في العالم العربي يصبح المغمور مشهورا بعد وفاته، خصوصا في دنيا الأدب، والمسألة نفسها كانت حاضرة في أوروبا القرون الوسطى، ولكنها انتهت تقريبا في هذه الأيام، ويختلف الأمر مع السياسي العربي فهو «محفول مكفول» حيا وميتا، وخصوصا إذا كان بارزا ومعروفا، وكتابات التعزية العربية ليس لها شكل ثابت، وقد تختصر في إعلان أو في مقال أو مجموعة مقالات أو ملحق صحافي، وغالبا ما تتجاوز التفاصيل الجارحة والمستفزة وتعرض لأفكارها بطريقة مؤدبة وملتزمة، ولا يمكن بأي حال الاعتماد عليها كمصدر محايد، ويجوز أحيانا استثناء الممارسات الموجودة في الإصدارات الأدبية المهتمة بتكريم الرواد، أو تلك المشغولة بالكلام عن مشاهير المتوفين، وهذه موضة جديدة لم تظهر إلا في السنوات الأخيرة وأعتقد أنها مستوردة. ما ذكر سابقا لا يشبه كتابات التعازي في الصحافة الغربية، والسبب أنها تخصص صفحات شبه ثابتة لمشاهير المتوفين، وفيها يكون تناول المحطات المهمة في حياتهم وإنجازاتهم وربما ظروف وفاتهم، وأقول ربما لأن الوفاة قد تحدث نتيجة لعملية انتحار أو انحراف جنسي أو تعاطي جرعة زائدة من مخدر وهكذا، وأهل الصحافة في المجتمعات الغربية يلعبون على الصياغة وأسلوب العرض، في نشر التفاصيل المحرجة للوفيات غير الطبيعية، ويبررون التصرف باحترام الذوق العام وعائلة ومعارف المتوفى، والدليل ما جاء في كتاب هيو ماسينغبيرد عن ترجمات النعي (2001) والإصدار يحوي مائة ترجمة أعدها ونشرت في جريدة «ديلي تيلغراف» في الفترة مابين عامي 1987 و1999، والمؤلف لم يتوقف عند سبب الوفاة إلا في تسع منها. هذا لا يعني بالتأكيد أن الصحافة البريطانية تتكتم وتجامل رموزها أو شخصياتها المشهورة، ولكنها ببساطة تفرق بين الخبر ومادة التعزية، وعلى سبيل المثال، نشرت التايمز في خبرها الصادر يوم 13 يونيو 2003، أن البروفسور نايل ويليامز، الفيزيائي والسياسي البريطاني، توفي بنوبة قلبية في غرفة «مساج» أو تدليك في كاردف، وأن الوفاة كانت بعد مغادرته للمنزل، وإخبار زوجته أنه ذاهب إلى الجامعة لمقابلة زملائه الأكاديميين، ومن ثم تعرضه في مساء ذلك اليوم، إلى أزمة قلبية قضت عليه، وقالت التايمز بأن الشرطة تستجوب امرأة عمرها 18 سنة، تعمل في محل المساج ولها علاقة بالحادث، وكما يتضح فالخبر يجرح في سمعة المتوفى، ويضاعف من محنة عائلته وأقاربه، أما السيرة أو الترجمة المنشورة في نفس اليوم والجريدة، فقد كانت لطيفة ومحايدة في عبارتها وعرضها، وذكرت بأنه مات دون مناقشة أو توضيح، واكتفت بسرد إنجازاته. في المقابل لا تقتنع بعض الصحافة الأمريكية بالوفاة الطبيعية، إلا إذا كان المتوفى أكبر من 90 سنة، ولو أن المذكور لم يمنع جريدة «لوس أنجليس تايمز» من التشكيك في موضوع العمر، عندما توفي الشاعر الأمريكي هنري فورد وهو في الرابعة والتسعين، وعموما إذا كانت أسباب الوفاة مجهولة أو غير واضحة، فإن «لوس أنجليس تايمز» تذكر أنها لم تتوفر أو تعلن، والصيغة السابقة استخدمت في وفاة السباحة جيرترودي ايدرلي، أول امراة تعبر القنال الإنجليزي سباحة، وتوفيت وعمرها 98 سنة، والمتوفى الصغير نسبيا، يجبر الجريدة على توضيح أسباب وفاته، بلباقة ودبلوماسية، لأن ما جرى له يتعارض ومنطق الأشياء، وعمره الافتراضي المتوقع، بإذن الله، ومن الأمثلة أن جريدة «الأندبندنت» كتبت في مادتها عن الشاعر ريتشارد بيرنز الذي مات منتحرا، أنه أوقف حياته بيده، قبل يوم واحد من عيد ميلاده الرابع والثلاثين، واستعانت جريدة الغارديان بعبارة «وجد ميتا» كإشارة لانتحار مايكل اوين، دون تصريح، وكتبت الجريدة في الترجمة، أنه كان محررا فنيا في جريدة «ايفنينغ ستاندارد» ووجها محبوبا وحاضرا في مسارح «الوست اند» طوال ثلاثين عاما، وحصل على جوائز فنية وشهرة واسعة، قبل الاستغناء عن خدماته في سنة 1998، وشعوره بأن الزمن قد تجاوزه، وأكملت بأنه «وجد ميتا» في غرفته داخل فندق في شيفلد. أيضا الوفاة لأسباب جنسية يتم التعامل معها بحذر في الصحافة البريطانية، وتلمح الصحافة إلى دور الجنس بالإحالة على العلاقات الجسدية الشاذة، والمواقف الشخصية الغريبة، أو الأمراض كالأيدز، أو كتابة عبارات مموهة ومختصرة تساعد القارئ على معرفة السبب لوحده. بعد 11 سبتمبر دخل الناس العاديون إلى الترجمات، ولم تعد موقوفة على المشاهير، والتقليد بدأته عالميا، جريدة «نيويورك تايمز» في عددها الصادر يوم 15 سبتمبر 2001، ولحقت بها الصحافة الأسترالية والبريطانية في أكتوبر 2002، في ردة فعلها على التفجير الإرهابي في «بالي» بإندونيسيا، واهتمت الصحف الثلاث بما يميز شخصيات الضحايا كالسن أو العمل البطولي أو الجانب الاجتماعي والإنساني، بل وأفردت جريدة التايمز البريطانية في تغطياتها عن تفجيرات النقل العام في لندن يوم 7 يوليو 2005، مساحات تناولت فيها سير حياة 52 ضحية، وإجمالي الضحايا 56، والأربعة المستثنون هم الانتحاريون، ولا أنسى البرازيلي الذي اشتبهت فيه الشرطة البريطانية خطأ وقتلته بعد أسبوعين من التفجيرات. الثابت أن ترجمات المتوفين في العالم العربي امتياز نخبوي ولا يحكمها ضابط، أو في بعض الحالات مناسبة للوجاهة واستعراض العلاقات الاجتماعية، وفرصة للتسلق الرخيص حتى على أكتاف الموتى، ولن يستطيع منصف أن يتكئ عليها كشهادة تاريخية، إلا إذا كان هذا المنصف يبحث عن دور أو مصلحة..! binsaudb@ yahoo.com للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 107 مسافة ثم الرسالة