هناك حالة من خمس ، يكون عليها الحاكم في أي بلد .. وعلى المحلل السياسي أن يسبر غورها حتى ينجح في الوقوف على الحالة التي تتوافق مع سلوك الحاكم قيد التقويم : الأولى : الحاكم المخلص لبلده ومبادئه .. لكنه لا يصلح للحكم ، لعدم توافر المقومات الأساسية التي تمكنه من الحكم بنجاح .
الثانية : الحاكم المخلص والصالح .. لكن ثمة معوقات شرسة تحول دون تحقيق الإصلاحات المنشودة بالسرعة التي تتطلبها الأوضاع السائدة في البلد ، ويتمناها المواطنون .
الثالثة : الحاكم الذي يُلقي بوعود وردية ، لكنه يماطل في الوفاء بما وعد لسبب أو لآخر ..
الرابعة : حاكم مخلص .. لكنه متسلط يجنح دائما لاستخدام القوة حتى لو كانت مفرطة ، لفرض ما يراه على المواطنين.
الخامسة: الحاكم الصالح يستطيع حكم البلاد وفق ما تقتضيه مصلحة الوطن والمواطنين.
وحتى نستطيع تحديد الحالة التي تنطبق على الرئيس بشار ، لا بد أن ننحي جانباً عواطفنا نحوه ، سواء بحسن الظن به أو الشك في توجهاته.
ليس من شك أن مواقف هذا الرجل القومية من القضايا العربية ، ودعمه الثابت للاتجاه المقاوم ضد إسرائيل وامريكا وحلفائهما في المنطقة ، تدعو المراقب السياسي لحسن الظن به . لكن هذا لا يعني غض النظر عن الالتزام بالموضوعية في تقويم أدائه كرئيس لسوريا أولاً ، وكزعيم عربي يلتزم بالثوابت القومية لأمته ثانيا .
فهناك- في المقابل- من يرد على خيار حسن الظن ، بالمثل القائل : "الظن من حسن الفطن" . غير أن الأخذ بهذا المثل لا يلغي- بالضرورة- الخيار القائم على حسن النية ، إذا ما التزم صاحبه بالموضوعية في تقويم الأمور.
وفي كلا الحالين ، لا بد من استعراض الظروف التي سادت الفترة التي تولى فيها الرئيس بشار حكم سوريا ، وتقويم تأثيرها (سلباً أو إيجاباً) على الإصلاحات التي وعد بها في بداية عهدة قبل نحو أحد عشر عاما ويتهم الآن بعدم الوفاء بتنفيذها. ولعل من أظهر تلك الظروف :
أولاً- الرجل ورث نظاماً عن والده ، أقل ما يقال فيه أنه لا يعترف بحرية "الرأي والرأي الآخر" . ومع ذلك فليس من العدل في شيء أن يُحمَّل الرئيس بشار مساوئ النظام الذي عاشته سوريا خلال الفترة التي سبقت حكمه ، بدعوى أن والده الراحل حافظ الأسد ، هو الذي أسس هذا النظام ، وهو الذي اعتمد الخيار الأمني منهجاً للمحافظة عليه .
ثانياً- صحيح أن الرجل جاء بشعار التغيير والإصلاح حين اعتلى سدة الحكم ، وقد يكون صحيحاً ما يقال عن أن ما حققه لم يكن بالمستوى الذي كان يأمله المواطن السوري .. لكن ليس من العدل القول بأنه لم يحقق شيئاً من الإصلاحات التي وعد بها (بالإطلاق) .. وهذا ما لا ينكره السوريون أنفسهم .
كما من غير المنطقي القول بأن البطء في تنفيذ الإصلاحات التي وعد بها هو نتيجة تنكره لها ما لم تتوافر الأدلة التي تثبت ذلك .. وإلا اعتبر هذا القول من قبيل الظن السيء و (المسبق) بالرجل وبعدم صلاحيته للحكم ، الأمر الذي يجعل أي تقويم يجري- في هذا السياق- غير عادل ولا يُعتد به.
ففي المقابل ، هناك من يستطيع القول بأن كثرة المعوقات التي واجهت الرئيس بشار وشراستها ، هي التي حالت دون تحقيق الإصلاحات التي وعد بها .
