان مخصص للصلاة». وبالقرب من الكاونترت الزجاجية، حيث يخدم الموظفون المراجعين من المخلصين وأصحاب البضائع، تنتشر الأوراق المهملة في غير مكان نتيجة قلة الحاويات المخصصة لهذا الغرض، فيما تنتشر في مكان آخر بقايا المياه وكاسات الشاي والحليب البلاستيكية، سألت مراجعا أطفأ سيجارته على الأرض ودهسها بحذائه لماذا هذا التصرف؟ فأجاب «هل تشاهد حاوية واحدة للأوراق أو النفايات أو أعقاب السجائر، ألم يكن في وسع إدارة الميناء إلزام المقاول المشغل للصالة بتأمين حاويات لإتلاف الورق وتوفير عامل نظافة، يخلص الصالة من الأوراق التي يلقيها غير المسؤولين». غياب تأهيل خلف الزجاج يتسمر الموظفون يتابعون شاشات الكمبيوتر لتخليص المعاملات، لم أتمكن من الحديث معهم أثناء العمل، غير أن أحدهم هاتفته في ساعة متأخرة من الليل فأجابني «نعاني من قلة الحوافز والإمكانيات، نحن نمثل واجهة يجب أن تكون مشرفة، ونعمل على تخليص بضائع بمليارات الريالات، نحتاج دعما ماليا ووظيفيا ودورات لتأهلينا للتعامل مع متطلبات المرحلة». وزاد بلغة واثقة «صحيح أن إدارة الميناء تحرص على تتبع أماكن الخلل، غير أن بيروقراطية الأنظمة، وعدم وجود برامج ودورات تؤهلنا للتخاطب مع المراجعين تجعلنا نراوح مكاننا، دون أن نغير من طبيعة عملنا، وثقافة التعامل مع الجمهور». ونبه إلى أن الأجهزة تتوقف في بعض الأحيان ويمتد العطل لبعض الوقت، وبالتالي لا بد من شبكة عالية الجودة، يوازي ذلك تدريب على أعلى المستويات، وأضاف «يواجه المخلصون عوائق عدة؛ أبرزها ضعف تأهيلهم وهذا قد لا يكون من مسؤوليات الموانئ، كما يواجهون أزمة قلة المصارف وعدم وجود سوى مصرفين اثنين، تتعرض أجهزتهما وشبكتهما للعطل، فترة الانتظار في المصرف تمتد لأكثر من أربع ساعات في بعض الأوقات، وهذا أمر غير مطلوب ولا يعكس حيوية الميناء في ظل المنافسة العالمية». ناصر الشريف مخلص جمركي تساءل «لماذا يحتكر مصرفان الخدمات المالية داخل الميناء، لماذا لا تمكن البنوك والمصارف من الدخول وتقديم التسهيلات، الأمر يتطلب قرارا من قبل المؤسسة العامة للموانئ، الأعمال المالية تحتاج مرونة تسبقها خدمات وتسهيلات تليق بالتجار». عوائق وفقدان في داخل المبنى الفسيح المصمم بعناية فائقة، يتحدث المراجعون عن عوائق لا حصر لها تبدأ من تسليم المعاملة إلى الموظف في الشباك بطريقة مباشرة دون سند استلام أو أرقام، ما يجعلها عرضة للضياع، يقول حسين نور: نتيجة لغياب الآلية الدقيقة للاستلام والتسليم تتعرض بعض المعاملات للفقدان، لأن الموظف بشر فربما تضيع أو تغوص في أحضان معاملة أخرى، الأمر بحاجة إلى هيكلة إدارية ووضع معايير لتسليم المعاملات ومدى زمني لإنجازها لا أن يترك الأمر تحت رحمة الموظف، ويضيف «عندما نسلم معاملاتنا؛ البعض منها ينجز بعد 24 ساعة وبعضها يحتاج إلى ثلاثة أيام، حتى يقف معنا موظف على الحاويات ويتولى فحصها والتأكد من سلامة محتوياتها، وزاد «نحن لا نتحسس، ولكن يتأخر أعمال فحص الحاويات لأسباب أهمها ظروف طارئة للموظف، أو مرض أو غياب مفاجئ، الأمر الذي يستغرق لاحقا أياما عدة، وعندما يحضر قد يتطلب الأمر إرسال البضائع للمختبر والجودة وهذا يحتاج المزيد من الوقت». وإزاء هذه المشكلات التي تعترض طريق المخلصين والخطوط الملاحية، أكد مدير عام ميناء جدة الإسلامي الكابتن ساهر طحلاوي عندما حاولت «عكاظ» استنطاقه والاستماع لوجهة نظره، أن من يحاول اللجوء إلى الصحافة أولا هو شخص مغرض، وزاد «من يلجأ للصحافة أولا لديه سوء نية وهو شخص مغرض».