مرّت عشرةُ أيام. استقرّت نتائجُ الحدث على ثمانية شهداء و12 جريحاً. بدأ الناس يفيقون من الصدمة شيئاً فشيئاً. أخذت دورة الحياة في القرية الريفية تستعيد طبيعتها اليومية. طلاب المدارس يذهبون صباحاً ويعودون ظهراً. المحلات التجارية تمارس عملها. كلّ شيء يعود إلى طبيعة دورته كما كان قبل العاشر من محرم. وعلى الرغم من كلّ ذلك؛ ما زال في قلوب أبناء «الدالوة» وجعٌ طريٌّ سوف يستمرّ طويلاً. الحضن الوطني الكبير الذي أحاط بهم في محنة الإرهاب ضمّد كثيراً من الجراحات، أوقف نزيفاً شديداً تسبّبت به زُمرة فاجرة. رطّب قلوبَ أمهاتٍ وآباء وإخوة. لم تكن «الدالوة» وحدها في محنتها القاسية، كلّ الوطن وقف إلى جانبها. وأبناء القرية «الحساوية» الودودة وثّقوا ذلك في مشاعرهم العفوية. احترموه، تحدّثوا عنه بصدق. مع ذلك كله؛ بقيت الذاكرة مثقلة بتفاصيل ما حدث في ليلة العاشر من المحرم. تفاصيل مزعجة، مرعبة، موجعة، أعاد سردها آباء وأمهات وأطفال وفقا لصحيفة الشرق سردوا القصة وهم في حالةٍ نفسية أقلّ ارتباكاً، وأكثر استقراراً. وعلى الرغم من مرور عشرة أيام، مازالت دماء الشهداء الذين سقطوا برصاص الإرهاب في مكانها لم تجفّ. لم يجفّفها الأهالي، ولم يغسلوا الأرض منها. تركوها ليس لتكون شاهداً على الجريمة فحسب، بل ودليلاً على عظمة هذا الوطن الذي وقف إلى جانبهم. وعلى الرغم من الهدوء الذي صاحب ظهر الدالوة وعودة الحياة الطبيعية إليها؛ فإن أزير الرصاص مازال يدوي في أسماع أهالي تلك القرية، فهناك قصص وشهادات لم تر النور، ولن ينساه السعوديون أبداً، وتاريخ حفر في ذاكرة شرفاء الوطن. وبعد هدوء الحدث؛ بدأ الناس يتحدّثون عما سبق الحدث. بدأوا يتذكّرون مقدمات الحدث التي بدأت حسب شاهد عيان رفض الكشف عن هويته بأسئلة مريبة تلقاها بعض السكان عن مواقع إقامة العزاء المتعارف في الدالوة. يقول الشاهد إن ثلاثةً قابلوا بعض الناس في القرية، وكانت لهجتهم خليطاً من «الحساوية والقطيفية» بشكل مرتبك. كان ذلك قبل بداية يوم عاشوراء بثلاثة أيام. وفي يوم الواقعة يقول الشاهد شاهدنا ثلاثة أشخاص يرتدون ثياباً سوداءَ، بينهم اثنان ملثمان والثالث مُلتحٍ. كانوا مدجّجين فعلاً، وعلى أكتفاهم أشرطة ذخيرة واضحة، وفي أيديهم رشّاشات. توجّهوا إلى مجلس عزاء خاص بالنساء في البداية، قرعوا الباب الذي كان مغلقاً. ولأن المكان كان خالياً تقريباً، بعد انصراف أغلب النساء إلى منازلهنّ، توجّه المسلحون إلى موقع عزاء آخر خاص بالرجال. وهناك وقعت الواقعة. يضيف بقوله: بدأ إطلاق النار بشكل عشوائي في الخارج. وكان أول المصابين شابّ في قدمه، وقد هرب رغم إصابته إلى منطقة نخيل قريبة من الموقع. ثم وجّه أحد الإرهابيين رشّاشه في اتجاه شخص آخر، فأصيب وجرّ نفسه إلى موقع خلف سيارة متوقفة لحماية نفسه، لكن الإرهابيين لم يتركوه مصاباً، ربما لأنه تمكن من رؤيتهم عن قرب وخوفا من أن يكشف حقيقتهم لاحقاً؛ عمد أحدهم إليه وأجهز عليه بدم بارد. ويضيف: بعدها تواصل إطلاق النار، وتعالت الصرخات من المارة، وبدأت أستوعب ما يحدث.. إنها جريمة إرهاب حقيقية. الوضع مرتبك تماماً، وأصوات الرصاص تتداخل مع أصوات مكبّرات الصوت في مواقع عزاء أخرى. ويواصل السرد بقوله: النساء لا علم لديهنّ بما يحدث