جهّز التاج وأعلن نفسه «ملك الملوك» يستبعد وزير الخارجية الليبي السابق عبدالرحمن شلقم، ان يُقْدِم معمر القذافي على الانتحار، ولا يستبعد ان يوافق على الخروج مع عائلته إذا أطبق الثوار على طرابلس. ويقول إن وزير الخارجية السابق والمدير السابق للاستخبارات الخارجية موسى كوسى انشق «عندما وجد ان معمر بحد ذاته جريمة»، مشيراً الى أنه رافقه في رحلته من بريطانيا الى قطر بعد انشقاقه. ويشير الى انه بعد طيّ ملف أسلحة الدمار الشامل، كانت الأجهزة الليبية تزوِّد الأجهزة الامنية الاميركية وبلا تحفظ معلومات عن «القاعدة» والإسلاميين. ويقول شلقم إن الليبيين يتطلعون الى بناء دولة مدنية قائمة على التعددية والتداول السلمي للسلطة. ويحذِّر من ان اي محاولة لفرض صيغة وحيدة متشددة ستواجَه بالرفض، ذلك ان الليبيين «لا يريدون حكماً شبيهاً بطالبان». ولم يُخْفِ قلقه من صعوبات في المرحلة الانتقالية، بسبب غياب التجربة الحزبية والنقابية والمجتمع المدني خلال العقود الأربعة الماضية. في هذه الحلقة، يتحدث شلقم عن لقائه الأخير مع القذافي، وانشقاقه عن النظام، وعن قصة «ملك ملوك أفريقيا». وهنا نص الحلقة الخامسة والأخيرة: حدثنا عن اللقاء الأخير مع القذافي؟ - اللقاء الأخير كان في 6 تشرين الثاني (نوفمبر) بعد عودتي من نيويورك. ليبيا كانت ستستضيف مجموعة 77 زائد الصين أي 130 رئيساً (لأنه كان دور أفريقيا لاستضافة الحدث). وكانت الفكرة أن تعقد في أيلول (سبتمبر) ويطرح فيها تغيير الأممالمتحدة وموضوعات أخرى. زرته في منطقة اسمها المربعات فكلمني بشير صالح مدير مكتب معمر القذافي وقال تحرك الآن لمنطقة المربعات، وهي منطقة تشبه المحمية فيها ابل وغنم وأشجار. فذهبت ووجدت معمر في الهواء الطلق وتحدثنا عن هذا المؤتمر. ثم قلت له اسمح لي سأكون قليل الأدب. وبنكتة قال لي أنت دائماً قليل الأدب. قلت له البلد ضائعة وأصبحت جيفة والدود يخرج منها، وأنت الوحيد الذي تستطيع أن تنقذها ولكن لا أريد أن أتحدث في غياب البغدادي رئيس الوزراء وهو صديقي وزميلي. وأنا عادة لا أتحدث من وراء الأشخاص. عندما أريد أن أنتقد شخصاً أقول أرجوك استدعه. نادى على السكرتارية وأشار قل للبغدادي أن يحضر الآن. فعاد (السكرتير) يقول سيدي البغدادي (يبلغك) انه في اجتماع هام وسيأتي في ما بعد. حدثته عن البطالة، حدثته عن أولاده: سيف غير مهتم . حدثته عن التعليم، عن الشفافية، عن مجمل الأوضاع وكان يقول لي معك حق، معك حق، صحيح، صحيح... ثم قال لي يا عبدالرحمن عندما أتينا للسلطة الذي كان لديه خمسة أشخاص أصبح لديه خمسين وخمسمئة، كل شخص انحرف، الذي لم يكن «يخمر» أصبح الآن «يخمر»، الذي لم يكن يزني أصبح يزني، الذي لم يكن يسرق أصبح يسرق. ونحن كبرنا ويجب أن نسلم كل شيء لأولادنا. قلت له أيها الأخ القائد أنا معك لكن أبنائي ليسوا معك، هم يريدون عالماً آخر. قال لي حتى أولادي ليسوا معي، أولادي مثل أولادك. حدثته عن النظام