على بعد نحو 644 كيلومترا شرق اسطنبول، في قلب منطقة الأناضول، تبرز منطقة صناعية ضخمة وسط سهول ترابية. وتقع هذه المنطقة في إحدى ضواحي مدينة قيصري، وهي جزء من الازدهار الصناعي في مدن الأقاليم التركية، التي نشرت الثروة والرخاء. منذ عشر سنوات، لم يكن هناك وجود لكثير من هذه المصانع. أكبر الصناعات هنا هي صناعة الأثاث، حيث يصدر الكثير من المصنوعات إلى أوروبا، وبشكل متزايد إلى أسواق جديدة في الشرق. ويرجع السكان حصة الأسد من الفضل في هذا الرخاء الحديث إلى رئيس الوزراء رجب طيب اردوغان. "سواء كان الناس يحبونه أم لا فإنهم يرونه زعيما.. زعيما قويا"، حسبما تقول شفق سيفيك، شريكة الملكية في شركة سيفيس للأثاث. وترى سيفيك أن الأوضاع بعيدة عن كونها مثالية وأن الاقتصاد تعثر قليلا في الآونة الأخيرة، لكن السنوات العشر في ظل قيادة اردوغان شهدت تغير الطريقة التي تدار بها الأمور. "لقد منح الناس الشجاعة لكي يكونوا أكثر انفتاحا بشأن معتقداتهم الدينية، وكذلك لاستثمار المزيد. إنه نوع جديد من الهوية.. أن يكون المرء متدينا ومحافظا، وفي الوقت نفسه أكثر انفتاحا للقيام بأعمال تجارية." معسكر تضامن وتعتبر مدينة قيصري مكانا محافظا، وينتمي سبعة من إجمالي تسعة نواب لها في البرلمان لحزب العدالة والتنمية بزعامة اردوغان. لكن في قلب المدينة، هناك أيضا مزيج تركي من التقليدية والحداثة. فهناك خط ترام من أحدث طراز يقل ركابا وهو يمضي بمحاذاة جدران سميكة من الحجارة ترجع للعهد السلجوقي. كذلك، بوسعك أن ترى شابة ترتدي أحدث الموضات الغربية وأخرى ترتدي أحدث الموضات الإسلامية. "سواء كان الناس يحبونه أم لا فإنهم يرونه زعيما.. زعيما قويا" شفق سيفيك بالمقابل، يشكو رجل جالس في متنزه من الصعوبة المتزايدة في العثور على مكان لبيع المشروبات الكحولية. ومع ذلك، يقول إن هناك كميات كبيرة من المشروبات الكحولية تستهلك خلف الأبواب المغلقة. وربما يكون هذا مثالا على التدين العلني الذي يزعج بعض الأتراك. في إحدى زوايا المتنزه، هناك معسكر صغير أنشأه ما يقرب من عشرين شخصا معظمهم من الطلاب. نصب هؤلاء خياما وعلقوا لافتات ضخمة على الأشجار لإظهار تضامنهم مع الاحتجاجات التي اجتاحت اسطنبول ومدنا تركية أخرى. "نشعر بالضغط إلى حد ما هنا. الأمر صعب علينا"، حسبما يقول أحد الطلاب. رؤى متنافسة في مدينة قيصري، دعم المحتجين هو رأي الأقلية. ويقول رجل يدعى عثمان "طيب اردوغان على تماما في أسلوب تعامله مع هذا الأمر. كل ما تفعله الحكومة هو لصالح بلادنا." رجل آخر، يدعى سليمان، يقول إنه لم يصوت لاردوغان لكنه يعتقد أن حزب رئيس الوزراء يعمل باجتهاد. وفي إشارة إلى شكاوى بعض المحتجين، يقول سليمان "تركيا ليس لها علاقة بالديكتاتورية"، مضيفا "بوسع كل شخص أن يفعل ما يحلو له." خارج المدينة، وفي واحدة من آلاف القرى الصغيرة في الأناضول، يتم تلقيح قطيع من الخراف، وقد جاء الجيران للمساعدة. الحياة في قلب الريف تسير وفقا لمجموعة من العادات والتقاليد القديمة والحديثة. مع الوقوف بوسط حديقة من الشجر، فيما يلوح عن بعد جبل إرجييس الذي تغطي قمته الثلوج، تبدو الاحتجاجات في ميدان تقسيم والمناطق المحيطة به فجأة وكأنها في عالم بعيد. يقول إردين إن الاحتجاجات لا علاقة لها بهم بعيدا عن اسطنبول ويقول راع بالمنطقة يدعى يوكسيل إردين "نحن دائما مع الغنم على الجبال. أنام هناك في معطف كبير من الصوف واسمع عن هذه الأمور عبر الراديو." وإردين له شكاوى متعلقة بالضرائب والبيروقراطية. "لكن هذه المشاكل.. هذه الاحتجاجات.. لا علاقة لها بنا.. لا تؤثر علينا. نراقبها من بعيد فحسب." ويعد هذا تذكيرا بأن هذا بلد المتناقضات، وأن هناك تنافسا في الرؤى بشأن الاتجاه الذي يمضي به. في قيصري، يبقى الدعم لرئيس الوزراء قويا لكنه ليس مطلقا. لقد أضفى اردوغان الديمقراطية على الاقتصاد وقلل بحزم نفوذ الجيش في السياسة. لكنه كذلك يرأس نظاما سجن عددا غير مسبوق من الصحفيين، واكتسب شهرة بعدم التسامح مع الآراء المعارضة. لقد غيّر هذا البلد خلال العقد الماضي، وبعض الناس لا يروق لهم هذا، أو على الأقل لا يروق لهم أسلوبه. لكن ملايين الأتراك يرون أن التغيير في مجمله كان للأفضل.