في موقع الرجال.. توجهت إلى موقعهنّ وطلبتُ إليهنّ إغلاق البابين الأمامي والخلفي بإحكام وعدم الخروج. ثم حاولتُ العودة إلى الموقع الأول لأشاهد النتيجة المروعة.. كل هذه الأحداث وقعت في أقل من عشر دقائق.. المكان كله بمن فيه في حالة ذهول.. لا أحد يعرف كيف مرّت التفاصيل الدامية.. كيف مزّق الرصاص أجساد الناس الذين لا حول لهم ولا قوة إزاء مسلحين دماؤهم باردة.. لا يعلم أحد من أبلغ الشرطة. وليس لدى أحدٍ يقين حول انسحاب المسلحين من الموقع.. قد يكون المكان محاصراً بهم أو بغيرهم.. حاول بعضنا اختلاس النظر لاستطلاع الوضع، ولكن الإرهابيين لاذوا بالفرار، ووجدنا أنفسنا بين قتلى وجرحى وصرخات مازالت في مسامعي، وسيارات الشرطة تطوّق المكان. مريم حسين التركي، ربما تكون هي الشاهدة الوحيدة التي رأت رأي العين ما حدث في ذلك المساء الأسود من زاوية النساء. الشاهدة كانت في مكان العزاء المخصص للنساء.. وتروي القصة من البداية.. تقول: دخلت مجلس عزاء النساء في الحادية عشرة (قبل الواقعة بنصف ساعة)، ووقتها لم يكن فيها غير ثلاث نساء.. فهذا الوقت مخصص للتنظيف وترتيب المكان من أجل اليوم التالي.. دخلت المكان فصرت رابعة النساء.. بعدها بقليل سمعنا صوتاً متلاحقاً.. وللحظاتٍ ظننّا أنه صوت مطر غزير.. أخذ الصوت يتلاحق ويدوّي.. لا يمكن أن يكون ذلك صوت مطر أبداً.. ثم بدأ الصوت يميّز نفسه.. بدا واضحاً أنه صوت إطلاق نار.. خرجتُ هلعة، و»الشيلة» تغطي رأسي فقط دون «عباية» لأتحقق مما يجري في الخارج.. عندها انكشفت الحقيقة.. تضيف مريم التركي: رأيتُ رجلين بملابس سوداء، الملابس مكونة من قطعتين، سروال وقميص طويل، ظهرا مسلّحين بشكل مرعب.. ملثمَّين بشماغين أحمرين، ويرتديان حذاءين صلبين، مثل ذلك الذي يرتديه العاملون في الأماكن الخطرة.. أحد الرجلين أبيض البشرة والآخر أسمر، ولا يبدوان كبيرين في السن. وتواصل مريم سرد ما شاهدته بقولها: كان كل واحدٍ منهما يحمل رشاشين، يفرغانه في جهة مجلس المصطفى، أردتُ أن أبلغ الرجال، ولكن لم أستطع فأغلقتُ الباب مباشرةً خلفي بإحكامٍ، حتى لا يدخلوا علينا. بقيت والنساء الأخريات في مكاننا دون حراك أو تصرف.. واستمرّ وضعنا الخائف الصامت حتى الساعة الرابعة فجراً؛ حيث عرفنا من الناس التفاصيل المخيفة. بقيت السيدة مريم التركي والنساء الأخريات معزولاتٍ عن الواقع حتى الرابعة فجراً.. وحين خرجن من المكان وعدن إلى بيوتهنّ بدأن يتلقّين تفاصيل التفاصيل.. تقول: بعد عودة زوجي إلى المنزل، ونقاشنا فيما حدث في الجانب الرجالي، راجع زوجي تسجيلات الكاميرا الخاصة بمجلس «الزينبية» التي كانت خلف مجلس المصطفى بمسافة 50 متراً فقط. وهي تلتقط صور الشارع من جهاته الأربع، وقد رصدت تحركات الإرهابيين الثلاثة في المنطقة، وقد سلمها زوجي إلى الشرطة كدليل وشاهد على توقف سيارة الإرهابيين عند زاوية منزلنا، وينتظرهم شخص آخر في السيارة. وتقول السيدة مريم إن طفلها علي المشرف مازال يخاف الذهاب إلى المدرسة وحده، وهي تحاول تشجيعه على الذهاب، وإقناعه أن الوضع طبيعي، إلا أنه يقول لها: «لا يا أمي أنا رأيتهم بعيني يقتلون الناس». الصغير يدرس في الثالث الابتدائي.. وببراءة طفل تحدّث عما رأى يقول: بعد أن انتهى من مجلس العزاء؛ راح