فهد بن سليمان الشقيران - الشرق الأوسط تتآكل الشخصيات النضالية الأسطورية تباعا، ذلك أن زمن الأيقونات التي تقود الشعوب نضاليا ضمن المفاهيم المتعارف عليها في القرن العشرين مع صعود التيارات الشمولية قد انتهى بتسيد النمط الفردي المنسجم مع نظم الاقتصاد العالمي، وزمن العولمة وتساوي الرؤوس، وانفجار المعلومة وسيلانها من المكتبة إلى شبكات المعلومات، بالإضافة إلى تحوّل المجتمعات إلى جحافل تعيش في الواقع الافتراضي، كل تلك العوامل ساهمت في تآكل الأساطير الكبرى النضالية وانتهائها كليا، ورحيل نيلسون مانديلا الذي كان له دور في محاربة العنصرية، وأدوار أخرى في أفريقيا والعمل الإنساني إنما يعجّل بنضج هذه الفكرة التي قيلت مع انتهاء القرن العشرين، حين يكون مركز الإنسان ليس قائده وصنمه ومعبوده، وإنما ظلّه.. وربما أشبع رغبته في صنع أسطورته ليجدها في اللاعب الرياضي المبدع، أو الفنانين والفنانات في عالم السينما والغناء. أخذت شخصية مانديلا بعدا نضاليا إلى درجة جعلت منه مرجعا في عالم الإصرار على السجن، أو التعلق بمبادئ الحزب أو التيار، بسبب من سجنه الذي ناهز الربع قرن وأزيد. جعل من مذكراته: «رحلتي الطويلة من أجل الحرية» رفيقا للمناضلين بل وللحركيين من الأصوليين والشموليين، حتى إن هذه المذكرات انتشرت وبكثافة في أوساط الأصوليين الإسلاميين في الخليج والعالم باعتبارها قصة ضخمة لشخص لم يبع مبادئ حزبه وأصر على الوصول إلى النهاية، وبخاصة أن الخاتمة في مسيرة نضال مانديلا تعجب الأصوليين إذ انتهت بالخروج من السجن إلى «العرش». مانديلا ليس المهاتما غاندي، هو شخصية سياسية لها إيجابياتها وسلبياتها، أبدع في موضوع مقاومة العنصرية ضد السود، ومن ثم انتقل لمنازعة إسرائيل على المواقف ضد الفلسطينيين، وتدخل لإنهاء أكثر من نزاع، ورأى فيه بيل كلينتون «قديسا» واعتبره مثالا له، ولهذا يمكن اعتباره من الشخصيات السياسية الإشكالية التي يجب أن تناقش مواقفها بهدوء بعيدا عن منطق الحق المطلق، والتقديس التام، ثمة علامات سلبية في تاريخه النضالي، بالإضافة إلى المشروعية الأخلاقية لمطالبه فيما يتعلق بالعنصرية. غير أنه مارس الأسلوب المتشدد بمساهمته مع الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا لتأسيس منظمة «أومكونتو وي سيزوي». بانتهاء مسيرة مانديلا نتذكر السحر الآسر الذي أسست له سيرته الذاتية، إلى درجة جعلت الكثير من الأصوليين ينظرون إليه على أنه متكامل لولا أنه لم يُسلم، فأرسل إليه بعضهم طالبا منه المبادرة في الدخول إلى الدين. سيرة السجن التي كتبها أججت الكثير من أحلام الآيديولوجيات في المنطقة، وصل البعض إلى محاولته لأن يحاكي أسلوب مانديلا في السيرة الذاتية فبدا مضحكا في سيرته الذاتية وهي سيرة السجن ضمن تيار الأصولية، لا ضمن المطالبة بالحقوق المشروعة كما يدّعون. وبطبيعة حال النضال التي التصقت بسيرة مانديلا فقد وقف حتى مع بعض القضايا الخاسرة، فهو يدعم أحيانا بعض القضايا لا لمشروعيتها وإنما لضعف أصحابها. من هنا تكوّنت الشعبية العارمة له في مجاهل أفريقيا والشرق الأوسط وقطاعات كثيرة من المجاميع الحقوقية، وأولع به أهل الهتافات من اليساريين ومن لفّ لفيفهم من الحركيين في أنحاء الأرض. على الرغم من قوة مواقف مانديلا الداعمة لمواضيع الحرية والحق بالعيش الكريم للمجتمعات العربية ومن بينها الشعب الفلسطيني، غير أن هذا التأييد لم يأت ضمن رؤية «لاعنفية» كما يظن البعض، فهو يؤيد حركة حماس وغيرها من جماعات النضال، وعليه فإن المشكلة تكمن في توصيف مواقفه وتحليلها، فهو ليس «غاندي» أفريقيا، غير أنه مناضل شرس عنيد، أراد أن يحقق ما يريد ولو بالسجن والقوة أحيانا. وهذا ليس على سبيل النقد أو الانتقاص بقدر ما نضعه على طاولة التشريح والمساءلة لئلا تخلط المواقف أو الانتماءات. ولى زمن المناضلين الأساطير، وأصبحنا أمام عالم لا تحكمه الخطب والضجيج، وإنما تحكمه السياسات والاستراتيجيات والمصالح والصفقات والتفاوضات. لم يعد هذا الزمن ملائما لمنطق الشعارات حول الكرامة والزعامة والهزيمة، بل أمام زمن «التواصل» وأعراف «التفاوض» والقوة لا تحل المشكلات وإنما تزيدها تعقيدا. والكثير من القضايا كان يمكن أن تحل بالتفاوض لو أنها عولجت به كمنهج حداثي عالمي يأتي في سياق مستجدات هذا القرن الذي لن يتيح بطبيعة نظامه انتصار الميليشيا والشمولية والزعامات النضالية التي لا تجيد رسم الخطط وتعميم الحوار، نعم الحوار مع أي عدو مهما كانت خطورته. برحيل مانديلا نودع آخر الزعامات النضالية الكبرى، وتختم صفحة من نمط شارف على التآكل، وصفحة انطوت وذوت. عاش مثيرا للجدل في كل تفاصيله، واستحق هو بكاريزماه كل هذا الجدل الكبير.