الأمير سعود بن عبد الله شاعر يمزج المطر بالعطر والجسد بالذكرى والحب بالروح، والشوق بالانتظار، يفجر النص الشعري بطاقة فنية إيحائية، ليجعلنا ننغمس في مكنوناته الفكرية والوجدانية والبنائية، فهو من الشعراء المثرين والمثمرين في النص الشعري، متميزاً طرحه الشعري بدقة ورقة العبارة وعمق المعنى وعذوبة الوصف، فالمتتبع لمنجزه الشعري يجده منجزا حافلا بالإبداع ومكتنزا بالوعي، معبراً عن آمالنا وأحلامنا، وذكرياتنا، محلقاً بأرواحنا وحنين مشاعرنا واشتعال آهاتنا، ووله قلوبنا، حيث نرتقي معه لأفقه الشعري الغني مبنى ومعنى ومغنى، فالمتمعن لتجربته الشعرية يجد أنه شاعر وجداني يمتلك حقولاً وبساتين باسقة وارفة في نصوصه إذا ما قورنت بأغراض الشعر الأخرى، ومن خلال تجربته الشعرية سنتعرف على ملامح ثقافته الواسعة وحدسه المتقد وفكره الودق، فنجده في الكثير من نصوصه يدفع بالدلالة الشعرية إلى أقصى احتمالاتها بغنى فني وتركيبي وبنائي، فلنتمعن في هذه الصور الشعرية التي استطاع أن يحرك من خلالها الذهن وتتراسل معها الحواس بلغة مكثفة وانزياحات دلالية مبتكرة بقالب شعري يعكس حميمة العلاقة بينه وبين المكان: في ديرتي قيضٍ سمومه مسرات ماكنّه الا من ظنا الشبط مسروق من حبها في قيضها لي ملذات قيضٍ نخيله سحب ومزونه عذوق بين السعف نورٍ تخالط بنسمات مثل الذهب تحيطه الشمس بشروق فنجد في هذا النص العديد من الصور الشعرية المكتظة بالألوان المتناسقة بأبعادها المتسقة وبرؤاها العميقة مثل: (ماكنه الا من ظنا الشبط مسروق) (قيض نخيله سحب ومزونه عذوق) (مثل الذهب تحيطه الشمس بشروق) فأصبح المكان بهذه الصور مناخاً إيحائياً متكاملاً، يقول أروين ادمان عن الصورة الشعرية.. (تعد ارتباطا بين مجموعة من الصور والرؤى والأفكار المندمجة في وحدة مفردة خلال حالة نفسية تربط بينهما). وهنا نجد أنه في الصور السابقة زادت قوة مخيلة الأمير سعود بالاستعارة والانزياحات اللغوية فزادت القيمة الإبداعية المفعمة بالديمومة والحيوية والجمال. وفي النص التالي نرى كيف استطاع الأمير سعود أن يرسم لنا صورا فنية حسية نفسية عبر صور جزئية وكلية منهمر ب»الأنا» وانكساراتها لخالقها: عبدك يا ربي ضعيف ويطلب التوبه ودمعه سجدلك قبل ما تسجد أنفاسه وقّف به رضاك وقت وحسب ذنوبه وصد وخجل من ذنوبه وانحنى راسه وسافر بحزنه بعيد وتاهت دروبه ونسى العمر والزمن حتى نسى ناسه وضاقت وسيعتك فيه وخاف مكتوبه إلى آخر النص الذي يفيض روحانية وخشوعاً وتلذذاً وتذللاً بمناجاة الخالق - عز وجل - فلنتأمل هذه اللوحات الشعرية في قوله: «ودمعه سجدلك قبل ما تسجد أنفاسه»، «وسافر بحزنه بعيد وتاهت دروبه»، «وضاقت وسيعتك فيه وخاف مكتوبه»، «والذنب مثل الحبر والوقت كراسه»، كذلك لو تأملنا في (ضعيف، يطلب، التوبه سجدلك، وقف، ذنوبه، صد، خجل، انحنى، سافر بحزنه بعيد/ وتاهت دروبه، ونسى العمر والزمن/ نسى ناسه وضاقت وسيعتك، وخاف مكتوبه) فنجد أن هذه الأفعال والصفات تزيد من وتيرة الصورة العامة للمشهد الشعري وتعمق الثيمة (التوبة) التي يرتكز