أتحفني ابن عمي بهدية، أعتقد أنها (في كل الأحوال) قيمة... فرحت كثيرا (لأول وهلة) عندما ناولني هذه الهدية... كيف لا؟! وهي عبارة عن كتاب (أو كتيب) عن حي «الشامية» العريق في مكةالمكرمة، الذي أزيل في العام 1429ه (2008م) بعد أن كان يموج بالحياة، ويتدثر بعبق التاريخ المجيد، ويتعطر بنفحات الكعبة المشرفة، والمسجد المكي الشريف، الذي تقع «الشامية» (ملاصقة له) في الناحية الشمالية منه. وربما هذا هو سبب تسميتها ب «الشامية». ولعل مما ضاعف فرحتي بهذه الهدية، كونها عن الحي الذي ولدت وترعرعت في كنفه... ولم أغادره وأغادر مكةالمكرمة إلا بعد بلوغي الثامنة عشرة من العمر، ولكون غالبية أقاربي كانوا من قاطنيه. وأيضا لكون هذا الحي من أعرق أحياء المدينة المقدسة مكةالمكرمة، ومن الأحياء التي كتب أهلها أو بعضهم سطورا مضيئة في تاريخ مكة الحديث. يمتد حي الشامية هذا من شمال الحرم وحارة القرارة شمالا، حتى مشارف حارتي الشبيكة والباب غربا، ومن حي النقا شرقا، إلى مشارف السليمانية جنوبا. وقد اعتاد أهل مكة في العصر الحديث، على تسمية الأماكن المتفرعة مهما صغرت بمسميات متميزة، طغى بعضها (لشهرته) على مسمى الحارة التي تقع فيها. ولعل من أشهر أجزاء الشامية كل من: «الفلق» و «جبل هندي» و«قاعة الشفاء»... الخ. ونشأت فيها عدة عائلات شهيرة... انتشرت فيما بعد في أحياء مكة الأخرى، وفي مدينة جدة، وفي بعض أجزاء المملكة الأخرى. كانت هذه المنطقة والمناطق (الأحياء) المتاخمة لها (وأهمها: الهجلة، المسفلة، الشبيكة، القرارة، جرول، أجياد، القشاشية، الشعب، السليمانية) هي مكة القديمة / الحديثة ... والتي كانت حاضرة الجزيرة العربية، والعاصمة المقدسة لكل الأمة. وفي هذه البقعة بالذات قامت حضارة مصغرة خاصة، ومميزة ... وفي أغلب مجالات الحياة كان لهذه الجهة المكية تميزها، وأصالتها وعراقتها. جبل قعيقعان أذكر في هذه البقعة (على سبيل المثال) منطقة جبل هندي (أو جبل قعيقعان) وتلك القلعة التركية التي كانت تتصدر إحدى قممه. تحولت هذه القلعة إلى مدرسة تحضير البعثات (أول مدرسة ثانوية في المملكة) ثم إلى دار لأول إذاعة سعودية (هنا مكةالمكرمة). ثم تحولت القلعة إلى مدرسة كبرى (مدرسة عرفات) إلى أن أزيلت تماما، ومهد الجبل الذي كانت عليه. وقامت في «الشامية» عدة دور للعلم، وتعددت فيها ال «كتاتيب» للبنين والبنات. كما نشأت أولى مدارس البنات النظامية في هذا الحي، سنة 1362ه. كنت أتشوق دائما لزيارة تلك المنطقة، ولو بمجرد المرور في أزقتها، كلما سنحت فرصة، أو سمحت الظروف بزيارة البيت العتيق. صحيح أنني والغالبية العظمى من أترابي، غادرنا هذه البقعة عند الثامنة عشرة تقريبا. ولكن هذه المنطقة لم تغادرنا، بل بقيت في القلوب... وعاشت في الضمائر والأخيلة. ولقد تطبعنا بأخلاقيات أهلها الأكارم، وتشبعنا بمعطياتها الثقافية والحضارية. منذ نهاية القرن الرابع عشر الهجري، هاجر معظم أهالي هذه المنطقة إلى الأحياء الجديدة التي نشأت في مكةالمكرمة، ابتداء من القرن الهجري