محمد المهنا ابا الخيل - الجزيرة السعودية صدرت ميزانية الدولة للعام المالي الجديد تحمل خيراً عميماً إن شاء الله، وتزيد في ارقامها عن العام الماضي بفارق كبير. أذكر أنني في العام الماضي عبرت عن بعض القلق من ازدياد أعباء الدولة المالية واعتمادها شبه الكلي على واردات النفط، في حال ضعف الموارد الأخرى واعتماد الاقتصاد برمته على ما تصرفه الدولة، هذا القلق يتجدد كل عام وإن كنا نشارك خادم الحرمين -حفظه الله- تفاؤله حين قال «الخير واجد الحمد لله واللي بالأرض أكثر»، إلا أن هذا لا يمنعنا من الوقوف والتفكير في واقعنا ومستقبلنا ومستقبل أبنائنا، هذا المقال دعوة للتفكير فيما يجب أن نفعل حتى نبني حضارة منتجة تكرم أهلها فوق أرض أكرمتنا بفضل الله. «دوام الحال من المحال» كلام تردده الناس كل يوم، ومع ذلك لا تستسيغه بعض العقول، فعند صدور الميزانية، تتفاوت الناس في ردودها، ومعظمها تطالب بمزيد من العبء على الدولة، فهذا يريد من الدولة منزل والآخر يريدها أن تسدد ديونه وذاك يريد زيادة مرتبه، هذا إلى مطالب أخرى لتحسين الخدمات القائمة، هذه المطالب وإن كانت مشروعة، وشعبنا يستحق أكثر، إلا أنها تعبر عن اتكالية مقلقة، فالشعب يتكاثر وتتكاثر مطالبه، ولا تتغير سماته، فما زال الناتج المحلي من النشاطات الاقتصادية غير الريعية ضعيفاً مقارنة في أي مجتمع آخر يخضع لعملية تغذية مالية حكومية متزايدة، وهذا الضعف في نظري هو ضعف هيكلي في البنية الاجتماعية، لن يتغير ما لم يصاغ لتغييره استراتيجية متكاملة، ترتكز على تغيير سمات المجتمع ليصبح أكثر مسؤولية تجاه واقعه ومستقبله، ويصبح مجتمعاً منتجاً أكثر من كونه مستهلكاً. منذ بداية الخطة التنموية الخمسية السادسة وما تلاها من خطط، والحديث عن تنمية الموارد البشرية يأخذ صفة محورية فيها، وتم وضع برامج ورصد أموال للتدريب والتهيئة وافتتح جامعات جديدة ووسعت الجامعات القائمة، وأطلق خادم الحرمين الشريفين برنامج الابتعاث الجبار. ولكن كل هذا الجهد لم يبرز تنمية للموارد البشرية تتناسب مع الطموح أو المفترض، والسبب في نظري أن هناك جانباً مهماً ومركزياً في تنمية الموارد البشرية أهمل، ولم يرصد له أي مبلغ ولم يبذل فيه أي جهد، هذا الجانب هو أحد أهم عناصر التنمية البشرية في أي نظرية تنمية للموارد البشرية، ويشار له بمصطلح «paradigm» وقد اختلف في تعريبه، فمنهم من جعله مجمل المشاعر والمعتقدات حول شأن محيط والبعض سماه ببساطة «النمط الإدراكي» وسماه صاحب نظرية (المؤسسة المتعلمة) بيتر سنجي «Mental Models» «الأنماط الذهني» وهذا ببساطة هو لب محرك الإنسان العقلي تجاه محيطه وتحقيق طموحاته مستغلاً ما يوفره له الواقع من إسناد وفرص. النمط الإدراكي السائد في مجتمعنا ليس مناسباً لبناء مجتمع منتج، فمجتمعنا ما زال مجتمعاً اتكالياً يؤمن بالريعية ومأسور بحجة القدر التي يجعلها سائدة على كل خياراته، ومعظم أفراده يسعى للاعتماد على مورد سهل كوظيفة حكومية أو إيجار عقار أو غيرها. هذا النمط الإدراكي لا بد أن يتغير ليحل محله نمط يقوم على المسؤولية الذاتية تجاه تحسين المعيشة، وتغيير النمط الإدراكي لا يحدث في فترة وجيزة ولا يحدث دون برنامج شامل ومكلف، تشترك فيه عدة جهات، وربما يجب أن يكون له جهاز مركزي يتولى توجيه الجهود ورسم الاستراتيجية. أن تغير النمط الإدراكي لمجتمع كبير ومتنوع كالمجتمع السعودي يستلزم جهوداً استثنائية وسيواجه مقاومة قد تكون شديدة من بعض الفئات التي لا تعي خطورة التحدي الذي سيواجه مستقبل المجتمع، لذا لا بد أن يشمل التغيير هؤلاء أيضا بحيث يتم تحييد تأثيرهم والعمل على إيجاد وسيلة لإشراكهم بصورة تساهم في التغيير المراد.