عليها النص في البناء والتركيب ومثلما قال الأستاذ الشاعر خزعل الماجدي: (حياة الشعر، قوته واندفاعه، فكم سيبدو الشعر شاحباً هزيلاً، إذا افتقد إلى الصور، وكم ستبدو اللغة الشعرية ثرثرة إنشائية، لو لم تستفزنا بصورة قافزة نشطة نابهة). وفي الأبيات التالية نرى مقدرته الفنيةعلى رسم الصورة التي تذخر بطاقة الشعرية عالية: على جرد الورق للغيمة الزرقا مواري سيل نحته الليل في غفوة غياب الشمس والقمرا همى مزن المشاعر وارتوى منها الورق والليل وأنا مرّات يغريني سكون الليل والمسرا فهذه الصور الشعرية التي تشكل الطبيعة أحد مصادرها التي يمتح منها مفرداته ويشكل بها رؤيته (الغيمة، السيل، الليل، الشمس، القمر، مزن الورق) نجد أنها تؤسس ارتباطاً تركيبياً مع بنية النص الكلية، فأتت هذه الأبيات منهمرة بالعذوبة التي تعيد للروح نشوتها وللمشاعر دهشتها، كذلك هذا البيت المستمد مفرداته من الطبيعة الذي يتكئ على السرد الشعري ليصل لصورة سمعية وبصرية تتحرك معها بقية الحواس الأخرى: حبّه مثل شمس قالت للمسا يسري وحسنه شروقٍ نسى من طوله غروبه وفي نص آخر يجعل من «النور» ثيمة وقيمة بصرية للمقارنة بين الطبيعة والآخر: متى القمر والشمس والنجم والبرق تعزم جبينك يا صعيب المواجه وهنا أيضاً يجعل من الطبيعة معادلاً موضوعياً لذاته المكلومة ومتنفساً لهمومه وملاذاً لجروحه وصدى لبوحه، معيداً صياغتها بحسب ما يراه هو في عالمه الداخلي فنجده في النص التالي يخاطب (السحاب، البرد) مشخصاً الأول بالوصل والثاني بالشوق بصورة شعرية رائعة: جف المطر يا سحاب الوصل به وأقفى وعروق قلبي عليه من الأمل جفّت ما اختار هالديم غير القاع له ملفى وهو السحايب على شانه له اصطفت إلى أن يقول: يالبرد ما اشتقت لو لحظة بها تدفا ولا أشغلتك النجوم اللي بك انزفت فالأمير سعود له فلسفته الخاصة في اجتراح اللغة ورسم الصورة الشعرية للتعبير عن المعنى المراد إيصاله وتفريغ الشحنة الشعورية المتشظية مشاعر وأحاسيس برؤية تنم عن ثقافة عميقة وأفق فكري متسع: ترى كلي لك وصالٍ.. وصالٍ ما تعب كفه اخاف انام بعيونك.. ولا القى للشموس احبال فنرى كيف شخص «الوصال» كذلك أمكن العين في قوله «أخاف أنام بعيونك» ومن ثم هذه المفارقة التي فاجأ المتلقي بها عن طريق الانزياح (ولا القى للشموس احبال). وفي نص آخر يقول: السحاب وسكّة الفرقى تشابه في الرحيل وكل صيفٍ قد نسى كف وحبيب بلا وداع والله إني من كثر ما اركض وراك بلا دليل ضعت في ديرة غيابك مثل ما هالحلم ضاع فلنتأمل في (سكة الفرقى، وكل صيف قد نسى كف، ديرة غيابك). نجدها صورا تحمل أبعادا شعورية تنقلنا إلى فضاءات الوداع ومدارات الشوق بأفق مشحون بطاقات واحتمالات مشرقة مغدقة، ونواصل معه بين لحظات الانتظار ومحطات الترحال في ذهاب ينتظر بيادر الإياب: يمر البارح البارح.. سلامٍ ما بلغ شفّه الا يا كبره احساسٍ. حرام يموت ما ينقال ابشكي للورق بعضي وبعضي يرتجي عطفه الا يا مشغل أوراقي وقلبي ما كفاك البال فنجد أن الأمير سعود يجعل من بعد الآخر نواة أو ثيمة يظهر فيها انفعالاته