ربما تكون أعنف أعمال شغب تشهدها تركيا خلال عقود بسبب هدم متنزه صغير في اسطنبول لكنها تفجرت لتتحول الى استعراض لتحدي ما يرى كثيرون انه تسلط متزايد من جانب رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان. وضاعف حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الاسلامية الذي يتولى السلطة منذ اكثر من عقد من نصيبه من الاصوات في كل من الانتخابات الثلاثة الاخيرة التي كانت ايذانا باستقرار سياسي لتشهد البلاد بعضا من أسرع معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا. والآن وفي الولاية الاخيرة لرئيس الوزراء يحاول أردوغان ترك بصماته على تركيا من خلال اعادة صياغة سياستها الخارجية واصلاح الدستور بل وتغيير الطابع المعماري العتيق لاسطنبول. لكن البعض وبينهم مؤيدون سابقون يتهمونه بالتسلط المفرط وتكميم الاعلام وتشديد قبضة حزب العدالة والتنمية الذي ينتمي اليه على مؤسسات الدولة واقحام الدين في قلب السياسة في انتهاك للدستور العلماني لتركيا. وقالت توجبا بتيكطاش وهي خريجة جامعية عاطلة عمرها 25 عاما قبل ان تنضم الى الاحتجاجات المناهضة للحكومة في وسط اسطنبول في ساعة متأخرة من مساء السبت "لو كان الامر متروكا لرئيس الوزراء لكنت اضطررت لارتداء الحجاب." وقالت قبل ان تضع نظارة سباحة واقية وكمامة طبية لتجنب آثار الغاز المسيل للدموع "كل ما يقلق هذه الحكومة هو مكافأة نفسها. واولئك الذين لهم صوت مخالف مهمشون. وهذا هو ما أحتج عليه". وكانت بتيكطاش واحدة من عشرات الاف الاتراك الذين يحتجون في اسطنبول حيث اصيب أكثر من 1000 شخص في ثلاثة ايام من الاشتباكات مع قوات الامن. وجرت احتجاجات مماثلة في العاصمة أنقرة ومدن أخرى في أنحاء البلاد. واتهم أردوغان حزب الشعب الجمهوري وهو حزب المعارضة الرئيسي باذكاء المظاهرات بينما حذر مسؤولون حكوميون آخرون من ان الاضطرابات مؤامرة لتهيئة الساحة لتدخل الجيش مثلما حدث في الماضي. لكن المحتجين ينتمون الى خلفيات سياسية متباينة سواء كانوا دعاة لحماية البيئة أو قوميين أو ينتمون لليسار المتطرف. ولا بد ان شدة الاحتجاجات هزت أردوغان الذي فاز حزبه بأكبر نصيب من الاصوات في الانتخابات التركية خلال عدة عقود ويتردد الان انه يضع نصب عينيه تولي الرئاسة قبل ان تنتهي في عام 2015 ولايته الاخيرة في فترات رئاسة الحكومة الثلاث التي فرضها هو. وينظم رئيس بلدية اسطنبول السابق البالغ من العمر 59 عاما حملة من اجل التغيير السياسي الذي سيمنح صلاحيات تنفيذية لمنصب الرئيس الشرفي بدرجة كبيرة. وعالج أردوغان بعض المشاكل الشائكة في تركيا ومن بينها مبادرة سلام رئيسية هذا العام لانهاء حرب عمرها 28 عاما مع متشددين أكراد. وهو شريك مهم للولايات المتحدة في جهودها لانهاء الحرب الاهلية في سوريا رغم ان استطلاعات الرأي تبين ان سياسة الحكومة نحو جارة تركيا لا تحظى بشعبية. ومحور الاحتجاجات ميدان تقسيم في اسطنبول ومتنزه جيزي وهي رقعة خضراء في أسرع مدن اوروبا نموا والتي تخصص 1.5 في المئة فقط من اراضيها للمتنزهات العامة وفقا لتقرير ثقافة المدن العالمية. وتحولت مجموعة من اربعة متظاهرين يحاولون منع قطع خمس اشجار في اطار مشروع لتوسعة شارع في الاسبوع الماضي