منذ ما يزيد على اربعة عقود تعيش ليبيا في قبضة رجل واحد. يعيش في الخيمة وينقل معه الإبل وينظر الى السماء. رجل يقرر كل شيء ويتدخل في تفاصيل التفاصيل لكنه لا يوقّع اوراقاً ويدّعي انه لا يحكم. هذا ما يقوله وزير الخارجية الليبي السابق عبدالرحمن شلقم. من التسرع الاستنتاج ان معمر القذافي رجل ساذج. الرجل الساذج لا يستطيع ان يقيم عقوداً في السلطة. يمكن القول انه مناور بارع في لعبة الاحتفاظ بالحكم. فرض «الكتاب الاخضر» على شعبه وكأنه الاجابات النهائية عن كل الاسئلة قديمها وجديدها. ذوّب الجيش الذي توكأ عليه للوصول الى السلطة، ثم وزع الكتائب الامنية على الأبناء والأصهار. رجل غريب يعتبر المواعيد الرسمية قيوداً. وكثيراً ما يفاجئ مساعديه ومستشاريه كأن يلقي محاضرة يؤكد فيها ان هتلر مظلوم، وأنه لو انتصر لعامله العالم بصورة اخرى. يقول شلقم إن الفساد في ليبيا فظيع وأن البلاد وقعت في قبضة مافيات معلنة وسرية. ويضيف ان أفراد عائلة «القائد» يتصرفون ولا يجرؤ اي مسؤول على وقفهم او لفت نظرهم. العمل مع القذافي محفوف بالأخطار. جرّب شلقم الإقامة الجبرية واستُدعي ذات يوم الى اجتماع كان يفترض ان يتحول في ختامه جثة، لكن بعد خروج القذافي. وهنا نص الحلقة الرابعة: هل كان القذافي يخاف من جورج بوش؟ - معمر يخاف جداً من الاميركيين. حتى الآن يقول لأوباما: «أنت ابني وتعالوا لنتفاهم على النفط». ومعمر منعزل عن العالم. كان شاباً بسيطاً من جنوب ليبيا، جاء الى طرابلس، درس في الكلية العسكرية في بنغازي ثم جاء الى الثورة ووجد حوله من رجال الأحزاب القوميين السلفيين الأفّاقين. لا يتقن لغة أجنبية. فقط بعض الانكليزية من أيام المدرسة. ولم يحاور في شكل متوازن أي طرف في حياته، يتحاور مع من لهم عنده مصلحة. لم يطّلع على كتب تحليلية، لم يجلس مع مراكز بحوث ويتناقش معها بموضوعية. لا يعرف العقلية الأخرى، لا يعرف كيف يُصنع القرار، او كيمياء العملية السياسية في الغرب والشرق. لا يعرف تفكيك أي مشكلة ليعيد تركيبها. لدينا مشكلة عند العرب خصوصاً الذين أتوا من البادية ووجدوا أنفسهم يحكمون شعوباً. يأتيك عسكري بدوي بسيط يجد نفسه يحكم شعباً متحضراً مثل مصر أو سورية أو العراق فيرجع بها الى الوراء ويتصرف بعقلية سارق دجاج القرية وهذه كارثة، ثم يخلطون بين الدهاء السياسي الذي هو نوع من الإلمام، مثل تشرشل وتشامبرلين وكيسنجر، وبين ألاعيب صبيان الحواري، أي أن أكذب عليك أو أختفي. القذافي لا يعرف العالم ويريد أن يقدم نفسه للعالم في شكل آخر: في الخيمة وينقل معه الإبل وينظر الى السماء. ماذا كان رأي القذافي بالسوفيات الذين كان يشتري منهم السلاح؟ - كان يراقب السوفيات، وفي يوم من الأيام قال لا فرق بين كوسيغين وكيسنجر. وكان كتب في «الفجر الجديد» ان الاتحاد السوفياتي دولة امبريالية في مشكلة الهند وباكستان. لكن المصريين أثروا في علاقته مع السوفيات. والآن هناك احتمال أصبحت ميالاً الى تصديقه. بعد حرب 1973 وتحول السادات نحو اميركا، خاف السوفيات وحلف وارسو من ترتيبات أميركية - مصرية - اسرائيلية، ففكروا في وضع أسلحة ضخمة تقليدية في ليبيا، من دبابات ومدفعية يستعملونها في حال حدوث أي تطور، بخاصة اذا تحرك الاتحاد السوفياتي الى جنوب اوروبا، لأن المخازن التي اكتشفت في الأيام الأخيرة بعد الانتفاضة مخازن مرعبة: مئات الدبابات والصواريخ والراجمات التي لا يعرفها أحد. أعتقد ان قصة تخزين حلف وارسو أسلحة تقليدية في ليبيا كانت حقيقية، لأن كمية الاسلحة التي ضربتها قوات الناتو والتي اكتشفناها الآن واستولى عليها الثوار هي من نوع لا عين رأت ولا أذن سمعت. هل كان هناك مستشارون سوفيات في ليبيا؟ - طبعاً. من كان يحكم ليبيا خلال عهد القذافي؟ - الحاكم الأعلى والمطلق والمرجع في الكبيرة والصغيرة هو معمر القذافي. ليبيا لم تشهد في تاريخها أحزاباً سياسية حرة الا فترة قليلة (شهور) خلال الحكم البريطاني. ولم تشهد نقابات ولا مجتمعاً مدنياً ولا تنظيمات. صحيح في العهد الملكي كان هناك مجلس للنواب ومجلس شيوخ وهامش حرية للصحافة وكانت افضل دولة عربية في القانون والشفافية من دون نقاش. في العهد الملكي عندما ينفذ القلم عليك اعادته، رئيس الوزراء عندما عاد الى منزله الأساسي فُقدت مكواة على الفحم من مقر اقامة رئيس الوزراء فقامت القيامة. جاء القذافي وأزاح كل شيء وبقي هو، لكن تكونت تنظيمات وأجهزة عنكبوتية غريبة بحكم المصالح تداخلت فيها المصاهرة بالمال بالأمن. تداخلت المصلحة وأمن الدولة والمصاهرة مع بعض الكيمياء القبلية وكيمياء مصلحية وكيمياء سلطوية وأصبح للنساء دور وللعائلات دور، لكن في تكوين مغلق. وبقي 99 في المئة من المجتمع على الهامش. يعني ليبيا لديها أكثر من 160 بليون دولار في الخارج، والبطالة 32 في المئة، وهذا غير معقول. في ليبيا أعلى متوسط دخل فرد في افريقيا وهي من الدول العشرين الأكثر فقراً في العالم. كان الأمن ثم الأمن ثم الأمن وكان كرسي القذافي فوق كل اعتبار، حتى سيف الإسلام حاول أن يصلح أو على الأقل قال ذلك، لكن كلما كان يقترب من الأشياء الاساسية كان معمر القذافي يشعر ان سيف يتحسس كرسيه فيركله بقدمه فلا يجد أمامه إلا ان يهرب. سيف لم يعش في ليبيا أسبوعين متصلين اطلاقاً. كان يهرب. وكان يطمح أن يحكم وأبوه موجود فيبقى أبوه الرمز. في الفترة الأخيرة، من كان يتصرف بالمال على الأقل هو البغدادي المحمودي رئيس الوزراء وعبر شبكة معقدة وطريقة غريبة في الصرف، فلا يعرف أحد أين هذا المبلغ وأين ذاك. هناك مبالغ أعتقد انها لم تُكتشف بعد في الداخل او في الخارج، لأن ليبيا دولة طلاسم، فيها عالم النساء وعالم الليل وعالم المصالح. وكما الشبكات التي قامت في روسيا بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، هناك في ليبيا شبكات مافيا فوق الارض وتحت الارض وفي الداخل وفي الخارج لا يعلمها الا الله. رجال القذافي قبل بداية الانتفاضة الحالية في ليبيا، من هم الرجال الأقوياء الذين كانوا أصحاب الدور؟ - الدور هو ما يريده لك معمر القذافي. عبدالله السنوسي قوي ومرعب (هو عديل معمّر). كان دور عبدالله أن ينفذ ما يطلبه منه القذافي، فإذا قال له فجّر ليبيا يفجّرها. هذا ليس قوة بل الضعف المطلق الذي يبدو كأنه قوة مطلقة. ما هي مسؤوليات عبدالله السنوسي الآن بعد ان كان مسؤول الاستخبارات؟ - نظرياً هو مسؤول الاستخبارات، ولكن قيل انه أزيح وأوتي بابن عم القذافي. السنوسي هو الذي يقود الحرب الآن عملياً وهو الذي يقتل بيده وهو الذي قاد أول مجزرة في كوبري جيليانة في بنغازي وقَتَل فيها 220 مع ابنه محمد. وماذا عن موسى كوسى؟ - كان مهماً بحكم منصبه، كان فقط موظفاً. من يتخذ قرار قتل معارض مثلاً في ليبيا؟ - معمر القذافي شخصياً، حتى اذا فكر أي مسؤول في قتل أحد، فلا بد من أخذ موافقة من معمر القذافي. هل كان دور شكري غانم وزير النفط ورئيس الوزراء الذي انشق مهماً؟ - شكري غانم للأمانة كان صريحاً وكان يتحدث بثقة أمام معمر القذافي، حاول الاصلاح لكن كان ذلك صعباً لأنك لا تستطيع ان تصلح اطلاقاً وزوجة هنيبعل (ابن القذافي) اللبنانية ترسل طائرة «ايرباص» من طرابلس الى بيروت لإحضار كلب. من يستطيع أن يقول لها لا. هل يستطيع رئيس الوزراء أن يقول لها لا؟ من يستطيع أن يقول لعائشة ابنة معمر القذافي ألا تأخذ طائرتين لتذهب الى بريطانيا لتلد هناك أو لتقيم حفلات. هل يستطيع أحد؟ من يستطيع أن يقول لمعتصم معمر القذافي ألا يصرف في سهرة واحدة أربعة ملايين دولار على المطربات (خارج ليبيا)؟ من يستطيع أن يقول لسيف الاسلام لا تصرف كذا مليون في عيد ميلادك في البندقية أو في سردينيا أو في الكاريبي؟ من يستطيع أن يقول لمعمر القذافي لا تبعث وفوداً تحمل حقائب ملأى بالملايين توزعها على هذا وذاك لتمرير قرار هنا لهذه المناسبة أو تلك، (لأن الحصول على) السلاح كان مستحيلاً. أولاد العقيد ممن تتكون عائلة القذافي؟ - متزوج من امرأتين، له من الاولى ابنه البكر محمد، مهندس يمسك بمملكة الاتصالات ولا أحد يحاسبه، واللجنة الاولمبية والشركات والاتصالات الخليوية (تدر) بلايين لا يعلم بها أحد ولا يخضع لرقابة، ومن الزوجة الثانية الابن الأكبر سيف الاسلام وابنة القذافي عائشة وأبناؤه الآخرون الساعدي والمعتصم وسيف العرب وخميس وهنيبعل. هل تم توزيع الجيش على الأبناء؟ - لا يوجد جيش في ليبيا. لقد تم حلّه واستبدل بالشعب المسلح الذي هو عبارة عن كتائب أمنية يقودها إما اولاد القذافي أو أصهاره أو أبناء عمه. وزير الدفاع ابو بكر يونس مسكين وآخر من يعلم. هل كنت مقرباً من سيف الاسلام وماذا تعرف عنه؟ - سيف كان يتكلم عن المجتمع المدني باندفاع كأنما يريد ان ينتقل فوراً من سنة ثالثة ابتدائي الى سنة ثالثة جامعة، ويريد أحزاباً ومجتمعاً مدنياً وشفافية، ويريد حتى الحد من غلواء تصرفات إخوته، وهو معجب بدول الخليج وعُمان وأوروبا ويريد انفتاحاً وتعليماً، ثم اكتشفنا فجأة أنها كلها تمثيلية وكانت مجرد توزيع أدوار. عندما بدأ القتل انحاز الى المذابح وصعد الى دبابة وحمل رشاشاً يتوعد الليبيين بالتجزئة والقتل وتدمير النفط. كانت لنا جلسات مطولة يستمع إليّ وينتقد، وفي احيان كثيرة حين يقع خلاف بيني وبين أشخاص متنفذين في الدولة يؤيدني. ما علاقتك ببقية أبناء القذافي؟ - لا علاقة بيننا كما مع سيف. علاقتي بمعتصم سيئة. كان أمين مجلس الأمن الوطني وهو انسان متغطرس ومتكبر ونزق، لكن الساعدي كانت علاقتي معه ودية، والبقية قلّما رأيتهم. سيف العرب مثلاً لم أره في حياتي، خميس رأيته مرتين، محمد مرة واحدة فقط، لكنهم كانوا يحترمونني لأن معمر كان دائماً يحميني ويدافع عني وينحاز إلي حتى مع اولاده. من الذي يدير ليبيا عملياً؟ الشخص الذي يقول إن لا صفة رسمية له هو صاحب القرار النهائي؟ - يشرف القذافي حتى على تفاصيل التفاصيل. حتى الادارة المحلية فكّكها، لا توجد محافظات او ولايات، اللجان الشعبية كذبة. هو يدير كل شيء عبر الهاتف. هناك بعض الأمور اليومية يتولاها رئيس الوزراء، وأيضاً رئيس الوزراء البغدادي لديه ملايين وأموال طائلة جداً هو وعائلته وأصحابه وينفذ تعليمات معمر في شكل أعمى. كيف يمضي معمر القذافي نهاره وأنت تعرفه منذ عقود؟ - ينام متأخراً. يسهر دائماً مع شعراء ومغنين وأحياناً يُعزف له على العود، ويستيقظ متأخراً حوالى العاشرة او الحادية عشرة ولا يحب العمل المبكر ولا يحب المواعيد سواء كان الزائر وزيراً ام رئيساً. وعندما كنت أحدثه عن المواعيد كان يعتبرها قيداً وهو لا يحب القيود. يذهب الى الصحراء دائماً. ولا يعمل الى طاولة بل يجلس على فراش بسيط على الأرض ويقابل الناس وكبار السن ويحضر أفراح أقاربه. يستقبل رؤساء الدول، لكنه لا يحب تحديد المواعيد. اذا زاره وزير عليه أن ينتظر حتى يستيقظ ويقرر استقباله فيطلبه بسرعة، او رئيس دولة فقد يطلب احضاره فور وصوله الى المطار، أحياناً يبقيه يوماً قبل ان يقابله، وفق مزاجه والظروف. هل هو ورع ومؤمن في حياته الشخصية؟ - الإيمان يعلمه الله. هو يصلّي دائماً ويقول انه يصوم أيام الاثنين والخميس، ولا يشرب الخمر إطلاقاً ولا يدخن، تدخينه في القمة العربية كان تعبيراً عن الغضب وعدم الرضا فقط. قليل الأكل يأكل الأطباق الليبية والمعكرونة والكسكس ويكثر من شرب لبن النوق. ما معنى الخيمة التي ينصبها في أسفاره؟ - الخيمة تعبير عن انه بدوي وهذه التي كانت تعتبر تقليلاً من قيمة البدوي يريد تقديمها تعبيراً عن قوة واعتزاز وأصالة، اي تعيرونني بكوني بدوياً بل انا أعتز بذلك. «الكتاب الأخضر» ما قصة «الكتاب الاخضر»؟ - بعد الوصول الى السلطة في أيلول (سبتمبر) 1969 (ثورة الفاتح من أيلول) كانت كل الأصوات تسأل متى يعود الجيش الى ثكناته، متى تقوم دولة مدنية، متى تقوم انتخابات، متى تكون عندنا جمهورية او دولة؟ القذافي وكما تبين لاحقاً خطط ان يبقى في الحكم الى ما لا نهاية وأن يبقى الحاكم الأوحد والمطلق. ومعمر ذكي جداً من دون شك. شاب بقي يتآمر عشر سنوات تحت الارض قبل الإمساك بالسلطة. تفكيره كله تآمري: في السياسة، في الاقتصاد، في العلاقات الشخصية، في العلاقات العامة. واستطاع ان يوحي لليبيين كل مرة بوجود برنامج لتغيير المحافظات، والتنظيم الاداري والبرنامج الاقتصادي، ثم يحيله ثم يلتقي أشخاصاً معينين فيعطيهم أيضاً هذا الوعد. فلما رأى ان الناس بعد الانقلاب ووصوله الى الحكم تتحدث عن ضرورة قيام دولة ونظام مثل بقية العالم كتب «الكتاب الأخضر» وأوحى للناس أنهم جميعاً سيستفيدون، مثلاً «شركاء لا أجراء» الشركة يملكها العمال. «البيت لساكنه» فإذا كنت مستأجراً منزلاً من صاحبه يصبح ملكك. «السيارة لمن يقودها» فإذا كنت تعمل سائقاً تصبح السيارة ملكاً لك... اذاً هناك طبقة استفادت. لكنه قضى على الطبقة الوسطى. ثانياً، انشأ كليات للبنات في الجيش وفي الشرطة. والمرأة لها الحرية المطلقة وكسر منظومة القيم. حرر المرأة نظرياً، لكنه ضرب منظومة القيم، المرأة تستطيع العودة الى بيتها في الساعة الثالثة (فجراً) من دون أن يستطيع أبوها محاسبتها. انتشرت ظواهر فساد فظيعة، وثانياً لا رقابة، فلا أحد يُحاسَب اذا سرق. هل يحب القذافي المال؟ - لا، فماذا يفعل بالفلوس؟ هو من جماعة «لنا الصدر دون العالمين او القبر»، اي إما في الحكم وإما في القبر. وحين يكون في الحكم يعتبر كل المال له او بتصرفه. لا اعتقد انه يلمس الفلوس بيده، فهو بالهاتف يصدر الاوامر بالدفع لفلان، او بشراء بيت لفلان، او بعلاج فلان، او إدفع مليوناً لفلان، فالفلوس كلها له... مثل من لديه بطاقة ائتمان فلا يحمل فلوساً نقدية ابداً لسنوات، الفلوس كلها له، انت ومالك لأبيك، ليبيا وما بها ومن بها له. نعود الى «الكتاب الأخضر». - صاغه بطريقة من يريد إبقاء حكمه مفتوحاً، فهو قائد لا يحكم ولا يوقّع أوراقاً ولا تستطيع أن تحاسبه اذا بقي في الحكم 20 او 30 سنة، فهو يقول ان الشعب هو الحاكم. لا يوقّع أوراقاً ولا صلاحيات له؟ - إطلاقاً. هو قائد الثورة فقط. لا يحاسَب ويقول أنا رمز. المقربون منه عندما يرزقون بولد أو بنت هو الذي يسمي المولود ويتدخل في تفاصيل التفاصيل وهو من الناحية النظرية يقول انه لا يحكم، لكن في ما يسمى قانون الشرعية الثورية، وهو نص مكتوب، أي كلمة يقولها أو أي خطاب هو قانون واجب التنفيذ. تتهمه بكسر منظومة القيم وإفساد المجتمع؟ - الانظمة الديكتاتورية لها مشتركات عبر التاريخ من تيمورلنك الى المماليك الى الحكام بأمر الله الى أصحاب الحاكمية: اولاً، كل نظام ديكتاتوري لا بد من ان ينتهي بكارثة من هتلر الى يوغوسلافيا الى العراق الى الصومال الى ليبيا وفي اي مكان. ثانياً، أي نظام ديكتاتوري يجد نفسه اوتوماتيكياً يعمل على كسر منظومة القيم لجعل الناس لا ولاء لها لبيتها، فما بالك بالوطن. الآن أصبح همّ المواطن الليبي الحصول على بيت. همّه الحصول على سيارة. مثلاً أنا كان عندي