وأفكاره معتمداً على الجملة الشعرية المكثفة لغوياً والمتشظية حسياً ودلالياً، ومن المعروف أن لكل شاعر مفردة ملازمة له يكررها في أغلب نصوصه، وفي كل نص نجد أن لتلك المفردة دلالة ورؤية جديدة، فنجد أن «الليل» هو البؤرة التي تشكل العديد من نصوص الأمير سعود، معبراً عنه برؤيته الخاصة ابتداءً بالعناوين التي يرى الناقد رولان بارت أن للعنوان وظيفة إغرائية إذ إنه يفتح شهية المتلقي للقراءة وكما نلاحظ تآزر عناوين النصوص مع الرؤية والرؤيا التي تم إيصالها مثل: (تحت الليل، ذلول الليل، ساري الليل، ما لليالي طعم، روح الليل، الليل توه، باب الليل، ليل الجفا، ليل الموادع). ومن النصوص الشعرية التي ورد بها (الليل) للأمير سعود في قوله: يا صاحبي لا يسرى الليل بدري خلك بوسط الدار لا تجرح الليل الليل توه وان تجليت يسري ولليل ناسٍ ما تمل التعاليل خلك على تجريح الاحباب حذري ما تدري ان الليل ستر المواصيل وفي نص آخر يقول عن الليل: يا مطول الليل الخواطر كثيره أتعبني الهوجاس وأتعبني الليل إلى أن يقول: الليل للعشاق دنيا كبيره والصبر خطوه في دروب المقابيل إذ إن الليل هو دنيا العشاق وفضاؤهم الذي يحتويهم، وهو مستودع أسرارهم وملتقى نبضاتهم ورصيف انتظاراتهم: ودّي أسامر هالليال أنا ووجهي والعتيم ومرايةٍ قد شاب فيها الف وجه من الزمان إذ إن مناجاة الليل معادلاً موضوعياً للآخر الذي فقده، وصدى للذات التي أنهكته: ليل الجفا ولا تباريح الآهات ولا الجروح المبطيه عاودتني وفي نص آخر يقول عن الليل: السهر عاشق نساه الليل في حكاية عشيق ويومٍ وقّضه النهار قال تكفى ردّني إذ نجد أن في منجزه الشعري السابق استطاع أن يجعل الليل هو البؤرة التي يمرر إسقاطاته الذاتية عبر الانحراف اللغوي وبقدرة بالغة التأثير والتأثر، حيث إنه من خلال تلك الصور الذاتية يضفي على ديناميكية المشهد الشعري بعداً جمالياً وفنياً أخاذاً، وفي نص آخر يقول: أطيّر لك حمام البال وافقد كل ليله سرب يمسّيه الورق في حضنه الدافي ويدفابه شعوري لو نثرته للهبايب كل جرحٍ هبّ وعنّيت الهوى واهل الهوى والحب متشابه لاحظنا في الأبيات السابقة مدى قوة العاطفة وسيطرة الوجدان والتهاب المشاعر وتدفق الأحاسيس، إذ إن العاطفة هي الشعلة التي تفجر في عالم الشاعر ما كمن وتحرك ما سكن كما قال عنها أحمد الشايب (هي الانفعال النفسي المصاحب للنص). بعكس الفكرة التي هي شيء عقلي، فنجد أن وتيرة النص وتموجاته موزعة بين (الأنا) و(الآخر) وتحديداً في بداية النص عندما يقول: أموت بنظرةٍ منك وينبت في دروبي عشب إلا منه شربني صوتك الفتان واحيابه فأتت الكلمات متدفقة بكل هدوء وسلاسة، منتقياً مفرداته الشعرية بكل عناية ودقة، منسجماً بتراكيبه بتناغم تام بين الفكرة والمعنى، لذا تشكلت الصور الشعرية بألوان هادئة تتوافق مع الإطار العام للرؤية، كما في هذا النص المتأجج بالعاطفة والمتقد بالشوق: كل الأماكن تنتظر في غيابك وكل الدروب اللي تحب سألوني إلى أن يقول: واصعب سؤالٍ ما درى عن جوابك يسكب خيوط الفجر داخل جفوني كل الكلام