الى الاف الاشخاص الذين أقاموا مهرجانا في متنزه جيزي شمل اقامة حفلات والقاء كلمات وجلسات يوجا. وهم يعارضون خطة لتحويل ساحة تقسيم الى منطقة للمشاة وازالة متنزه جيزي لاعادة اعمار ثكنة عسكرية من العصر العثماني ترجع الى القرن التاسع عشر كانت تميز الحدود الخارجية للمدينة. وقال أردوغان ان هذه الارض في شكلها الجديد يمكن ان تستخدم في اقامة مركز للتسوق أو متحف تعلوه شقق فاخرة. وقالت بتول تانباي الاستاذة بجامعة البوسفور وعضو منتدى تقسيم الذي شن حملة امتدت أكثر من عام لمشروع يستند الى تحقيق توافق "عندما لا يتم التشاور مع المواطنين حتى بشأن متنزه فان البلاد تصبح غير ديمقراطية." وقالت "هذا الامر تجاوز الان الانفاق والمتنزهات واصبح حركة ضخمة. يوجد قدر كبير من عدم الارتياح بين شريحة كبيرة من الناس." وتقسيم مجرد مشروع من مشروعات الانشاءات الحكومية التي تضم أكبر مطار في العالم وثالث جسر يتكلف ثلاثة مليارات دولار على البوسفور وقناة شحن تتكلف عشرة مليارات دولار ستحول نصف اسطنبول الى جزيرة. ويقول منتقدو أردوغان إن المشروعات الضخمة تشتت الاهتمام بقضايا أكثر الحاحا في الدولة التي يبلغ تعداد سكانها 76 مليون نسمة. وساحة تقسيم ذات طبيعة خاصة اذ بينما تجسد الساحات الاخرى في اسطنبول عظمة الامبراطورية العثمانية فان تقسيم تشيد بالافكار العلمانية للجمهورية التي تأسست في عام 1923 بعد انهيار هذه الامبراطورية. وكانت الساحة في وقت قريب موقعا لمذبحة عام 1977 لنحو 40 يساريا في عيد العمال. وقال أيوب موكو رئيس غرفة المهندسين المعماريين في مقابلة قبل الاحتجاجات "تقسيم ذات أهمية كبرى لدى الدوائر المختلفة... ان تهدم تقسيم دون أي توافق اجتماعي أمر يضر بمنطقة فضاء عامة مهمة ليس فقط لاسطنبول وانما لتركيا باسرها." وكانت الاحتفالات في ساحة تقسيم محظورة على مدى عقود عديدة الى ان سمح بها أردوغان مرة اخرى في عام 2010 ليتم اغلاق الساحة مرة اخرى في أول مايو ايار بسبب الانشاءات وهو ما أثار اسابيع من الاحتجاجات المحدودة التي تضخمت مثل كرة الثلج لتصبح اعمال شغب في مطلع الاسبوع. ومع اكتساب الاحتجاجات قوة دافعة بدا أردوغان عنيدا وتجاهل حكم محكمة مؤقت في اسطنبول صدر يوم الجمعة أوقف العمل في مشروع الثكنة العسكرية العتيقة فيما سعى القضاة الى الحصول على مزيد من اقوال الشهود. واستمر أردوغان على موقفه ليعلن هدم قاعة احتفالات تقسيم الشهيرة التي اقيمت تخليدا لذكرى مصطفى كمال اتاتورك مؤسس الجمهورية التركية الحديثة واقامة مسجد. وبدأت جهود بناء مسجد في ساحة تقسيم تطرح منذ 40 عاما على الاقل لكنها لم تكسب على الاطلاق تأييدا كافيا. وقال أردوغان "لا أحتاج للحصول على إذن من المعارضة ولا أحتاج اليه من حفنة لصوص. الناخبون منحوني بالفعل الاذن لهذا." وبناء مسجد في ساحة تقسيم لم يكن متصورا منذ عشر سنوات. وأبقى الجيش التركي الذي عين نفسه حارسا للعلمانية على حكومات مدنية لفترات قصيرة في السلطة وقام بثلاثة انقلابات وأجبر حكومة رابعة على الاستقالة. وبتأييد شعبي قامت حكومة أردوغان بكبح جماح الجيش خلال السنوات العشر الماضية وبصفة اساسية من خلال قضايا قانونية ادت الى سجن عشرات الضباط الكبار لادوارهم المزعومة