الإداري في الدولة. كان متجاوباً ومتفهماً وغادرت. في اليوم التالي كلمني الأخ محمد الزاوي أمين المؤتمر الشعبي العام (مثل رئيس البرلمان) فقال لي مرّ عليّ. ذهبت إليه وقال لي كلمني الأخ معمر وأبلغني أنه مر علي عبدالرحمن شلقم وكان غاضباً ومتشائماً وزعلاناً، فاستدعي البغدادي المحمودي (رئيس الوزراء) وتباحثوا. جاءنا البغدادي. لا أريد أن أروي ما حدث حتى لا أسبب لهم مشاكل الآن. لكن في العموم قالوا هناك أخطاء وقلت للبغدادي إنه لا بد أن تستقيل، الناس كلها تلومك. جاء أحمد قذاف الدم ثم دخلت الى غرفة وحدي مع البغدادي وتحدثنا بصراحة مطلقة وقال لي هناك فساد، واشتكى من أشياء كثيرة وغادرنا. في المساء زارني محمد الزوي في بيتي وقال لي الوضع صعب والإصلاح صعب لكن لا بد أن نتحمل. قلت له الى متى؟ تحملنا 42 عاماً، متى الإصلاح؟ فقال لي ما رأيك أن نعقد المؤتمر الشعبي العام وأنت تشكل اللجنة الشعبية العامة باختيارك، أي تشكل الحكومة. قلت له بعد أن ماتت ليبيا وأصبحت جثة تريدني أن أطبخها وأقدمها لليبيين. أنا لا استطيع وقد أغادر ليبيا ولا أعود. محمد الزاوي صديقي ومثل أخي وبيننا مودة وعلاقة قديمة وحميمة. كلمني في اليوم التالي أبو زيد دوردة مدير الاستخبارات (كان سابقاً رئيس وزراء وسفيراً في الأممالمتحدة) هو شخص أيضاً وطني وينتقد ولا يرضى بالفساد، وعلاقتي به حميمة وأبلغني أنه آت الي. جاءني وقال إنه سمع كلاماً من محمد الزاوي أزعجه فقد قال إنك تفكر أن تغادر ولا تعود وهذا غير معقول وعيب. فقلت له كانت لحظة غضب فقط، فقد خفت من الاعتقال أو من منع السفر وتحدثنا واعترف أن هناك فساداً وأن الإصلاح صعب وهذا ما حصل. هل كنت قد اتخذت قرارك؟ - أنا فكرت مرات عدة من قبل. حتى عندما استدعيت من إيطاليا عام 1994 فكرت ألا أعود الى ليبيا كما أغلب زملائي - 99 في المئة من زملائي - في الجامعة في مصر. وحتى في مصر كان لدي موقف. عندما كنت رئيس اتحاد الطلبة الليبيين في مصر كنت مشاكساً، ولدي كتابات تصادر، ومقالات، ولكن معمر كان يدافع عني. طبعاً هو استفاد من علاقاتي ولغاتي وعلاقاتي بالعالم الخارجي لحل مشاكله. وحللت له قضية لوكربي وأسلحة الدمار الشامل و «يوتا». أنا فتحت له الأبواب الى أوروبا، وفتحت له الأبواب الى الأممالمتحدة. أغلب من حوله كانوا من المزايدين الكذابين أمام القائد نحن كذا وكذا وشعارات، ثم يقولون لي أنت تتصرف صح. كانت لدي الجرأة ومعمر أعطاني الهامش. وأنا أقولها دائماً للأمانة إن القذافي أعطاني هامش المثقف ولم يضعني في قفص الموظف. هو استعملني واستفاد من رؤيتي ومشاكستي ومن رؤيتي للعالم. صحيح. معمر قالها لأحد الأصدقاء إنه في هذه الأزمة افتقدَ عبدالرحمن شلقم. الهوني وجلود أريد سؤالك عن أشخاص: كيف ترى عبدالمنعم الهوني المعارض حالياً والذي كان عضواً في مجلس قيادة الثورة لدى قيامها؟ - عبد المنعم الهوني من طرابلس رجل حضري والفرق بينه وبين القذافي مثلاً أن الهوني كان يذهب الى مصر وهو ضابط قبل الثورة. يلتقي في طرابلس بالمثقفين وكان الرجل الثاني في الثورة مثل عبدالسلام جلود. وكان يقول، عندما يؤجلون موعد القيام بالثورة، لماذا تخافون من الثورة أنا استولي على النظام. عبدالمنعم اتخذ موقفاً مبكراً وقال لي أحسست أن معمر تغير من بداية السبعينات ويريد أن يستولي على السلطة واتخذ موقفاً. طاردته أجهزة القذافي لسنوات؟ - كان مستهدفاً لا يزال على قائمة التصفيات. إنسان وطني لا غبار عليه، مخلص متحضر وهو زاهد لا يريد منصباً إطلاقاً. يريد فقط ليبيا حرة. وأنا أحترم وأكبر هؤلاء وأنا منهم. أنا لا أريد منصباً أريد فقط قبراً في ليبيا الحرة. ألا تريد منصباً في ليبيا الجديدة؟ - أريد قبراً في ليبيا الحرة. أن أنام في تربة حرة فقط. أي نوع من الأشخاص هو عبدالسلام جلود بحكم معرفتك به؟ - ربطتني به علاقة قريبة وهو عرف العالم، عكس معمر، سافر وانفتح وجالس وحادَثَ. ينفعل ويغضب لكن قلبه أبيض لا يحقد. كنت أصطدم به ويحبني. هو اتخذ موقفاً ولم يُهمّش. هو الوحيد الذي يصرخ في وجه القذافي ويقول رأيه. في بداية التسعينات اتخذ موقفاً. هو يتكلم وينتقد ولا يرضى الخطأ وهو رجل دولة. فكل محاولات التطوير والتنمية والنهضة الاقتصادية التي جرت في السبعينات الفضل فيها لعبدالسلام جلود. شخص لا يقبل الفساد يرفع صوته على معمر. وعندما رأى أن الأولاد بدأوا يتدخلون انسحب باحترام. وفي مؤتمر في بنغازي قال للأخ معمر أنت غلطان. كان يريد تنمية ويريد إسكاناً. وقلتها مرة في محاضرة وأنا وزير للخارجية دافعت عن عبدالسلام جلود فالناس اعتبرتني مجنوناً وكتب في الصحف الليبية: «شلقم يدافع عن جلود». وأبو بكر يونس؟ - إنسان طيب كان نظيفاً لكن أولاده ورطوه وتورط في الفساد وورط معمر في مستنقع الفساد. وهو الآن من أكبر الفاسدين في ليبيا وأولاده جنوا الملايين، إنه الآن يصفق للدم. انحاز الى القذافي ويدافع عن القتل للأسف، كان رجلاً طيباً ونظيفاً وقومياً لكن الآن نعتبره مجرماً ومطلوباً لدى الانتربول وسيجد نفسه أمام محكمة الجنايات. أبو بكر مجرم ومن قتلة الشعب الليبي. كيف تنحاز لشخص ضد شعبك؟ كيف تحول القذافي من شاب بسيط متواضع الى ديكتاتور من هذا النوع؟ القذافي كان ضابطاً صغيراً متحمساً هل السلطة تصنع «الوحش»؟ - يمكن هنا العودة الى فرويد ويونغ وآخرين والحديث عن تأثير الطفولة والمحيط الاجتماعي والأصدقاء. معمر كان مقموعاً من أبيه محمد عبدالسلام بومنيار الذي كان بين من جندهم الإيطاليون لمحاربة الليبيين. جثمان والد معمر هو الآن في مقبرة الشهداء، كان مجنداً في كتيبة «باندة» في سرت وحارب الليبيين، والده ليس مجاهداً. وهناك تأثير صورة عبدالناصر والقمع والفقر. وهناك أيضاً ضغط السنوات الطويلة والتوتر الناتج من ممارسة الحكم. أخبرنا عن قصة تنصيبه نفسه ملك ملوك أفريقيا. - أنصحك بكتاب بالفرنسية عنوانه «تشريح طاغية». كنا في بنغازي في 30 آب (أغسطس) 2009 قبل مغادرتي الى الأممالمتحدة وكنا في «الهواري» في مزرعة معمر أنا وبشير صالح، مدير مكتبه، كنا راجعنا الاتفاقية والمعاهدة واتفقنا على أن يزورنا برلسكوني. ثم جلسنا أنا وبشير نأكل المعكرونة فقال لي أنه زعلان ومنزعج. وسألته عن السبب فقال: «صاحبك سيعلن نفسه ملك الملوك». استفسرت: «ملك ملوك مَنْ؟». أجاب: «ملك ملوك أفريقيا»، وكان في غاية الانزعاج. وأضاف: «أبلغني أنه جهز تاجاً وأساور وخواتم وسيعلن ذلك اليوم أو غداً وهذه كارثة». قلت: «أنا لا أصدق ذلك، دعني أذهب للتحدث إليه». قال لي: «لا تحاول ذلك فقد قال لي أنا رجل غير مسبوق في التاريخ ولم ينصفني أحد. الأفارقة قرروا أن ينصبوني ملكهم وهم أفضل منكم. وسألبس التاج وسأري العالم أنني أنا ملك الملوك أنا رجل غير مسبوق». قلت لبشير: «هل تمزح؟». وضع كفيه على جبهته وقال: «يا أخي هذا ما حصل». سألته: «هل تحدثت مع سيف الإسلام»؟ فأجاب: «نعم، وسيف الإسلام بكى وصُدِم». قلت له: «دعني أتحدث إليه فهو في الخيمة قربنا». فرد: «انتبه لا تذهب إليه سيؤذيك». قلت لبشير: «هذا وضع خطير وسيسيء إلينا جميعاً»، فأجاب: «أنا لا أستطيع أن أفعل شيئاً ولا أنت». قلت: «ما الحل»؟ فأجاب: «لا حل مع هذا الرجل. ركب رأسه». قلت له: «الإيطاليون يقولون عنه هذا الرجل ممتلئ بذاته مثل البطيخة عندما تكون كلها قشور ظاهرها وباطنها». وبشير كان غاضباً وزعلاناً لأنه يحب معمر. وفوجئنا أنه فعلاً ظهر (بتلك الهيئة) وهذه كانت صدمة لليبيين وساهمت في انطلاق الثورة ضده لأن الليبيين فقدوا كل أملهم فيه ونظروا إليه أنه أصبح إنساناً غير عادي، إنساناً مريضاً، إنساناً مجنوناً، إنساناً أهبل، شاذاً لجهة لباسه. ما قصة ملابس القذافي الغريبة؟ - ملابسه نوع من الشذوذ ليقول أنا أختلف عنكم يا معشر الناس، وهذه ليست سمة معمر القذافي فقط فكل الديكتاتوريين والمشوهين والذين يعانون من العُصاب ومن الشذوذ يحاولون أن يختلفوا عن الآخرين. نحن كلنا نلبس بدلة وربطة عنق ومتشابهون، أما هو فيريد أن يقول إنه يختلف عنا. والاختلاف بيننا لا تستطيعون أن تصلوا إليه. أنا ألبس ملابس لا يستطيع أن يفكر أحد في لبسها. إذاً المسافة في الاختلاف بيني وبينكم ليست قابلة ليس فقط للتطبيق بل لمجرد التفكير فيها: الألوان الفاقعة مثلاً. أنا لو أعطيتني 100 مليون دولار وقلت لي البس ملابس القذافي أقول لك لا. يعني يكون حينها ذهابي الى «العصفورية» (مستشفى المجانين) أفضل لي. وعند إعلانه نفسه ملك ملوك أفريقيا أعتقدت جازماً أن الليبيين سيبدأون الثورة ضد القذافي حتى قبل أحداث تونس وقد سمعت ذلك بالفعل من الحلقة القريبة منه فقد كانوا في حالة غضب وبؤس. من نصحه أن ينصب نفسه ملك ملوك أفريقيا مثلاً؟ - لا أحد. هذا خبط عشواء تفكير العُصاب الشاذ. من أصدقاؤه في أفريقيا؟ - معمر ليس لديه أصدقاء حتى أن بعض الرؤساء يتملقونه من أجل حفنة من الدولارات وبمجرد أن يغادر يبدأون بشتمه وهذا حصل معي مثلاً رئيس تشاد، ورئيس بوركينا فاسو. يكونون مع القذافي يمتدحونه ويمجدونه ثم عند توديعي لهم في المطار يقولون أنتم موقعكم أفضل وأنتم أقرب الى أوروبا أنظروا الى دبي فهي أفضل منكم. لماذا اهتم القذافي بتشاد الى هذا الحد؟ هل كان يطمح أن يسيطر عليها؟ - لا لكن قبيلته القذاذفة كان 80 في المئة منهم في تشاد عادوا الآن الى جنوب ليبيا والى سرت. كلهم لهم علاقة بتشاد ويحبون الإبل والمراعي وتشاد أنسب لهم. حتى معمر إذا هرب ولديه علاقة برئيس تشاد ويقال أن لديه حاويات من الذهب والدولارات موجودة في تشاد. إذا هرب نقبض عليه بالنار والبارود. أما إذا تم ترتيب خروجه فلن يذهب الى تشاد سيذهب الى مكان آخر. أي إذا كان هارباً سيذهب الى تشاد وإذا غادر بترتيبات لن يذهب إليها لكن لا أعلم الى أين. هل تعتقد انه سيقبل بترتيب لخروجه في النهاية أم ينتحر؟ - إذا ضغط الثوار جدياً واقتربوا من طرابلس أعتقد أن معمر سيخضع وسيغادر مع عائلته الى مكان يأمن فيه نفسه. معمر لا ينتحر لأنه يؤله نفسه. لو وضع حول عنقه حبل المشنقة لن يكون مثل صدام أبداً، لا مقارنة بين معمر وصدام. صدام مجرم، مجنون، شاذ، لكن ممتلئ بالشعارات المريضة، معمر ممتلئ بذاته هو لا يمتلئ إلا بذاته. هل عرفت ماذا كان تعليق القذافي عند بدء الأحداث في تونس؟ - معمر عندما علم بما حدث في تونس ظهر على قناة «نسمة» منتفخ الوجه وواضح أنه أجرى حقناً في وجهه (من شدّ للوجه أو ما شابه) وكان منهاراً وكان يخطط أن يعيد بن علي الى تونس بأي ثمن. لولا الانفجار في ليبيا لكان معمر مستعداً أن يصرف كل ثروة ليبيا لإعادته لأن سقوط تونس يعني سقوطه هو، ثم انفجرت مصر. معمر كان في سبها عند سقوط (النظام في) تونس. في جميع أنحاء ليبيا عمارات جاهزة منفذة لتوزيعها وكان حينها في سبها فقال على جميع الليبيين في كل مكان الدخول الى هذه العمارات: نصف مليون وحدة سكنية لم تُشطّب بعد في كل أنحاء ليبيا: في طبرق، مصراتة، طرابلس، سبها، بنغازي... خلال ساعتين، ثم قال على الجيش أن يخليهم من هذه المباني. وهنا كانت «اللعبة» (الخدعة) عند إخراج الناس دخلت كتائب القذافي وأدخلت السلاح الى هذه المباني وكانت تمثيلية. معمر عند حصول الأحداث في تونس وسقوط بن علي كان في سبها فقال يا ليبيين خذوا المباني الجاهزة للسكن وقال لليبيين: «احتلوها». ثم في اليوم التالي طلب من الكتائب إخلاء الناس وأن يأخذوها هم فكانت فرصة للكتائب للدخول الى المدن وأدخلت السلاح. هذا البرنامج أعده القذافي حتى قبل أحداث مصر. ولهذا الساسة عندنا لا يعرفون الفرق بين الدهاء والبلطجة. القذافي ولبنان ماذا كان القذافي يريد من لبنان؟ - معمر يعيش على قناعات السلفية القومية ويخضعها لمصلحته. الحقيقة انه شخص غريب. لا يؤمن بالقومية العربية. ولا يؤمن بالوحدة العربية. لا يؤمن إلا بمعمر القذافي. كل شيء يخضع لشخصه ويخدم شخصه. قضيته الوحيدة هي معمر القذافي بسلطته وصورته. كان القذافي يعتبر لبنان مصنعاً للزعامة العربية. ويراه بلداً مفتوحاً يمكن أن تستأجر فيه أحزاباً وجمعيات وكتاباً وصحافيين وشعراء، أي أنك تعثر على من يهتف باسمك ومن يلمع صورك ومن يتحدث عن إبداعاتك. اعتبر أن شيئاً من زعامة عبد الناصر صنع في بيروت. وأن ثورة 1958 هناك كانت الحدث الثاني لعبد الناصر بعد معركة السويس قبل ذلك بعامين. ثم أن بيروت كانت تستضيف الثورة الفلسطينية بعد أخراجها من الأردن. كان يعتبر أن الدكاكين السياسية في لبنان هي التي ستصنع الكيمياء التي ستنتج منها زعامته. كان يعتبر أن الولاء في لبنان يباع على الرصيف. تستطيع حتى شراء فنانين. وهناك العلاقة العنكبوتية المركبة بين معمر وسورية. هناك تماس مع إسرائيل والمادة الإسرائيلية ضرورية لصنع الزعامة عبر الحديث عن المقاومة والتحرير والقومية. كل هذه الخيوط موجودة على أرض لبنان. أحب معمر لبنان المحتوي على هذه الخيوط وأنفق فيه بشكل فظيع ثم طوى الصفحة لاحقاً ولم يعد يتحمس لشيء. قبل سنوات قلت له: إننا نحتاج سفارة في بيروت حيث شوهت صورتنا ثم أن وجودنا هناك يساعدنا على متابعة أي حراك عربي. اقترحت عليه أن نشتري التفاح من لبنان بدلاً من أن نستورده من بلدان بعيدة. قال لي: سنتحدث في هذا الموضوع في وقت آخر. في المرة التالية عدت الى الموضوع فقال لي: «هذا الموضوع خط أحمر. انسَ لبنان». مع من كانت له علاقة قوية في لبنان؟ - لا يقيم مثل هذه العلاقات. يتعاطى على قاعدة إما أن تجلب لي منفعة أو تدفع عني ضرراً. أثناء وجودي في وزارة الخارجية كانت العلاقات مجمدة أما العلاقات مع «الحركة الوطنية اللبنانية» في مرحلة سابقة فلم أكن مشاركاً فيها. طبعاً كان يجلس جلسات طويلة مع وليد جنبلاط ومحسن إبراهيم وجورج حاوي وعاصم قانصوه. لمعمر مشكلة مع اللبنانيين. هو القائد والزعيم والمفكر لكن اللبنانيين كلمنجيون ويحبون النقاشات والأخذ والرد وهو ما لا يستسيغه. فعل القذافي أشياء مشابهة في دول أفريقية. يأتي بشخص ويغدق عليه الأموال ثم يطلب منه تنفيذ انقلاب وإذا نجح يلجأ بعد فترة الى دعم شخص ضده. فعل ذلك في النيجر وتشاد وغيرها. كانت لدى معمر نظرية مفادها أن جارك يجب أن يكون غير مستقر لأنه إذا استقر يصبح خطراً عليك. ناقشته مرة في هذه النظرية وقلت له إننا يمكن أن نستفيد من استقرار الدول المجاورة وجادلني بعض الحاضرين لكنه قال إنني محق. أحياناً يتظاهر بالاقتناع من دون أن يغير سياسته. معظم الأوقات كان يقتنع بنظرية من يقولون إن الجار يجب أن يبقى ضعيفاً كي أبقى أقوى منه. إنه يحب التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى لأنه يبحث عن أتباع. كان يحلم أن يقلد عبد الناصر كأن يقول للقادة العرب هناك قمة ستعقد غداً فيسارعون الى الحضور ولا يغيب أحد. هذه كانت عقدته. حاول أن يفعل ذلك ولم ينجح. وكان هذا سبب كرهه للعرب في مرحلة لاحقة وتوجهه الى أفريقيا. الأفارقة مساكين في غالبيتهم. فقراء. يأتون إليه ويجاملونه. يجلس هو على كرسي عال ويقبلون الجلوس على كراس أقل. يعطي لهذا خمسين ألف دولار وعشرين لذاك وعشرة لثالث. العرب رفضوا الخضوع لمعمر القذافي باستثناء من هم على استعداد أصلاً لبيع ولائهم. متى قررت قطع علاقتك مع القذافي؟ - في 15 شباط (فبراير) خرج الشباب في بنغازي وانتهت الامور على خير. التصعيد حصل في احداث يومي 16 و17 شباط التي لم تغطّها حتى قناة «الجزيرة». أولادي لديهم أصدقاء في بنغازي تحادثوا معهم فقالوا لهم اليوم مات فلان وفلان وفلان. يوما 17 و 18 شباط، قتل ابنا عبدالله السنوسي ومحمد اسماعيل أشخاصاً في منطقة جسر جيليانة فسقطوا في بحيرة «23 يوليو» كالفراشات. ثم خرجت تظاهرات في طرابلس تؤيد بنغازي. كنت يومها كلمت كل المسؤولين في ليبيا باستثناء معمر وقلت لهم: يا إخوان هذا خطأ لا تقتلوا. اذا قتلتم فسيقصفونكم بالطائرات، قالوا كذب. ثم رأينا طائرات «الميغ» الليبية في مالطا، والطيارون يقولون: كُلّفنا ضرب بنغازي ونحن الآن في مالطا. كلمت وزير خارجية مالطا فقال لي: نعم هناك طائرات «ميغ» ليبية لدينا والطيار اسمه فلان الفلاني واذا أردت يمكنه التحدث اليك. كلمت طرابلس قالوا لي: كذب. غير معقول. هل تلتزم مالطا وتعترف بأن لديها طائرتي «ميغ» وطيارين وصواريخ، وكان يمكن أن أكون أسجل كلامهم وقتها، كذب. كلمت طرابلس يومها ربما خمسين مرة. حاولت أن أكلم معمر قالوا لي: بعد قليل ولم يكلمني. ثم طلع علينا بخطابه العظيم، قال: «من أنتم؟ أنتم جرذان». وكان هناك يومها 17 قتيلاً في تاجوراء قرب طرابلس. ثم يقول: من أنتم يا جرذان. لماذا تقتلنا وتشتمنا يا معمر ونحن أحببناك وصبرنا عليك وسامحناك وبددت أموالنا؟ كم شخصاً قتل معمر القذافي منذ بداية حكمه؟ - لا معلومات لدي، لكن الآن بعد الأحداث الأخيرة يقولون ان القتلى عشرون ألفاً وأنا أعتبر النصف، عشرة آلاف وهذا عدد غير قليل. وكشفت موقفك في مجلس الأمن؟ - أنا ألقيت كلمتي في مجلس الأمن يوم 25 شباط. بدأت الأحداث في 15 شباط في بنغازي، وبدأ بوصفها ل «الجزيرة» صديقي ليث المسماري، وهو من سجناء «الأسبوع السياسي» الجريدة التي كنت فيها، وقد سُجن في طرابلس وعُذِّب والآن هرب وأصبح في بنغازي. كنت أتصل يومياً وأكلم المسؤولين وأرجوهم أن يوقفوا القتل فيقولون: لا يمكن، الى أن وصلنا الى يوم 19 شباط حين أبلغ صديق ابني في بنغازي أن اشخاصاً ماتوا وضُربوا وقُتلوا في التظاهرات. وكنت أتصل بطرابلس، وأقول: هناك شباب قتلوا فينفون، ثم هناك قصف بالطائرات فينفون. وجاء يوم 20 شباط وهم ينفون. وأنا كل يوم أنصحهم وأقول لهم: يا إخواننا قولوا ما هي حصيلة القتلى وهم يرفضون. كلمت أمين المؤتمر الشعبي العام محمد الزاوي، وبشير صالح مدير مكتب معمر القذافي، عبدالله السنوسي، البغدادي المحمودي وموسى كوسى. يوم 21 شباط ظهرت على «الجزيرة» وقلت له: يا أخ معمر السلطة لا تعني شيئاً والبلد أهم، أرجوك أن تتنازل وتترك الشعب الليبي. لم يرد عليّ القذافي. في اليوم التالي كلمني سيف الإسلام معمر القذافي وقال لي: يا أخ عبدالرحمن ما هذا الكلام الذي قلته؟ وقال لي: لدي سؤالان محددان من معمر القذافي: ماذا تعتبر معمر القذافي بالنسبة اليك؟ قلت: أبي. قال: وأنا؟ قلت أخي. قال: «صافي يا لبن». قلت: «صافي يا لبن». قال: «لا مشاكل». قلت له: انني انفعلت وزعلت. قال: اذاً انت سفيرنا وتبقى وأنا أبلغ القائد أن الأمور على ما يرام، قلت له: لا مشكلة. وأنا في ذلك اليوم كنت أعد القرار الرقم 1970. لو كنت تحدثت (بطريقة مختلفة) لكانوا أرسلوا برقية تقول إن عبدالرحمن لم يعد مندوب ليبيا ولضاع كل شيء. فأنا بلفته وهذه السياسة. وكلمني عبدالله البغدادي من «اللجان الثورية» ومحمد الزاوي ورئيس الوزراء باستثناء القذافي وأنا أقول لهم OK بينما أعمل على قرار مجلس الأمن الرقم 1970 وهو أخطر من القرار 1973. قابلت أعضاء مجلس الأمن ورئيسة المجلس وكانت سفيرة البرازيل التي قالت لي: يا عبدالرحمن هذا الكلام خطير وهناك في المشروع كلام عن تحقيقات، فقلت لها: هذا الكلام الذي يريده معمر القذافي وهؤلاء قاموا بالمذبحة من دون علمه. وعلينا أن نضغط عليهم ونساعد معمر. زرت السفراء وبينهم السفير الروسي وقلت هذا ما يريده معمر والقرار 1970 بطلب من معمر القذافي. ومن حُسن حظي أنه قبل ذلك بيومين تكلم بان كي مون مع معمر القذافي الذي قال له: ما يقوله لك عبدالرحمن اعتبره ما أقوله أنا وعبدالرحمن صديقي وأنا فوّضته. وقلت: إن من قاموا بالمذابح يعملون ضد القذافي ونريد تحويلهم الى محكمة الجنايات، وجاء التصويت بالإجماع. في اليوم التالي ظهر سيف الاسلام وقال ان عبدالرحمن شلقم «ضحك» علينا. في اليوم الأول قلت لكم أن ترسلوا برقية الى الأممالمتحدة بأنه لم يعد مندوباً. كان علي ان افعل ذلك لأن الشعب يقتل. ألقيت كلمتك في 25 شباط، فماذا حدث؟ - عانقني كل الأعضاء في مجلس الأمن وبان كي مون والجمهوروالصحافيون. كيف تقضي وقتك الآن؟ - أنا الآن وقتي كله لتعبئة التأييد للمجلس الوطني الانتقالي وشرح قضيتنا. ونعمل على معالجة الجرحى الليبيين وأمنت العلاج لقسم منهم في ايطاليا وذهبت أيضاً الى مالطا لتأمين العلاج لهم، ونعمل على تأمين مستشفى للمعاقين في مصراتة (إعادة تأهيل). نحاول تأمين أموال للمجلس ونحشد التأييد للمجلس وهذا عملي. الحقيقة انني اجتمعت مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، وهو صديق قديم، وقلت له: «أنصحكم أيها الروس وأنتم قوة كبيرة ألا تعادوا المستقبل العربي وألا تؤيدوا الطغاة لأنه لن يكون لهم مكان. ثلاثة أشياء لن يكون لها وجود في التاريخ بعد الآن: الاستعمار، سوق العبيد والديكتاتورية. أيها الروس لا تعادوا المستقبل العربي، ولا تؤيدوا معمر القذافي ولا تؤيدوا علي عبدالله صالح ولا تؤيدوا بشار الاسد، بل انضموا وتحالفوا مع المستقبل العربي فالمستقبل للحرية والنهضة والمجتمع المدني».