اللي بقلبي هلا بك تهزّ لك جذع المسافه شجوني وفي النص التالي نجده يستثمر تقنية الفلاش باك عبر استرجاعه للماضي، جاعلا من ذاكرته الوجدانية نزفاً وعزفاً لمشاعره المسترسلة في أطراف اللاوعي، وحدود الحلم، محيلاً إلى تضاد معنوي بين (ذكرتك/ نسيتك) فالذاكرة هنا لا تصدأ ولا تنسى معلقة في سماء روح أنهكها البوح لواقع مجروح، تاركاً لنا بعض ملامح تجربته الشعرية الغنية بتفاصيلها ومحاصيلها، من مفارقات وإيحاءات جميلة: ألا يالزاهر العطشان وش خلّى الحكي بارد عساه من البراد اللي بصدر الليل وأطرافه حبيبي لو وجيه الخلق مثل جروحها تارد تشوف الناس غير الناس جروح القلب خوّافه ذكرتك ما بقى في البال طيفٍ للهوى شارد نسيتك ما نسيت الحب في الخفّاق وإسرافه وفي نص آخر يقول: هجّي ضلوعك للسوالف وأحاكيك قولي وردتك واشربي من عروقي نزف الشعور اللي في بعدك يناجيك يا ضاميه من صادق الود ذوقي حدّر من المنشا سحابٍ يروّيك سيله وهتانه غرامي وشوقي يروي بها الظامي ويذكر لياليك مثل النخيل اللي تصبّ العذوقي نجده يتكئ في الابيات السابقة على فعل الأمر لتحريك الصورة الشعرية عبر حاسة السمع والذوق بمشهد شعري مترابط شكلاً ومضموناً، أسلوباً وموضوعاً، مازجاً الداخل بالخارج بنسيج لغوي محكم الحياكة، وبلغة مكثفة تزيد تعميق دلالاتها ووظائفها. الصيف يحرق بحرارته أنفاس الراحلين ويلهب قلوب المودعين، وفي هذه الصورة الحركية التي تتكئ على الزمكانية في أبعادها، معبراً عن خلجاته من خلال رؤاه ودلالاته وإيماءاتها التي تركها لنا في هذا النص. السحاب وسكة الفرقى تشابه في الرحيل وكل صيف قد نسى كف وحبيب بلا وداع والله إني من كثر ما أركض وراك بلا دليل ضعت في ديرة غيابك مثل ما هالحلم ضاع وفي النص التالي نجده يستثمر طاقة التساؤل كمعادل موضوعي عن ذاته المكلومة، وواقعه المشحون ورؤيته الخاصة للعالم الداخلي الذي يرى نفسه من خلاله: سألت الفجر عن لون الغياب ورحلة التابوت من دموع السحاب الفجر يجمع باقي أحزانه سألته ليه وانت الفجر تبكي لونك الياقوت وانت اللي يسمونك لقا وأحلام هيمانه وجاوبني سكون الفجر ودمعه صار فيه الصوت أنا موتي تعرفونه غروب الشمس عنوانه فنجد من خلال هذا المنجز الشعري أنه تم بناء الجمل والتراكيب بشكل جميل لا تعقيد فيه ولا عسف يشتت ذهن المتلقي أو يقفز على تسلسل الفكرة ونسيجها بتلاحم في الوحدة العضوية وفق شبكة دلالية جميلة تكتظ بالصور والتراكيب المحكمة تشكيلاً وتجسيداً، كذلك في هذا النص الذي شكل من اللزمة التكرارية (كيف) ابتداءً من العنوان وانتهاء بتكرارها ست مرات من أول النص وآخر بيتين فيه، كتأكيد على الحالة الشعورية التي يمر بها وتعميقاً للرؤيا الشعرية التي عبر عنها واقتطف من هذا النص قوله: كيف يسهر نهار وقلب ما يسهر كيف طاح الحكي في راحة يديها كيف ناديتها والصوت ما يظهر كيف أنا شفتها من قبل ألاقيها كذلك في نص آخر جعل من التساؤل قيمة فنية وشعورية تزيد من قوة هذه الصورة السمعية: وين صوتك وين صوتك ليه ما تعتق سكوتك مدّ لي من هالكلام حبال وبيوت وليال