الماضي، وإلى جدة (التي يقال إن أكثر من نصف سكان مكة القديمة قد استوطنوا بها) وإلى مناطق أخرى في البلاد. ومع كل ذلك، تبقى الصور، وتظل الذكريات، ثمينة وعزيزة، لدى هؤلاء ... لأنها تمثل مرحلة عمرية لهم أو لآبائهم وأجدادهم. مقصد نبيل في شهر ربيع الأول من عام 1429ه (2008م) بدأ العمل على إزالة كامل هذه المنطقة، ومحوها من الوجود. ولكن، ما يعزي أهلها ومحبيها أنها أزيلت لغرض شريف، ومقصد نبيل... فيكفي أنها هدمت لصالح الحرم. زرت هذه المنطقة في شهر جمادى الثانية 1429ه، فهالني ما رأيت من دمار وأحجار وأتربة ... وكأن زلزالا (لا سمح الله) قد ضربها. ثم زرتها بعد ذلك بأشهر، فرأيت جبالها قد مهدت، وسهولها قد سويت. ثم زرتها أخيرا، يوم 5 / 7 / 1421ه، فرأيت المنطقة وقد أصبحت ساحة كبيرة تحيط في الحرم، وأمست تلك الحاضرة أثرا بعد عين. أشجان الشامية نعود للهدية التي أثارت كل هذه الشجون، والتي كانت عبارة عن: كتيب الدكتور عاصم حمدان، أشجان الشامية، صور أدبية لمكةالمكرمة فى العصر الحديث، الناشر: ملتقى الأحبة في مكةالمكرمة، الطبعة الثانية ، 1431ه، 2010م. يقع الكتيب في 62 صفحة فقط (من القطع الصغير) منها عشر صفحات خصصت لصور...؟! صدر الكتيب من قبل عبد الحميد محمد كاتب. وقدم من قبل محمد عمر العمودي ... تبع ذلك تقديم للمؤلف. وفى نهايته حظي ب «تقريظ» من قبل كل من: محمد صادق دياب، والدكتور راكان عبد الكريم حبيب. استغرق التقريظ والتقديم والصور عشرين صفحة. أما بقية الصفحات (عددها 40 صفحة فقط) فقد خصصت ك «صور أدبية» عن حي الشامية، بصفة خاصة، وعن مكةالمكرمة، بصفة عامة. وقد علمت إن ما ورد فى هذه الصفحات الأربعين هو عبارة عن سبعة عشر مقالا، سبق للمؤلف أن نشرها تباعا، في هيئة مقالات صحافية، في صحيفة المدينة. وخلصت إلى أن هذه الصور هي عبارة عن مشاعر شجية، تنم عن محبة ووفاء وشفافية كاتبها، ولكنها بالقطع ليست عن حارة «الشامية». ضعف وغموض أقرأ أحيانا للزميل الدكتور عاصم حمدان، وأتابع بعضا مما يكتب من مقالات رصينة ومفيدة، تذخر بالوطنية والغيرة الدينية المحمودة. لذلك، كنت أتوقع أن أجد في هذا الكتيب مادة شيقة عن مكان أثير على كل من عاش فيه يوما. ولكنني بصراحة صدمت من ضعف وغموض محتوى الكتيب المتجسد في الصفحات الأربعين... ؟! قرأت محتوى هذه الصفحات، فلم أفهم كثيرا مما تهدف إليه، وما تحمله من مغاز، أو معان.... حتى ظننت أن هناك أخطاء مطبعية (ربما) لم تجعل لما أقرأ معنى يعتد به. وبت أعتقد أن هذا الانطباع سيكون غالبا لدى كل من يقدر له أن يقرأ هذه الصفحات... التي أعتقد أنها لا تحمل مضمونا محددا متكاملا، ولا تقدم معلومة شيقة. بل هي في رأيي عبارة عن: مشاعر اخوانية وودية... تكيل المديح لبعض الأشخاص... ولا تقدم تسجيلا سوسيولوجيا موجزا، ولا حتى أدبيا، لأحد أهم أحياء العاصمة المقدسة مكةالمكرمة، وخلال مرحلة مفصلية في تاريخ مدينة مكةالمكرمة. كنت أتوقع (وأتمنى) أن تحتوي تلك الصفحات القليلة على تسجيل انطباعي أدبي موجز