ثالثاً- ليس من شك أن الشعب السوري- شأنه شأن الشعوب العربية- يدرك أن أي رئيس دولة يريد بسط هيمنته على الشعب ، والتفرد باتخاذ القرارات الخاصة به دون استشارة مختلف أطيافه السياسية والمذهبية والطائفية والإثنية ، يلجأ أولا وقبل كل شيء للخيار الأمني ، الذي يعتمد القوة كوسيلة رئيسة للحفاظ على النظام وضمان خضوع المواطنين لأوامره .
وحتى يتحقق له ذلك ، يلجأ الرئيس- عادةً- لأهل الثقة وليس لأهل الخبرة ، كي يساعدوه في بسط نفوذه على الشعب وتقوية دعائم نظامه . وبالتالي لا بد أن يجد هذا الحاكم نفسه- جبراً أو طواعية- أسير ولاء هؤلاء له ، ما يدفعه للإغداق عليهم بالمناصب والنفوذ والمال والميزات والصلاحيات الاستثنائي التي تُمكِّن (ضعاف النفوس منهم) من ارتكاب جرائم بحق الوطن والمواطنين .
وحين يتجذَّر وجود هؤلاء في دهاليز الحكم ، ويصبحون الدعامة الرئيسة للنظام .. يصبح من العسير على أي حاكم يريد الإصلاح أن يتمكن من تحقيق إصلاحاته بالسهولة والسرعة التي عادة ما يطالب بها المواطنون ، وبخاصة إذا ما كانت نسبة كبيرة منهم يعيشون في حالة فقر مدقع ، ويشعرون بعدم الأمن والأمان بالنسبة لحاضرهم ومستقبلهم .
رابعاً- حين اشتعلت التظاهرات الشعبية التي تنادي بإسقاط النظم الحاكمة في عدد من الدول العربية ، ردد المسئولون السوريون أكثر من مرة ، أن الوضع في سوريا يختلف عنه في تلك الدول ، وأن من المستبعد تماما قيام تظاهرات من هذا القبيل ، بدعوى أن السياسة الخارجية التي سار عليها النظام- سواء في عهد بشار أو عهد والده- حققت لسوريا مكانة رفيعة على المستويين الإقليمي والدولي ، الأمر الذي فسر على أنه ضمان لولاء الشعب السوري للنظام .
ولعل هذا القول قد يكون من الوسائل الإعلامية غير الموفقة التي استخدمها هؤلاء المسئولين للحد من إمكانية تعرض سوريا لمظاهرات احتجاج كالتي تجتاح بعض البلدان العربية . وقد تنطوى تلك التصريحات على عدم إدراك كاف لأسباب انفجار شعوب المنطقة في وجهة الأنظمة الحاكمة التي أثبتت فشلها المروع في التصدي للمشكلات التي واجهتها وتواجهها الشعوب العربية .
خامساً- حين تولى الرئيس بشار الحكم ، كانت سوريا محط أنظار أمريكا والدول الأوروبية ، ليس لكسب صداقتها وإنما لتدميرها ، لأنها تمثل- في نظر الغرب- حائط الصد الذي يقف أمام محاولاته فرض السلام على المنطقة العربية وفق الأجندة الصهيوغربية ، التي تضع في قمة أولوياتها تخلي سوريا عن موقفها في التمسك بالثوابت القومية للأمة العربية .
والرئيس بشار- شأنه شأن كل من تولى قيادة سوريا- حافظ على هذه الثوابت في ظروف قاسية ، كان الجميع يراهنون خلالها على سقوط نظامه لصالح دعاة ما يسمى بمحور الاعتدال ، الذي حاولت أمريكا والدول الغربية فرض توجهاته السياسية في معالجة قضايا المنطقة ، مقابل خيار المقاومة الذي انتهجته سوريا .
سادساً- وقد زاد العداء الغربي للنظام السوري في عهد الرئيس بشار، حين تأكد لهم دعمه اللامحدود لحزب الله اللبناني الذي تعتبره إسرائيل وحلفاؤها الخطر الرئيس ، ليس على وجود إسرائيل وأمنها فقط ، وإنما على المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة أيضاً . كما كان اشتراكه في تشكيل محور المقاومة في المنطقة ، يمثل قمة المواقف المعادية للمشروع الأمريكي في المنطقة والذي تحطم على صخرة المقاومة اللبنانية في الحرب التي شنتها إسرائيل على لبنان عام 2006.