في مؤامرات ضد أردوغان ومن سبقوه. وخلال معظم النصف الاول من ولايته في السلطة ركز أردوغان على الاصلاحات السياسية التي تستهدف دفع تركيا نحو المعايير السياسية للاتحاد الاوروبي. وحصل الاكراد على حقوقهم الثقافية وتمتعت الاقليات الدينية بمزيد من الحريات وتم توسيع نطاق الخطاب العام. ورغم الاضطرابات في الايام الاخيرة فان أردوغان لا يزال أكثر الساسة شعبية في تركيا ولا يوجد له منافسون واضحون سواء في الحزب الحاكم أو في المعارضة. وقال مصطفى أكيول مؤلف كتاب "إسلام بلا تطرف" ان "العلمانية التركية جامدة للغاية لدرجة لا تسمح بوئام في المجتمع حيث يوجد سكان ملتزمون بالدين." وقال "العلمانيون يخشون الان من ان أردوغان يريد تغيير الاوضاع لانه لا يواجه تحديات." ومنذ عام 2008 سجن الالاف من معارضي الحكومة في انحاء الطيف السياسي ومن بينهم طلبة جامعة وأكاديميون ومحامون وناشطون أكراد وضباط جيش وزعماء جماعات قومية متطرفة. وقال قدري جورسيل وهو كاتب عمود بصحيفة ميليت ورئيس اللجنة التركية بمعهد الصحافة الدولي "إن أي حكومة ليس لها معارضة تقيم توازنا ولا صحافة حرة تراقبها يمكن بسهولة ان تخرج عن نطاق السيطرة." وأضاف "التجربة التركية أجابت الان على سؤال بشأن ما اذا كان الاسلام المعتدل والديمقراطية متوافقان دون قيود وتوازنات." والتشريع الذي صدر في الشهر الماضي والذي يضع ضوابط على بيع المشروبات الكحولية يثير مخاوف بشأن المجالات الاخرى للحياة الخاصة التي قد تسعى الحكومة الى فرض قيود عليها خاصة وان أردوغان أقر بأن القانون مستمد من مباديء الاسلام. وربما لانه يدرك هذه المخاوف قال ان واجبه الدستوري هو حماية صحة الاتراك الشبان. وقال جورسيل ان هناك قضايا تبين ان الحكومة تعيد تشكيل تركيا. ومن بينها قضيتان للاساءة للدين تم تسليط الضوء عليهما وحكم في كل منهما على حدة على مؤلف موسيقي وكاتب بالسجن لتعليقات كتبت في موقع تويتر. وقال "تركيا لا تصبح مجرد دولة أكثر تدينا. تركيا يجري تحويلها الى دولة أكثر تدينا." وذكرت صحيفة حريت ان مظاهرة في العاصمة أنقرة الشهر الماضي تبادلت فيها مجموعة من 200 شخص القبلات للاحتجاج على حملة تروج للفضيلة انتهت باراقة الدماء عندما تعرضت لهجوم من مجموعة من الاسلاميين الذين يحملون السكاكين وطعنوا شخصا. وتحدث أردوغان بقدر أكبر من العلانية عن تربية جيل متدين. وكان خلال توليه منصب رئيس بلدية في التسعينات قد سجن لفترة قصيرة لانه قرأ قصيدة اعتبرت اسلامية. وحاول الحد من اقبال النساء على الاجهاض لتشجيع ظهور الاسر الاكبر عددا ورفع القيود على التعبير علانية عن الاتجاه الديني مثل ارتداء الحجاب الذي كان محظورا في وقت من الاوقات. وفي الاحتجاج الذي نظم يوم السبت قال مدين وهو طبيب عمره 30 عاما وصف نفسه بأنه مسلم ملتزم انه فقد ثقته في أردوغان على مر السنين. وقال وهو يمتنع عن ذكر اسمه بالكامل خوفا من أي اجراء انتقامي في العمل "انني أؤدي الصلاة وأصوم وفكرت في التصويت لصالح أردوغان في الماضي لانني اعتقدت انه سيساعد المقهورين..." وأضاف "لكن الان بعد ان تولى السلطة أصبح أردوغان هو من يمارس القهر. انه يستغل مشاعرنا الدينية ليستفيد منها. لقد أصبح متعجرفا وهذه خطيئة."