الناس يتبادلون التحية فيما بينهم، وخرجت مجموعة، وكنت أنا ممن خرجوا في المقدمة متوجهين إلى منازلنا. يواصل: وأنا خارج رأيت اثنين يرتديان ثياباً سوداء، الأول أبيض ونحيف، والآخر أسمر البشرة مُلتحٍ وسمين، وكل واحد منهما يحمل رشاشين، يطلقان النار على الناس الذين خرجوا في المقدمة؛ فخفتُ بشدة بعدما شاهدتُ رجلاً ملقى على الأرض والدماء تسيل منه، هربتُ مع قريبٍ لي يكبرني سناً، متوجهين إلى جهة مدرستنا الابتدائية، وهناك احتمينا ببيت قريب من المدرسة. الطفل علي الذي لم تظهر عليه علامات ارتباك وهو يحكي القصة كما شاهدها بتفصيلٍ دقيق، لم يتلعثم أو يُعِد سرد مشهدٍ لم يذكره.. وقال: كنت خائفاً على أبي من أن تصيبه رصاصة.. ويصف صوت الرصاص: كان قوياً جداً جداً...لا أعلم لماذا فعلوا ذلك.. لو شاهدتهم مرة أخرى سأبلغ عنهم الشرطة. أما المصابة الوحيدة في الحادث زهراء الحبيب ذات ال 17 ربيعاً فقالت إنها كانت قادمة من مجلس عزاء الصادق القريبة من مكان الحادثة. وقد فوجئت بإطلاق الرصاص عند نزولها من السيارة متوجهة إلى منزلها.. وقد أصيبت في فخذها وكتفها.. تقول: واصلت السير ببطء حتى دخلت المنزل وقامت عائلتي بسكب الماء البارد على رجلي ولم أعلم حينها ما سبب ما أشعر به من ألم.. فما حدث كان في غضون ثوانٍ ولم أتمكن من رؤية من أطلق النار.. أصبت بحالة ارتباك عندما تعالت أصوات أسرتي بالصراخ وأمرهم لي بالنزول حالاً من السيارة.. بعدها بنصف ساعة أخذني خالي إلى مستشفى الجفر ليتم تحويلي إلى مستشفى بن جلوي، وبقيت هناك من الثلاثاء إلى الخميس، ولن أستطيع الذهاب إلى مدرستي إلا بعد أسبوعين وبعد الانتهاء من علاجي، ومازلت أجهل سبب ما حصل لي فهو كالحلم السيئ الذي أتمنى نسيانه. أحمد المطاوعة صديق الشهيد مهدي المشرف في مدرسة الدالوة الابتدائية تحدث بغصة عن فقدانه لصديق دربه.. يقول: أعلم أن مهدي في الجنة ولكن (اشتقت له).. فقدت تلك اللحظات التي كان يقاسمني إياها لعباً واستذكاراً. لم يستطع المطاوعة أن يتمالك نفسه فانخرط في نوبة بكاء فيها إجابة وافية لتساؤلات في عيني أحمد وزملائه من حوله، وكانت رسالة كبيرة عُلقت على مدخل المدرسة تنعى فيها الطالب المُجد مهدي وتدعو له بالرحمة والمغفرة. وتساءل أحد أهالي قرية الدالوة : هذه القرية الآمنة لماذا وقع الاختيار عليها، وهي التي تتوسط عدة قرى؟ فكل من يريد المجيء إلى الدالوة من أي اتجاه لا بد أن يعبر على الأقل ثلاث قرى، وهل هو اختيار عشوائي من قبل الإرهابيين؟ ويضيف: الدالوة التي هي مجاورة لجبل القارة الشهير مسالمة إلى درجة أنها لم تطالب يوما بحصتها من شهرة هذا الجبل، ولم تتساءل لماذا لا يسمى الجبل باسمها، وبين ليلة وضحاها صار اسمها يتردد على ألسنة الناس في أكثر مدن العالم بفعل جريمة الإرهاب التي غدرت بها. ويوضح أن الدالوة التي تحولت رمزاً للمحبة والتسامح والإخاء وأصبحت السؤال الأصعب في اختبار الوطن: هل يمر الوطن بانعطافة أو لحظة تفكر تعيد إليه هدوءه من خلال التسامح وحب الوطن؟ هل ينتبه الجميع لما يحدث للوطن أو ماذا سيحدث مستقبلاً؟. دماء أحد الشهداء اختلطت بالرمال رصاص اخترق جدار منزل أثناء الإطلاق العشوائي قرب بيت زهراء الحبيب زهراء ترقد على سريرها منزل زهراء من الخارج