منزل من البيوت التي بناها الايطاليون، وفي اتفاقية 1956 كان هذا البيت منزلاً لقائد القوات البحرية الايطالية، هو بيت جميل وأجريت عليه تعديلات واشتريت أيضاً مزرعة من صديق كان اشتراها من معمّر ايطالي وعندي مزارع في الجنوب ورثتها عن أبي، ولدي حوالى 6 آلاف شجرة زيتون وحوالى 5 آلاف نخلة، ولدي علاوات السفر: الوزير الذي يغادر صباحاً ويعود الى ليبيا مساء مثلاً يتلقى 5 آلاف يورو يومياً، حتى لو ذهب الى تونس التي تبعد ساعة واحدة. أنا مثلاً أسافر خمس مرات في الشهر فأتلقى 25 ألف يورو. وتركت في خزنتي حوالى 200 ألف يورو وقد هجموا على منزلي وأخذوها كلها. لدي في مكتبتي 23 ألف كتاب رُميت في الشارع، كذلك مجوهرات زوجتي، التحف الخاصة بي، لدي العود الذي عزف عليه السنباطي «الأطلال»، والعود الذي عزف عليه السيد درويش آخر مرة في حلب... كلها رميت في الشارع وكسرت ونهبت. الناس تقول: هذا الرجل غبي لديه كل هذا، فكيف يتخذ موقفاً ضد القذافي؟ قصة الحرية والديموقراطية والوطن. سألني أحدهم: يا أخ عبدالرحمن، ألم تكن لديك مزرعة؟ ألم يكن لديك قصر؟ قلت، يا أخي لا أريد مزرعة ولا قصراً، أريد وطناً. هل كان لديك شعور أنه ليس لديك وطن خلال حياتك في ظل القذافي؟ - هذا سؤال مهم وقد سألني كثيرون: كيف كنت مع القذافي وتعمل معه عملياً من 1974؟ أنا حُكم عليّ بالإعدام مرتين، ووضعت في إقامة جبرية ستة أشهر. المرة الاولى التي حُكمت فيها بالإعدام كنت رئيس تحرير «الاسبوع السياسي» وإذا بمعمر القذافي يستدعيني ذات صباح ويقول لي إن على جميع الموظفين الذين يعملون في المطبوعة مغادرة عملهم، فهذا تنظيم حزب شيوعي. قلت لمعمر: كيف أسرِّح جميع العاملين. قُل لي الملاحظات ونعرضها في الاجتماع الأسبوعي للمطبوعة. ثم من يكتبون عن الشيوعية قاموسهم ماركسي اصلاً، فقُبض علينا وكنا عشرين شخصاً. أنا أفرج عني بتعليمات من معمر القذافي، البقية حكم عليهم بالمؤبد. ذهبت الى المحكمة وكنت شاهد النفي الوحيد. ورتبت لي محاولة اغتيال من جماعة اللجان الثورية في حادث اصطدام شاحنة بسيارتي وتعرضت لكسور وبقيت في مستشفى في لندن مدة شهرين، هذا في 1979 بعد ان كنت ذهبت الى المحكمة وضُغِط على القاضي فلم يطلبني للشهادة، وكنت أتيت من المستشفى على نقالة بعد تعرضي لكسور في الحادث. وباعتباري عضواً في اللجان الثورية - أو ثورياً - اعتبرتني اللجان الثورية خائناً، واقترحوا إعدامي شنقاً في 7 نيسان (ابريل) وهو التاريخ الذي عادة يُشنق فيه المعارضون. للحقيقة، معمر القذافي أخرجني من السجن ومنع إعدامي. وبقية الموظفين مكثوا جميعاً في السجن عشر سنوات ثم أفرج عنهم. القائد يريدك في 1981 كنت وزيراً للإعلام ومسؤولاً عن وكالة الأنباء، ألقى معمر القذافي محاضرة في المدرج الأخضر وتحدث عن التاريخ وقال ان هتلر مظلوم، ولو انتصر في الحرب لاعتُبر بطلاً، فالتاريخ يدين المهزومين. في اليوم نفسه كانت هناك طائرات ليبية تنقل اسلحة