في السادس من حزيران (يونيو) عام 2006 أسقط الكونغرس الأميركي صفة إرهابي عن الزعيم الراحل نيلسون مانديلا، بعد 15 عاماً من حصوله على جائزة نوبل للسلام. المزاج اليميني في الغرب لا يؤمن بمانديلا زعيماً مناضلاً سلمياً لأجل حرية بلاده. زعيم الحزب القومي البريطاني نيك كليف أثار الرأي العام البريطاني قبل أشهر، بعد مرض مانديلا ونقله للمستشفى، كتب كليف حينها سلسلة تغريدات في «تويتر» عن نيلسون مانديلا قال في أحدها: «إن القديس مانديلا في آخر أيامه، تجنبوا قناة بي بي سي حينما تنعق بتأبين الإرهابي العجوز، ستكون مقززة». وفي تغريدة أخرى كتب كليف: «إن رجال الدول يجب أن يقيموا بنتائج أفعالهم لا بخطبهم. قبل مانديلا كانت جنوب أفريقيا تعيش اقتصاداً آمنا، أما الآن فالجرائم تعصف بها». حديث كليف عن مانديلا لم يكن جديداً في بريطانيا. في منتصف الثمانينات قال عضو البرلمان البريطاني تيدي تيلور «يجب أن يقتل نيلسون مانديلا». وفي ذات العام وصف عضو البرلمان البريطاني تيري ديكس الزعيم الجنوب أفريقي حينها ب «الإرهابي الأسود». في عام 1990 رفض مانديلا مقابلة المرأة الحديدة رئيسة الوزراء الراحلة مارغريت ثاتشر آنذاك خلال زيارة مانديلا للندن، لكن البي بي سي بثت حفلاً لمانديلا، مادفع النائب عن حزب المحافظين في البرلمان قوله: «يبدو أن بي بي سي جنت. يبدو أنها انضمت إلى تلك الجوقة التي تود تحويل شخصية مانديلا إلى شخصية معظمة تشبه المسيح». حين أعلنت وفات مانديلا في بريطانيا امتلأت الصحف بالحديث عنه كما صفحات الشبكات الاجتماعية. كما كان متوقعاً، فإن عشرات التغريدات في «تويتر» والتعليقات في الصحف استغربت الاحتفاء بمانديلا واعتباره رمزاً للنضال السلمي، بل إن العديد منها استغربت كتابة رمز RIP الذي يختصر عبارة «أرقد بسلام» بجانب اسمه. لم يكن أولئك البرلمانيون بدعاً من الناس ولا أولئك المشاركين في الشبكات الاجتماعية، كانو يمثلون حقبة واعتقاداً لا يزال يجري بين بعض البريطانيين خصوصاً، أن مانديلا ليس سوى إرهابي مؤمن بالعنف سبيلاً للكفاح، رغم تعظيم الحكومة البريطانية له واستقبال الملك له سابقاً، ونصب تمثال له في العاصمة البريطانية لندن فهل كان مانديلا كذلك؟ قبل ولادة مانديلا بستة أعوام، وتحديداً عام 1912 تكوّن المؤتمر الوطني الأفريقي ANC الذي يهدف إلى جمع الأفارقة معاً كشعب واحد للدفاع عن حقوقهم وحرياتهم، وانضم إليه الشاب روليهلاهلا مانديلا الذي يعني اسمه باللغة المحلية «صانع المشاكل» عام 1943. في عام 1948 تولى سكرتارية الحزب، ليصل بعد ذلك إلى رئاسة الحزب عام 1991 التي أوصلته لرئاسة دولة جنوب أفريقيا لاحقاً خلال الفترة مابين 1994 و 1999. بدأ مانديلا حياته النضالية بالدعوة إلى أخذ حقوق الأفارقة من حكومة نظام الفصل العنصري بالطرق السلمية. لكنه أسس لاحقاً الذراع العسكري للمؤتمر الوطني الأفريقي، المسمى Umkhonto we Sizwe ويرمز إليه اختصاراً