في اعتقادي، أن ضربة البداية هي المأزق الحقيقي في معانقة أي نص أدبي، فحينما أهم بمقاربة نص إبداعي، أجد ذاتي مشتتة بين إقبال وإدبار لاسيما تلك النصوص الوجدانية التي تحلق بنا في سماء الخصوصية النفسية التي تفرضها طقوس معينة لدى الشاعر فتولد في رحم معاناة الذات قسرا، لتقودنا صوب أفق جديد من البحث عن النهايات، ولعل مبررات ذلك أحيانا السعي نحو تقليل الشعور بالاغتراب، وإضفاء نوع من المشاركة الوجدانية بين بشر لا رابط بينهم سوى التواجد المحكوم بعنصر المصادفة بين كائنات بشرية مختلفة المشارب، وهذا ما دفعني إلى ملامسة نص «صوت المصير» للشاعر المتألق عبد الله الطفيلي، والتقاطع مع نداء الشاعر الخافت والكامن في قاع الذات الإنسانية. فهو نص جميل، فيه عذوبة وصدق، وإيقاع تميل إليه النفس، لأنه يقودها صوب التأمل عندما تتعطل بوصلة المصير، ويظل الحد الفاصل بين الوهم والحقيقة شعرة رهيفة لا نكاد نبصرها ؟، لذا يجترنا عبد الله الطفيلي بلغته وعلى طريقة السهل الممتنع صوب علاقة متشابكة متناقضة، تقترب لتبتعد، تتماس مع الشعور الداخلي فينا، ولكنها تصمت عن ترجمة كل أبعاد المعاناة، لنقف على عتبة مدخل النص الذي عمد فيه الشاعر إلى المونولوج الباطني، وهو أحد أنواع السرد الأدبي القائم على المناجاة التي تقودنا إلى التوقف مع التساؤل الاستهلالي المثير الذي يقحمنا فيه الشاعر دائرة الانخطاف والرغبة العارمة في الانجذاب صوبها، وذلك بتكراره التساؤل «إلى متى» لإثبات غياب خارطة الوصول صوب مصير حتمي في ظل معطيات المعاناة المثيرة. إلى متى وأنا شعور إنسان مجهول المصير وتحدني اللوعات من كل الجهات الأربعة إلى متى جمر انتظاري يشعل بقلبي سعير والحظ جاثم والوجود يعيش خلف الأقنعة ولعل لتلك الحالة المأساوية، التي يتقلب فيها الشاعر على جمر الانتظار في ظل جثوم الحظ وحالة الثبات المحاطة بزيف من الأقنعة تقود الشاعر نحو إعادة بعثرة أوراق الماضي من خلال استعراض سنوات العمر التي لامست سقف الثلاثين في محاولة منه لاكتشاف الملامح، والعلاقات، وإدراك حجم الأزمة التي يمر بها، وكأنما ينبئ المتلقي عن حالة الضياع التي أجهدته، كي يلتمس الآخرون له العذر، مضمنا تجربته تلك المدة الزمنية التي لم تكن كفيلة برسم ملامح المصير المنتظر، فالعقدين الأولين لم يكونا أقل ضياعا من الثلث الأخير، فسواد الليل يأبى الانجلاء، وإن قارب على ذلك عاش الشاعر حالة التلازم غير الإرادي، لذا كانت «الطموحات» كالأحلام الوردية التي عادة ما تكون في مستهل الدروب، وهذا ما يجعل المصير مترنحا على شرفة الخطر لا يمكن لصوت مبحوح ذابل إنقاذه وإيقاظه، بعد المبالغة والإسراف في سهر المعاناة. «عقدين» مرت من حياتي كنها الثلث الأخير من ليلي اللي كل ما لوح بمسراه اتبعه في مستهل دروبها كانت طموحاتي كثير وأحلامي أزهى من مساءات القمر في مطلعه وأسرفت في طول السهر وأشرفت للوضع الخطير حتى صدى صوتي ذبل ما عاد كل يسمعه وعندما أفل نجم التفاؤل، تلمس الشاعر مضمون الرحلة، وتوقع المصير الذي لم يستطع بعد كشف ملامحه، ولكنه فضل الاستسلام والخضوع لتلك التساؤلات والبوح والاعتراف المطلق بحزمة من القرائن الحسية التي تثبت انكساره، فبعد حالة الملازمة مع الليل البهيم ركن إلى الانفلات من عقد الأماني مع بزوغ صبح غير كل الصباحات، بعث الشاعر فيه روح التجسيد والحركة من خلال أفعال «استيقظ، يرسم، يلملم، يقرأ»، وكأنما جاء ذلك الصباح مشيعا للحالة البائسة التي لا يجدي معها التطبيب في ظل تزاحم الجروح التي صورها الشاعر في مفردات غارقة في الوجع والبؤس «الصبح الكسير، بقايا الأمتعة، البخت الفقير، ضربة موجعة»، كل منها كفيل بكشف ملامح ذلك الخافق المثخن بالجراح. كل الأماني سافرت واستيقظ الصبح الكسير يرسم على وجه الورق صور بقايا الأمتعة وبدأ يلملم قصتي في مركب البخت الفقير ويقرا ملامح خافقي كم فيه ضربة موجعة وبعد كل تلك الحالة الوجدانية، ليس بمستغرب أن يعود بنا الشاعر إلى نفس تساؤلاته في مطلع نصه وهو هائم الوجهة، بطيء الخطوة، وحزين العبرة لا يعرف للفرح الحقيقي كيان أو زمان، طالما الغائب الذي لا يحضر إلا في صورة فجائعية لا تسمن ولا تغني من شيء، في طمس كل فصول هذه الرحلة الحزينة التي معها وفيها تتضافر العبرات من شتى الجهات. إلى متى وأنا كذا في خطوتي مثل الأسير حتى الفرح لا زارني يحضر بصورة مفجعة وعلى نهاية رحلتي لا زلت مجهول المصير تخنقني العبرات من كل الجهات الأربعة عندما يقترن الشعر بصدق المعاناة، وتنصهر الصورة الخيالية في بوتقة المفردة الأدبية، يمكننا أن نشعر مع النص بلمعة خيالية تلامس أفئدتنا، وتلقي بنا على شواطئ المتعة الصافية، وهو عين ما يفعله الشاعر عبد الله الطفيلي، الذي يتألق نصه، وهو في مراحله الأخيرة، ودون أن يعلن عن خطاب ناجز، ورؤية متكاملة، فهو يفضل أن يقذف بنا في قلب القصيدة لنناوشها بما تيسر لنا من خبرة في الحياة، وتجربة مع اللغة، غير أنه وفي كل الأحوال، يصور لنا مشاعره وهما، فإذا بها كبد الحقيقة.