وبرغم العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الدول الغربية ضد النظام السوري في عهد الرئيس بشار ، وبرغم محاولة عزله (النظام السوري) على المستويين الإقليمي والدولي ، غير أنه نجح في كسر ذلك الحصار ، لدرجة أن الدول الغربية وحتى أمريكا ، بدأت تتسابق لكسب ود سوريا بعد أن تولى الرئيس الأمريكي أوباما الحكم ، وبعد أن اتضح لأمريكا عقم الإجراءات العقابية التي أتخذتها ضد النظام السوري . وليس من شك أن هذا الأمر يحتسب لسياسة سوريا الخارجية وللرئيس بشار .
سابعاً- ليس لدى الذين يدَّعون أن الاقتصاد السوري ، لم يعد قادراً على توفير الحد الأدني من مستوى المعيشة الذي يؤمن لقطاع لا يستهان به من المواطن السوريين حياة كريمة .. نقول ليس لدى هؤلاء من الدلائل الموضوعية ، ما يثبت صحة ادعاءاتهم تلك . بل لم نسمع بعد (وبأصوات عالية) أن تحسين مستوى المعيشة هو الدافع الرئيس لتظاهر المحتجين على النظام .
ثامنا- أما الخطأ الفادح الذي يمكن أن يحتسب على الرئيس بشار ، عدم الإقدام على الإصلاحات التي وعد بها ، وبخاصة السياسية منها ، والتي أصبحت المطلب الرئيس ليس للمتظاهرين فقط ، وإنما لكل الشعب السوري . ولعل من أهم تلك الإصلاحات :
- إحلال الديمقراطية الحقة بدلاً من النظام البوليسي السائد الذي يعتمد أسلوب القمع في التعامل مع المواطنين . والديمقراطية التي نعنيها تشمل حرية الرأي والاعتقاد وتقبل الرأي الآخر ، كما تقوم على التعددية الحزبية التي تؤمن للشعب حرية اختيار ممثليه كحق دستوري لا يستطيع الحاكم أن ينال منه .
- إعداد دستور دائم للبلاد ينص على سيادة الديمقراطية الحقة في البلاد ، على أن يقوم بإعداده لجنة تضم نخبة من المتخصصين في الشئون التشريعية ، كما يقوم على دراسة كافية بالكيفية التي يتم بها ترجمة هذه البنود ، لقوانين تنفيذية ولوائح تفسيرية من شأنها تأمين سلامة تطبيق تلك القوانين نصاً وروحاً .
- إلغاء تفرد الحزب الواحد على الساحة السياسية في البلاد ، وإفساح المجال للتعددية الحزبية وتأمين الحرية اللازمة للمواطنين للإدلاء بأصواتهم بحرية كاملة ودون ضغوط من أي نوع . وهذا يعني تجريد حزب البعث في سوريا من ميزة التفرد بالساحة السياسية في سوريا . - الإلغاء الفوري لكافة القوانين التي تنص على عقوبات جائرة تقوم على أساس الانتماء السياسي أو العقائدي أو الإثني أو المذهبي للمواطن السوري .
- إلغاء البرلمان السوري الحالي ، باعتبار ذلك خطوة ضرورية لتحقيق التواءم مع الإصلاحات الدستورية التي أشرنا إليها .
- تقليص الصلاحيات الممنوحة للمؤسسات التابعة لوزارة الداخلية في النظام السوري ، والتي مكنتها من التعامل مع المواطنين ولا تزال ، بالأساليب القمعية التي تفرضها النظم الدكتاتورية على مواطنيها . ومن المؤكد أن تحقيق هذا المطلب يتطلب من الرئيس بشار جهداً استثنائيا ، لأسباب يدركها هو كما يدركها الشعب السوري .
- تقليص الصلاحيات الممنوحة لرئيس الجمهورية بحيث لا يتحول لسيف مسلط على أي إجراءات يتخذها ممثلو الشعب ، وعلى أداء الجهات التنفيذية الممثلة في الحكومة والهيئة القضائية والرقابة الإدارية في الدولة .
- إلغاء قانون الطوارئ الذي لا يمكن إجراء أي إصلاح بوجوده . ذلك أن أي قرار يصدر عن الجهات التنفيذية والقضائية في الدولة ، يستطيع هذا القانون إيقافها بدعوى المحافظة على الأمن القومي أو أية دعاوى أخرى . وهذا ما عاشته وما زالت تعيشه المجتمعات العربية التي ترضخ لأنظمة استبدادية ، تستعين في هيمنتها على شعوبها بقوانين جائرة مثل قانون الطوارئ .