باللغة الانكليزية MK عام 1961. وتعتبر الفترة مابين 1976 و 1978 ذورة نشاط الذراع العسكري، حين كثف الحزب هجماته «التخريبية»، بحسب وصف الحزب نفسه، على سكك القطار ومقرات الشرطة، نتيجة قيام الشرطة بقتل أكثر من ألف طفل في منطقة سويتو، ما أطلق عليها لاحقاً مفرزة 16 حزيران (يونيو). وحينها كان مانديلا يقضى عقوبة السجن مدى الحياة في جزيرة روبن. حتى وقت متأخر لم يحظ المؤتمر الوطني الأفريقي الذي يشكل تهديداً للحكومة العنصرية في جنوب أفريقا، برضى عالمي. في عام 19987 قالت رئيس الوزراء البريطانية آنذاك مارغريت ثاتشر: «إن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي هو منظمة إرهابية نموذجية. إن أي شخص يعتقد أن هذا الحزب يمكنه قيادة الحكومة في جنوب أفريقيا فهو يعيش في جزر الوقواق». لكن رئيس الحزب تولى لاحقاً رئاسة الحكومة وفاز بجائزة نوبل للسلام، وعين رئيسه أميناً عاماً لحركة عدم الانحياز في عام 1998. في سيرته الذاتية التي نشرها في كتاب بعنوان مسيرة طويلة نحو الحرية، يؤمن مانديلا بتعريف آخر للنضال السلمي يختلف ربما عن ما أشيع عنه. في أحد نصوص السيرة الذاتية يقول مانديلا: «الحكومة والشرطة كانت قد اتخذت التدابية لمنع اي اجتماع سلمي وتجريمه، وكانت الامور تسير تجاه حكم بوليسي. وبدأت أرى أن الاحتجاجات القانونية ستصبح مستحيلة في الوقت القريب فإن المقاومة السلمية تكون فعالة إذا تمسك من تقاومهم بنفس القوانين التي تتمسك بها أنت وإلا فلا فاعلية لها. وبالنسبة لي كان عدم العنف استراتيجية فقط ولم يكن مبدأً أخلاقيا. فلا يوجد خيار أخلاقي في استعمال سلاح غير فعال». و بعبارة أكثر صراحة يقول مانديلا: «إن 50 عاماً من عدم العنف من جانب المؤتمر لم ينتج عنها سوى القوانين الظالمة والاستغلال والاضطهاد للأفارقة، وهكذا بدت السياسة التي تهدف إلى إقامة الدولة غير العنصرية عن طريق عدم العنف غير مجدية». ويوكد في موضع آخر هذا الإيمان بقوله: «المناضل من أجل الحرية يتعلم بطريقة صعبة أن الظالم هو من يحدد طريقة الصراع، والمظلوم غالباً مايترك دون خيار سوى استخدام الأساليب التي يستخدمها الظالم. عند نقطة معينة لا يمكن للمرء إلا محاربة النار بالنار». عبارات التأبين في العالم الغربي التي صدرت فور وفاة مانديلا لم تتحدث كثيراً عن كونه مناضلاً سلمياً كما يشاع دائماً. إحدى عبارات التأبين جاءت سريعاً من الرئيس الأميركي باراك أوباما قال فيها عن مانديلا: «كان رمزاً للنضال من أجل العدالة والمساواة والكرامة في جنوب أفريقيا وجميع أنحاء العالم». الزعماء البريطانيون أشاروا جميعاً إلى شجاعته واعتباره رمزاً عالمياً، دون وصفه بالمناضل السلمي. «لقد انطفأ ضوء عظيم من هذا العالم، لقد كان نيلسون مانديلا بطل زماننا» هكذا كان وصف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون لشخصية مانديلا. أما زعيم حزب العمال إد ميليباند فقال: «لقد خسرنا بطل عصرنا»