لثوار نيكاراغوا فهبطت في البرازيل وفُتشت ووجدوا فيها أسلحة فاحتجزت. ارسل القذافي برقية يعتذر فيها ويتأسف لرئيس البرازيل. أنا راجعت المحاضرة التي ألقاها وحذفت كل ما ذكره عن هتلر. وفي برقيته الى الرئيس البرازيلي في النسخة التي ستوزع خارج ليبيا أبقيتها كما كانت، وفي النسخة التي ستوزع داخل ليبيا حذفت الاعتذار والتأسف. بينما كنت مغادراً عملي من وكالة الأنباء حوالى الواحدة والنصف (فجراً)، وزوجتي حامل بابني البكر محمد، تلقيت اتصالاً في الثانية إلا ربعاً من شخص يقول لي: تعال الينا بسرعة، فشتمته قائلاً: هل أنا موظف عندك لآتيك بسرعة؟ قال لي: القائد يريدك بسرعة. فذهبت ووجدت أشخاصاً من وكالة الأنباء ودخلت على القذافي فوجدت معه أكثر من عشرين شخصاً بينهم: موسى كوسى، مصطفى الزهدي، وعتاة اللجان الثورية، وكلهم مسلحون بمسدساتهم ومعمر في الوسط. فقلت في نفسي هذا مشهد إعدام. أول ما دخلت رمى عليّ صحيفة «الفجر الجديد» وقال لي: ما علاقة والدك بعائلة سيف النصر؟ (كانت تحكم الجنوب في السابق وأحدهم كان ضرب معمر القذافي)، قلت له: مثل علاقتي بك. كان هناك طوارق يحاولون فصل فزان عن ليبيا وضمها الى الجزائر ووالدي حريص على وحدة ليبيا وعائلة سيف النصر تدافع عن الوحدة فانضم اليهم والدي وتحالف معهم وهم عائلة مجاهدة. فغيّر الموضوع وقال: كيف تحذف كلاماً من محاضرتي؟ قلت له: ايها الأخ القائد لأن هذا الكلام لو نشر في الخارج ستصدر مانشيتات: القذافي يدافع عن هتلر، وهذا خطأ ولن يقرأ أحد التفاصيل، فسكت. قال: يا (...) كيف تغير برقيتي؟ قلت هذه برقية سياسية في الخارج لكي تؤدي مفعولها أرسلتها بنصها، لكن أمام الليبيين معمر القذافي قائدهم يعتذر ويتأسف هذا لا يجوز، فسكت وابتسم ونهض. وقال لي: انت مثقف وثوري ونظيف، أنت لست مثل «الابراهيمات» - كان معي ابراهيم البشاري وإبراهيم بجاد وإبراهيم صكّح في الاعلام. فقال لي: انت ثوري ونزيه ومثقف. علمت في ما بعد من صالح الشيخي الذي كان رئيس المحكمة الثورية انه قبل أن آتي كُتب حكم انه بمجرد أن يقول القذافي أنطق يا صالح بالحكم يقول: حكمت المحكمة الثورية على عبدالرحمن محمد شلقم بالإعدام رمياً بالرصاص، فيطلقون عليّ جميعاً النار في الوقت نفسه، بعد أن يغادر القذافي القاعة، فيضيع دمي بين القبائل، وأعاد الشيخي عليّ هذا الكلام في السنة الماضية عندما التقينا في معرض الكتاب الدولي في طرابلس، قال لي: انت خرجت يومها مثل الشعرة من العجينة. في قضية «الأسبوع السياسي»، بقيت ستة أشهر في الاقامة الجبرية. وعبدالله السنوسي كان يقول لي إن لدينا حكومة ائتلافية، قلت له كيف؟ قال لي: انت من «الكلاب الضالة» من المعارضة وأنت في الحكومة، لأنني دائماً أنتقد وأتحدث. وفي آخر لقاء يوم 6 تشرين الثاني (نوفمبر) 2010 - قبل أحداث تونس بعشرة أيام - جلست ساعتين و18 دقيقة مع معمر القذافي وقلت له (في) البلد فساد، رشاوى، انهيار، وكان يقول لي: حق حق حق.