ولعل الحالة السورية تمثل قمة الاستخدام السيء لهذا القانون ، حيث فرض على الشعب السوري منذ عام 1963 وحتى اللحظة ، تحت دعاوى متعددة أشهرها "لا صوت يعلو على صوت المعركة".
- لا يسمح لرئيس الجمهورية بالترشح للرئاسة أكثر من فترتين فقط ، على أن يتم تحديد مدة الفترة الواحدة ضمن مواد الدستور الذي يقترح إعداده .
تبقى هناك أربع ملاحظات ينبغي الانتباه إليها ، إذا ما أردنا معرفة الحالة التي تنطبق على الرئيس بشار من الحالات الخمسة التي أشرنا إليها في بداية هذا المقال :
الأولى- إننا مع الرئيس بشار الأسد ، إذا ما قام بتنفيذ هكذا إصلاحات ووفق جداول زمنية واقعية يقتنع بها المواطن السوري أولا وقبل كل شيء . وليس ثمة خلاف على أن هذه الإصلاحات كان يجب العمل على تنفيذها (منذ زمن بعيد) ليس في سوريا وحدها ، وإنما في جميع دول المنطقة التي عاشت عقودا طويلة تحت سطوة أنظمة جائرة .. ولا نريد أن نزيد !!!.
الثانية- الجميع- كما الشعب السوري- يعرف الظروف التي أحاطت بمجيء الرئيس بشار للحكم ، وهي ظروف استثنائية قدَّرها السوريون جيداً ، ومن ثم فإن على الرئيس الأسد أن يرد الأمانة لأصحابها .. وذلك بالبدء الفوري في تنفيذ الإصلاحات السابقة ، وتلك التي وعد بها الشعب السوري الذي صبر طويلاً على قوانين جائرة ، مثل قانون الطوارئ والقانون الذي يسمح بتفرد الحزب الواحد في الساحة السياسية وغيرهما .
الثالثة- وهذه هي الأهم .. أن لا ينسى الشعب السوري في خضم هذه الموجة من ثورة التغيير التي تجتاح العالم العربي ، بأن سوريا ما زالت المستهدف الرئيس لإسرائيل وأمريكا ودول الغرب ، نظراً لموقعها الجيوسياسي في المنطقة ، ولمواقفها القومية التي لازمت مسيرة تاريخها ، ليس المعاصر فحسب ، وإنما خلال فترة الحكم العثماني للعالم العربي التي امتدت لخمسة قرون.
ولعل تحالفها مع إيران وحزب الله وحركة حماس في مجابهة المشروع الصهيوغربي للهيمنة على المنطقة ، في نطاق ما يسمى بمحور المقاومة ، يمثل هدفا استراتيجيا للغرب ، الذي لن يألوا جهدا من أجل تفكيك هذا التحالف ، الذي يمثل خطراً على وجود إسرائيل وأمنها وعلى المصالح الأمريكية والأوروبية في المنطقة .
الرابعة- ندرك جميعا أن التغيير أصبح الآن مطلباً قومياً ، وأن التخلص من تسلط النظم البوليسية على الشعوب العربية ، هو السبب الرئيس في الثورات التي تعيشها بلدان المنطقة . وسوريا- بالطبع- ليست استثناء من هذا الوضع ، ذلك أن شعبها صبر الكثير ، وآن له أن يحصل على حقوقه .
فإذا كان الرئيس بشار قد أدرك هذه الحقيقة ، فعليه أن يسرع في تنفيذ الإصلاحات التي أشرنا إليها ، وأن تتم تلك الإصلاحات بشفافية ووفق جداول زمنية محددة ، تتواءم مع مقتضيات الإصلاح ولا شيء غير ذلك . فإذا ما اتضح لأبناء سوريا التزامه بتنفيذ هكذا إصلاحات ، فلا بأس من أن يصبروا قليلاً بدلاً من أن تتعرض البلاد لهزات اقتصادية وسياسية قد لا تحمد عقباها ، وبخاصة أنها ستكون- في مثل هذه الأحوال- معرضة للاختراق من قبل أياد أجنبية معادية هدفها الرئيس ، تدمير سوريا وليس تدمير النظام فقط .