لذلك الحي وأهله، في العقدين الأخيرين من القرن الثالث عشر الهجري. وهي فترة جيل آبائنا الذين كانت لكل فئة منهم نوعية معينة (ومتميزة) من أساليب الحياة.. تتكون من قيم وسلوكيات معينة، أملتها عليهم ظروف حياتهم، قبل أن تمليها عليهم شخصياتهم الطيبة عموما. فأهالي الشامية لم يكونوا سوى بشر، فيهم الخير والعالم والتقى، وفيهم ما دون ذلك. ولكنني خرجت من قراءة تلك الصفحات بانطباع مغاير. أبو النجا كنت أتوقع أن أجد معلومات عن أهم الأحداث والأسر التي سكنت الشامية، ومنها: آل أبو النجا (بفروعهم الثلاثة) وهذه أكبر العائلات في الشامية، ومنها أتى «عمد» الحارة السابقين، كذلك كل من آل: كمال وجمال والزواوي ومحجوب وعجيمى والالفي والمرزوقي وقطان والياس وداغستاني ومدير ومرداد وسلامة وزقزوق، وغيرهم. لكن تلك «الصور» الأدبية تمحورت حول أشخاص بعينهم فقط، وباسم «الشامية». وحتى ذلك، كان عبارة عن ومضات لا تكسب القارئ معرفة جديدة، أو إضافية، عن هذا الحي العريق جدا. نعم، أن العمدة عبدالله بصنوى (يرحمه الله) كان والدا حانيا لصغيرنا، وأخا ناصحا لنظرائه ومن هم في سنه، وشخصا يجمع كل أهل الحارة على توقيره ومحبته. لهذا امتدت «عموديته» لأكثر من أربعة عقود. وأصر أهالي الحارة على تولى ابنه أحمد من بعده «العمودية»، قبل أن تختفي حارتهم من الوجود، إلى الأبد كما يبدو. وكان حريا بالكاتب أن يخصص كتابه عن هذه الشخصية الفذة، دون أن يقحم الحي في هذا الحديث الذي جاء أغلبه عن عمدة الشامية الشهير. وإذا كان الكتاب يقرأ من عنوانه، فان عنوان ذلك الكتيب (أشجان الشامية) كان يجب أن لا يكون كما ظهر. فالعنوان الأدق (في رأيي) كان يجب أن يكون: أشجان... ليست عن حارة الشامية، أو ما شابه ذلك. التذوق الثقافي ولكي تتضح رؤيتي هذه للقارئ والناقد أكثر، لا بد له أن يقرأ تلك الصفحات، من منطلق النقد، والتذوق الثقافي والأدبي. ولولا ضيق الحيز، لأوردت بعض الفقرات التي جاءت في الكتيب، والتي لم أفهم ما تعنيه. ربما أكون مخطئا، أو جاهلا بالقراءة الأدبية والعلمية، لا أدري ... ولكن اهتمامي بهذا الأمر ناتج من أسباب وجيهة (فيما أعتقد) لعل أبرزها (كما قلت) أهمية موضوعها (المكان) بالنسبة لي ولآلاف غيري، وأهمية كاتبها. لذلك، كم أتمنى من النقاد المتخصصين، أن يتحفونا برأيهم في هذا الموضوع. كما أتقدم بالشكر والتقدير للزميل الدكتور عاصم حمدان، على ما يقدمه للمكتبة السعودية، من حين لآخر، من كتابات أدبية وتاريخية متميزة، وأغتنم هذه الفرصة لأتمنى عليه أن يكتب لقرائه المزيد عن شخصيات مكةالمكرمة، وغيرها. وكذلك عن حي الشامية الذي عاش فيه ردحا من الزمن، وبادله حبا بحب ووفاء بوفاء. فهذه المنطقة تستحق أن تبذل في سبيلها الجهود، لتبقى حية في ذاكرة الأجيال القادمة؛ لأنها تمثل تاريخ بعض منهم. ختاما، أقول: أعتقد أن ما قلته عن محتوى الصفحات المذكورة، صواب ... يحتمل الخطأ. أو هو عبارة عن: اختلاف في الرأي، الذي أؤكد (من جانبي) أنه لا يفسد للود، الذي أكنه للمؤلف، قضية.